الدين والسُّلطة.. القرضاوي ضدّ الشيخ القرضاوي

الدين والسُّلطة.. القرضاوي ضدّ الشيخ القرضاوي
أحمد المسلماني* – أساس ميديا-الأربعاء 05 تشرين الأول 2022

 

رحم الله الشيخ القرضاوي وغفر له. لقد أطاح في عشر سنوات بما بناه في خمسين عاماً. طغتْ السياسة على الفضيلة، واستعلتْ السلطة على مكارم الحوار.

السنوات الأخيرة من حياة الشيخ القرضاوي قوضت العقود السابقة من حياته، كأَنَّ الشيخ يمضي وراء سيرته بماسِحةٍ تُزيل ما سبق له من علمٍ وفَضْل.

 

ثلاثة كتب مهمّة

كان الشيخ أحد عناوين الوسطيّة والاعتدال. وكان الكثير من مؤلّفاته شديد الجدّيّة وعالي القيمة. لم تكن وسطيّة القرضاوي من نوع “الوسطية السطحية” التي تشبه حملة العلاقات العامّة لمرشّحي التيّار الديني، بل كانت “وسطية رصينة” تنهض على معرفة واسعة وعلم راسخ.

لكنّ الشيخ مضى ضدّ نفسه، ينسخ ماضيه المضيء ويأتي على سيرته المشرقة. بات الشيخ عدوّاً لنفسه، وعدوّاً لوطنه، وعبئاً على الأمّة.

لقد قرأت باهتمام واحترام ما كتبه من قبل في كتابه “الحلال والحرام في الإسلام”، ثمّ قرأت كتابه “الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرّف”، وأعدت قراءة كتابه الرائع “تاريخنا المفترى عليه”.

ولقد تأمّلت كثيراً ما قاله الشيخ في السنوات الأخيرة، وما كان يقوله في كتابه “تاريخنا المفترى عليه”، وأدركت أنّه أهالَ التراب على كثير ممّا كتب.

نقد المودودي

كان القرضاوي صامداً ضدّ الغلوّ والتطرّف، واشتبك مع كتابات أبي الأعلى المودودي وسيّد قطب بلا تردّد أو خوف. انتقد بصريح القول أكذوبة الجاهليّة التي روّج لها المتشدّدون لينالوا من المجتمعات المسلمة التي لم تذهب وراء تطرّفهم وانفلاتهم.

لقد كان رأي أبي الأعلى المودودي، مثلاً، أنّ التاريخ الإسلامي بكامله هو تاريخ جاهلي، وأنّ الجاهلية بدأت في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفّان. يقول الشيخ القرضاوي في كتابه “تاريخنا المفترى عليه” صفحة 47 وما بعدها: “تناول أبو الأعلى المودودي بعض الصحابة بما لا يليق بصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثل الخليفة الثالث عثمان بن عفّان. وقد أثبت رأيه هذا في كتابه “الحكومة الإسلامية”. انظُر كيف حَكَم على الإسلام بالارتكاس في الجاهليّة مبكراً، منذ عهد الصحابة والتابعين والأتباع. وانظر كيف تضمّن هذا الكلام الظلم الكبير للحضارة الإسلامية كلّها ووصفها بالجاهلية. لقد وجّه المودودي ضربة قاضية إلى الحضارة التي نسمّيها “إسلامية” في قرطبة وبغداد ودمشق ودلهي والقاهرة. وقَطَعَ أيّ صلة لها بالإسلام”.

ثمّ مضى الشيخ القرضاوي إلى سيّد قطب ناقداً: “عندما تحدّث سيّد قطب عن سيّدنا عثمان بن عفّان قَسَا عليه كثيراً”، و”إنّ كلام المودودي أنّ الإسلام لم يطبّق إلا في عصر الخلفاء الراشدين فقط، وأنّ كلّ ما بعد ذلك مُلك عَضود.. هو قول غير صحيح”.

 

ما بعد الإخوان

لكنّ الشيخ القرضاوي الذي قال ذلك قبل سنوات عاد بعد الثورة المصرية 2013 مهاجماً الشعب والجيش، ومصوّراً الأمر وكأنّ فترة الرئيس السابق محمد مرسي هي الفترة الراشدة، وأنّ كلّ ما قبلها وما بعدها ملكٌ عَضود.

وحين تحدّث البعض عن ضرورة الحوار من أجل المصالحة، قال القرضاوي: “الحوار مع من؟ ولماذا؟ المطلوب الآن إعادة الرجل الذي تمّت مبايعته إلى منصبه”. لقد صوّرَ القرضاوي للمسلمين أنّه يبكي على سقوط الإسلام، لكنّه في واقع الأمر كان يبكي على سقوط الإخوان.

القرضاوي السابق عكسُ القرضاوي اللاحق في شأن الأخلاق والسياسة في الإسلام. يقول في كتابه نفسه “تاريخنا المفترى عليه” في صفحة 152 وما بعدها: “ربط المسلمون السياسة بالأخلاق. فلم يعرفوا في تاريخهم نظريّة الغاية تبرّر الوسيلة، والوصول إلى الحقّ بطريق الباطل، وارتكاب الموبقات لتحقيق هدف نبيل في نظر صاحبه، بل لا بدّ من الغاية الشريفة والوسيلة النظيفة. فلا يجوز بحال استباحة الدماء المحظورة من أجل عمل يراه صاحبه خيراً أو طيّباً، فَمَثَلُهُ كمثل من يأكل الربا أو يقبل الرشوة ليبني مسجداً”.

 

القرضاوي الميكيافيللي

اختفى القرضاوي الأخلاقي لصالح القرضاوي الميكيافيللي، فأفتى أثناء حملة الرئيس الأسبق محمد مرسي بأنّه يجوز للمواطن أن يأخذ الرشوة الانتخابية، وأن يقسم بالله كذباً أو بالطلاق كذباً من أجل الحصول على الرشوة والمال. وهذا ما كان سبباً في صدمة محبّيه ومؤيّديه. والقرضاوي الميكيافيللي هو مَن دعا من على منبر مسجد عمر بن الخطّاب في الدوحة الولايات المتحدة إلى ضرب سوريا، وقال لإسرائيل: لا تخافي. إنّكم تظنّون أنّنا سننتهي من الجهاد في سوريا، ونستدير لنكمل الجهاد ضدّ إسرائيل. من قال لكم هذا. لن نفعل ذلك.

ثمّ أكمل رسالته بالهجوم على الجيش المصري والدعوة إلى هزيمته، فطلب من الجنود المصريين ألا يتبعوا قيادات الجيش الظالمين، ودعا المسلمين إلى الجهاد في أرض مصر ضدّ جيشها، ثمّ ناشد المجتمع الدولي الوقوف ضدّ الجيش المصري. وطالب بالنزول إلى الشارع في ذكرى حرب تشرين الأول لإسقاط السلطة والجيش. وكان ذلك كلّه تالياً لتصريحه الشهير الذي أعطى فيه الجيش الإسرائيلي مكانة أخلاقية أعلى من الجيش المصري، حين قال: “إنّ الجيش الإسرائيلي أفضل من الجيش المصري في الإنسانية. الجيش الإسرائيلي لم يفعل بالفلسطينيين ما فعله الجيش المصري بالمصريّين”.

 

الرحمة مع الأعداء فقط

يقول القرضاوي السابق في كتابه “تاريخنا المفترى عليه”: “نهى الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهياً شديداً عن الضرر في الحرب، وعن التمثيل بجثث الأعداء، لأنّ المسلمين تحكمهم مُثُلُهُم وشريعتهم بخلاف غيرهم”. ولكنّ “القرضاوي اللاحق” رفض إدانة المجرمين الذين مثّلوا بجثث المسلمين في مذابح الإرهاب في مصر. وبَدَا الشيخ وكأنّه كان ينبّه إلى حرمة التمثيل بجثث الأعداء، أمّا التمثيل بجثث المسلمين فهو أمرٌ لا يُلفت الانتباه.

يقول القرضاوي السابق: “رفض الخليفة عثمان بن عفّان إراقة الدماء، ولو كان ذلك في نصرته والدفاع عنه، واعتصم الخليفة بالصبر، وأبَى أن تُسَلّ السيوف تأييداً له، وكرِه أن يلقى الله بدم أحدٍ في عنقه”. ونقل القرضاوي قول معبد الخزاعي للخليفة علي بن أبي طالب: أيّ منزلة وسعتك إذْ قُتِلَ عثمان ولم تنصره؟ قال: إنّ عثمان كان إماماً وإنّه نهى عن القتال، وقال من سلّ سيفه فليس منّي”.

ولكنّ القرضاوي اللاحق أصبح، برأي الكثيرين، مفتي الدماء. إنّه يدعم خطاب الرعب والفزع، والتهديد بقتل مليون أو ملايين في سبيل السلطة. إنّ القرضاوي الذي أفتى بقتل الحاكم في ثورات الربيع العربي، عاد وأفتى بقتل من يخرج على الحاكم في عهد الإخوان.

الشيخ الذي حدّثنا عن دعوة الخليفة الثالث إلى عدم إراقة قطرة دم واحدة، ردّاً على دماء عثمان بن عفّان، راح يدعو إلى بحور من الدماء، ردّاً على إسقاط محمد مرسي.

يقول القرضاوي السابق في الكتاب نفسه “تاريخنا المفترى عليه”: “الرحمة عنوان الرسالة المحمّديّة. ولقد انتشر الإسلام بفضائله وقوّته الذاتية وليس بخَيلٍ أو رِكاب”. ولكنّ القرضاوي اللاحق أصبح الغطاء لقتل رجال الجيش والشرطة وأبناء الشعب. لقد نَسِيَ الشيخ ما قاله عن انتشار الإسلام بفضائله وقوّته الذاتية، وأصبح هو الغطاء الفقهي لدعاة الـ”آر بي جي”، والصواريخ المحمولة، والسيّارات المفخّخة.

 

فتوى وصورة

أفتى الشيخ القرضاوي بكُفر الشيعة العلويّين، وقال إنّهم أكفَر من اليهود والنصارى. ولكنّه هو نفسه الذي يحفل موقع غوغل بصورٍ عديدة له وهو يصافح بشّار الأسد مبتسماً ومبتهجاً، ويجلس معه سعيداً وفخوراً على الرغم من أنّ بشّار الأسد لم يُغيِّر مذهبه، وكان حين لقائه بالشيخ شيعيّاً علويّاً ولا يزال.

ولو أنّ الشيخ لم يلتقِ بشّار واحتفظ بفتواه ضدّ الشيعة العلويين، أو أنّه اكتفى بالموقف السياسي ضدّ بشّار، من دون إصدار فتوى بشأن الفقه والعقيدة، لَما وقع في التناقض، لكنّ تغيُّر رأي الشيخ في الدين بتغيُّر رأيه في السياسة كان صادماً.

في ثورة 2011 اعتقد الشيخ القرضاوي أنّ الوقت قد حان للوصول إلى الهدف الكبير، إلى مشيخة الأزهر الشريف، فلم يكن حلم الرجل أن يصبح المرشد العامّ للجماعة، بل الإمام الأكبر شيخ الأزهر. في تلك الأثناء تمكّن الغرور من الشيخ في ميدان التحرير يوم نَسَبَ إليه ثورةً لم يُطلِقها، ثمّ إنّه اغترّ في الجامع الأزهر يوم ظهر منتشياً ومنتصراً لا عالماً ومفكّراً. ثمّ اغترّ بسلطة الإعلام وسطوة الحضور في الشرق والغرب، ففقد تمييزه المعتاد بين الصواب والخطأ.

 

الاختيار

أَمَا وقد أفضى الشيخ القرضاوي إلى ربّه، فإنّنا ندعو الله أن يعفو عنه ويغفر له، وندعو الباحثين والدارسين إلى الإفادة من اجتهاداته وآرائه المتميّزة في الاعتدال والوسطيّة، ونبذ ما كان منه في حقبة الثورة والسلطة، وغفوة السياسة والمجد.

يحتاج العالم الإسلامي إلى ما كان عليه القرضاوي الأوّل، لكنّ أعداء الأمّة يريدون القرضاوي الثاني. يريد المسلمون قرضاوي المعرفة والتيسير، ويريد الأعداء قرضاوي المؤامرة والدم.

إنّ رحيل الشيخ القرضاوي، رحمه الله، يفتح الباب أمام مريديه باتجاه طريقَيْن: القرضاوي السابق والقرضاوي اللاحق. إنّه الاختيار بين دعوة الحياة ودعوة الموت.

 

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

 

Exit mobile version