عون ينتقم من الطائف

 

خالد البوّاب -أساس ميديا

الرئيس ميشال عون في القصر الجمهوري بين محطّتين. بعد أسابيع قليلة يجب على رئيس الجمهورية أن يغادر القصر. يحتفظ بمعادلته وتوصيفه لنفسه بأنّه “الرئيس القويّ”. يغادر ولبنان في حالة تفكّك، فيما لا رؤية لإمكانية توحيده.

عون يرحل على خلاف صورته في العام 1990، عندما كان قويّاً لكن تمّ استضعافه بفعل توازنات داخلية وخارجية، فلم يكن أمامه سوى المنفى، بينما كانت تستعدّ الرعاية الإقليمية والدولية لإعادة توحيد لبنان وإطلاق حقبة سياسية جديدة فيه بعد الحرب الأهلية معطوفة على خطط للإعمار والإنقاذ الاقتصادي.

في التسعينيّات، حوّل عون هزيمته إلى انتصار، وضعفه إلى قوّة. أنتج حالة سياسية من عدمٍ بعد معارك عسكرية طاحنة. في آخر أيّامه بالقصر، يخوض عون الآن معركته الأخيرة بمعارك كثيرة، لكنّ معادلة القوّة لديه التي اتّسم بها منذ انتخابه رئيساً ستكون نتيجتها مزيداً من الضعف.

 

تاريخ يتكرر

في الشكل تتشابه الحقبة الحالية مع الظروف التي دفعت رئيس الجمهورية أمين الجميّل في العام 1988 إلى تكليف عون برئاسة الحكومة العسكرية، ابتداء من انعدام التوافق السياسي لانتخاب رئيس، فيما كانت صلاحيّات رئيس الجمهورية تسمح له بتكليف قائد الجيش بتشكيل الحكومة العسكرية. حتى الآن لا تبدو ظروف التوافق متوافّرة، مع فارق أن ليس لدى رئيس الجمهورية صلاحيّات لتكليف أيّ شخصية بإدارة المرحلة، فيما تؤول صلاحيّاته إلى الحكومة. وهذا ملفّ خلافيّ كبير بين عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ولا سيّما في ظلّ الصراع على تفسير الدستور وجواز أن تتسلّم حكومة تصريف الأعمال صلاحيّات رئاسة الجمهورية، إذ يعتبر عون أنّ هذا الأمر غير دستوري، فيما الرئيس نجيب ميقاتي يراه دستوريّاً.

تعود قصّة الخلاف إلى الجلسة الثلاثيّة التي عقدها الرؤساء الثلاثة في قصر بعبدا يوم عيد الجيش. تقول مصادر مطلعة لـ “أساس” أنّه في تلك الجلسة سُئل ميقاتي عن الحكومة، فاجاب  “لماذا تشكيل الحكومة الآن؟ وهل يعقل تشكيلها لمدّة شهرين فقط؟ الأفضل هو الذهاب إلى إجراء الانتخابات الرئاسية”. هنا تضيف مصادر بعبدا أنّ رئيس الجمهورية أيقن “مراوغة” رئيس الحكومة المكلف وسعيه للفت انتباه المجتمع الدولي حول الاستحقاق الرئاسي مع تولي حكومته لتصريف الاعمال صلاحيات الرئيس.

 

ميقاتي يدحض تسريبات عون

في المقابل، تنفي مصادر الرئيس المكلّف هذا الكلام وتقول إنّ “عون قال في أحد مجالسه إنّه لا داعي لتشكيل الحكومة، بل يجب التركيز على الاستحقاق الرئاسي”. وتضيف المصادر: “ربّما لا يريد عون تشكيل حكومة كي لا تتسلّم صلاحيّات الرئيس وحتى يبقى هناك خلاف دستوريّ على عدم جواز تسلّم حكومة تصريف الأعمال للصلاحيّات، والهدف وراء ذلك هو تحشيد جوّ مسيحيّ عارم يتمكّن من خلاله عون أن يفرض الشروط التي يريدها في الانتخابات الرئاسية”.

تجنّباً لهذا الصراع تستمرّ محاولات تشكيل الحكومة من قبل ريس مجلس النواب نبيه برّي وحزب الله. وتجد كلّ هذه الخلافات طريقاً إلى لحظة تولّي عون رئاسة الحكومة العسكرية في العام 1989، بعد إقرار اتفاق الطائف ورفضه الاعتراف به، وكذلك رفضه تسليم الرئاسة للرئيس رينيه معوّض، ورفضه تسليم صلاحيّاته لحكومة الرئيس سليم الحص، فوقع الانقسام وحُكِم لبنان من قبل حكومتين.

غادر ميشال عون القصر الجمهوري في العام 1990 إثر الهجوم العسكري السوري، ونتيجة معادلة استمدّت قوّتها من رعاية أميركية ـ عربية لحقبة ما بعد اتفاق الطائف الذي أصرّ عون طوال حياته السياسية على مهاجمته من المنفى وبعد عودته.

المفارقة، أنّه في العام 2016، انتُخب عون رئيساً للجمهورية بناء على دستور الطائف، وأقسم على الالتزام به، لكنّه ما لبث أن مارس كلّ أشكال الانقلاب عليه في ممارسة الصلاحيّات والحديث عن استعادة رئاسة الجمهورية لها، بالإضافة إلى قانون الانتخاب الذي تمّ التوصّل إليه ويعتبره خصوم عون أنّه منافٍ للطائف.

يتّهمه خصومه بأنّ جلّ ما قام به منذ انتخابه هو الانتقام من الطائف، وأنّه التقى مع حزب الله على هذا الهدف. وما يزال عون إلى اليوم يقول في أوساطه إنّه يريد محاسبة ومحاكمة أركان الطائف، والمقصود بهم “الحريرية السياسية” ونبيه برّي ووليد جنبلاط.

 

عون المُتقلب ومعاداته المستمرة للسعودية

يرتكز كلّ أداء عون قبل منفاه وبعده على مبدأ “أنا وبعدي الطوفان”، وفق ما يعتبر خصومه، إذ دخل في صراع مع الجميع مستنداً إلى تغذية الخطاب المسيحي والتحشيد بالارتكاز على هذه العصبيّة. دخل القصر الجمهوري متمتّعاً بدعم الجزء الأكبر من الشيعة، والسنّة، والمسيحيين، لكنّه يخرج حاليّاً بلا أيّ غطاء، حتى إنّ حزب الله أصبح ينتظر لحظة مغادرته لأنّه لم يعد قادراً على تحمّل التبعات. وبحسب ما تقول مصادر سياسية متابعة، لا يريد الحزب من عون البقاء في القصر بعد انتهاء ولايته لأنّ ذلك ستكون له تداعيات سلبية كبيرة ولن يكون أحد قادراً على تحمّلها.

عندما غادر عون القصر الجمهوري في العام 1990 كان على خصومة مع الأميركيين، فيما علاقته جيّدة بالفرنسيين. وكان في وضعيّة جيّدة ومتقدّمة مسيحياً وسنّياً، إذ إنّ السُنّة التفّوا حوله وقاتلوا إلى جانبه في الجيش، بينما كان على خصومة تصل إلى حدّ العداوة مع حزب الله. وهذا بخلاف الوضع اليوم، إذ إنّ حزب الله هو الوحيد الذي يقف إلى جانبه بينما القوى الأخرى كلّها ضدّه، حتى العلاقة مع الفرنسيين لم تعد كما كانت عليه سابقاً.

منذ وصوله إلى القصر الجمهوري، رفع شعار “التحالف المشرقيّ”، وهو خيار التوجّه شرقاً على حساب العلاقة مع الدول العربية والغرب. وعلى الرغم من أنّ أوّل زيارة رئاسية له كانت للسعودية إلا أنّه لم يخرج بأيّة نتائج إيجابية. هناك تشابه كبير بين موقفه في التسعينيّات وموقفه ما بعد انتخابه رئيساً. ففي العام 1990 أخذ خيار العراق والتحالف مع صدّام حسين ضدّ السعودية والغرب، وبعد عودته وانتخابه أخذ خياراً إلى جانب إيران ضدّ السعودية والغرب.

لدى رفعه شعار محاربة الجيش السوري وحافظ الأسد، حقّق التفافاً شعبياً حوله من طوائف متعدّدة. بينما في مرحلة العودة إلى الحياة السياسية، أنتج خطابه وممارسته السياسية انقساماً سياسياً وطائفياً بين اللبنانيين حول الشعارات والمشاريع. وفيما خرج إلى المنفى وسط خطة إقليمية دولية لرعاية لبنان اقتصادياً بعد انهياره، ها هو الانهيار يتجدّد في نهاية عهده من دون وجود أيّة رؤية واضحة للإنقاذ أو للحصول على مساعدات دولية، فيما تُصاب مؤسّسات الدولة بحالة انهيار شاملة وترتفع معدّلات الفقر. وكما كان خلافه كبيراً مع البطريركية المارونية والقوات اللبنانية في العام 1990، ها هو الوضع نفسه يتكرر اليوم.

المصرف المركزي طرف في الانقسام

نجح المصرف المركزي في العام 1990 بإدارة المعركة من خلال الوقوف على الحياد، وعدم التورّط، بينما أصبح اليوم جزءاً وشريكاً في الأزمة وعنصراً من عناصر الانقسام والخلافات. بخلاف واقع الجيش الذي كان حينها منقسماً على نفسه، فهو اليوم موحّد وتتحلّق حوله غالبية اللبنانيين ويحظى بثقة دولية وإقليمية، ذلك أنه المؤسسة الرسمية الوحيدة التي لا تزال تحافظ على شرعيّتها.

يترقّب اللبنانيون ظروف مغادرة عون القصر الجمهوري في 31 تشرين الأول المقبل، فيما يتساءل خصومه كيف سيكون واقع ما بعد مغادرته. وتنقسم الآراء بين من يعتبر أنّه سيخرج ضعيفاً وسيُصاب تيّاره بالترهّل والانقسامات، وبين من يرى أنّ الرجل سيكون قادراً على إعادة تشكيل صورة جديدة ترتكز على المظلوميّة ومحاتصرته داخلياً وخارجياً، وهذا سيعيد منح التيار أهدافاً جديدة للاستمرار من أجل مواجهة الإحباط و”المؤامرة”.

 

احتمالات ما بعد خروج عون

هناك ثلاثة احتمالات لمرحلة ما بعد خروج عون من القصر:

ـ الأوّل أن لا يتمّ الاتفاق على رئيس للجمهورية أو على تشكيل حكومة، فيدخل لبنان في صراع سياسي ودستوري بسبب رفض المسيحيين تولّي حكومة تصريف الأعمال للصلاحيّات الرئاسية، وهو ما سيؤدّي إلى تعزيز الانقسامات السياسية وانحلال المؤسّسات، وقد يدفع بالمسيحيين إلى الذهاب نحو خيارات مثل الفيدرالية أو تعزيز اللامركزية المالية والإدارية الموسّعة.

ـ الاحتمال الثاني فهو أن يتمّ الاتفاق على حكومة وتشكيلها لإدارة المرحلة وتمرير الوقت بانتظار نضوج ظروف داخلية وخارجية تنتج تسوية سياسية.

ـ أما الاحتمال الثالث فهو انتخاب رئيس للجمهورية في المهلة الدستورية، وهذا ما يبدو بعيد المنال.

إذا تحقّق الاحتمال الأوّل فسيكون لبنان مقبلاً على توتّرات سياسية كبيرة، خصوصاً في ظلّ المعلومات التي تتحدّث عن استعداد التيار الوطني الحرّ لتنظيم تظاهرات في الشارع للمطالبة بإسقاط منظومة الطائف، وهذا الوضع سيؤدّي إلى انقسامات كثيرة ودعوات إلى الفيدرالية، وقد يكون مناسباً للتيار ورئيسه لإحراج المسيحيين، بالإضافة إلى إحراج القوات اللبنانية وإجبارها على تقديم خطاب سياسي ذي سقف مرتفع مسيحياً.

أمّا إذا تحقّق الاحتمال الثاني وتمّ تشكيل حكومة، فلن تكون النتيجة إيجاد مقوّمات حلّ للأزمة، بل تمديدها على أن تتولّى الحكومة إدارة هذه الأزمة على وقع استمرار الانهيار والتوتّر السياسي.

وفي حال أصاب الاحتمال الثالث حظه، فحينئذٍ سيصبح التيار الوطني الحرّ في حالة ضعف شديد، وسيتشجّع بعض النواب على الخروج من “التكتّل العوني” وكذلك الخروج على طاعة باسيل المحاصَر سياسيّاً من المسيحيين والدرورز والسنة وجزء وازن من الشيعة.

يخرج عون من القصر، ومعه لبنان الذي نشأ ما بعد اتفاق الطائف وشارف على الانتهاء، وما على اللبنانيين إلا أن ينتظروا صيغة جديدة للنظام، ما يعني أنّ الرجل قد نجح بالانتقام من اتفاق الطائف بعد عقود من إقراره.

Exit mobile version