رام الله | قرّبت عمليات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلّة، خلال الساعات الـ48 الماضية، المشهد الفلسطيني من المواجهة الشاملة، مستعيدةً ذكريات انتفاضة الأقصى بكلّ تفاصيلها. إذ تَحوّلت حواجز جيش الاحتلال، والشوارع الالتفافية الاستيطانية، ومركبات المستوطنين وحافلاتهم، إلى أهداف لرصاص المقاومين على امتداد مساحة الضفة، فيما كانت حصّة الأسد لمحافظة نابلس التي شهدت قرابة 6 عمليات إطلاق نار، في ما أنبأ بمجمله بأن المستوطِنين الذين ذهبوا بعيداً في ممارساتهم العدوانية ضدّ الفلسطينيين، باتوا اليوم أقلّ أماناً، وهو الأمر الذي دفع قادتهم إلى المطالبة بشنّ عملية واسعة وسريعة، على غرار «السور الواقي». ونفّذ المقاوِمون، ما بين الأحد والإثنين، أكثر من 9 عمليات إطلاق نار، إلى جانب عملية طعن أصيب خلالها 5 مستوطنين، بينما قَتل جيش العدو شابَّين من مخيم الجلزون قرب رام الله وأصاب ثالثاً، بعد إطلاق النار على مركبتهم بزعْم نيّتهم تنفيذ عملية دهْس ضدّ جنوده.
ولعلّ المفارقة الأبرز التي رصدتها الكاميرات، تَمثّلت في خروج مسيرة للمستوطنين قرب مستوطنة «إيتمار» بعد تنفيذ عملية إطلاق نار في المكان، للمطالبة بتصعيد العملية العسكرية ضدّ الفلسطينيين، لتتعرّض المسيرة لإطلاق نار مرّة ثانية، ما أدّى إلى إصابة جندي إسرائيلي في قَدمه. وكان من بين المستهدَفين أيضاً، رئيس «المجلس الإقليمي للمستوطنات»، يوسي داغان، الذي ظهر في صورة تَداولها ناشطون من موقع العملية، وهو يحمل مسدّسه ويختبئ خلْف مركبة برفقة مجموعة من المستوطنين، بعدما كان يطالب خلال المسيرة بتنفيذ عملية «السور الواقي 2» سعياً لـ«استعادة الهدوء الأمني». واعتبر «رئيس مجلس المستوطنات» في الضفة (يشاع)، شلومو نئمان، بدوره، أن «المشكلة تكْمن في السياسة التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية الحالية»، لافتاً إلى أن «العمليات أصبحت شيئاً يومياً، والقيادة السياسية ووزارة الأمن قد أهْملتا أمْننا». وعنونت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، من جهتها، أن «المستوطِنين فقدوا الشعور بالأمان»، علماً أن استهداف هؤلاء لم يقتصر على عمليات إطلاق النار، بل شهدت العشرات من المدن والمواقع مواجهات عنيفة وعمليات إلقاء حجارة وزجاجات فارغة على حافلاتهم، بينما عزّزت قوات الاحتلال حواجزها العسكرية، وعمدت إلى احتجاز مركبات المواطنين، مُفسِحةً في المجال أمام المستوطِنين لمهاجمتها.

وتَصدّر المقاومون في نابلس، خلال الساعات الماضية، المشهد في الضفة، بعد أن اشتبكوا، صباح أمس، مع جنود العدو في أكثر من موقع داخل المدينة، واستهدفوا خصوصاً أولئك المتمركزين على حاجز بيت فوريك، الذي كان شهد صباح الأحد عملية إطلاق نار طالت مركبة وحافلة بالقرب منه، توازياً مع إلقاء عبوات متفجّرة محلّية الصُنع على حاجز الجلمة وحاجز دوتان العسكري قرب يعبد، فيما بدت لافتة قدرة المقاوِمين على تسجيل وتصوير معظم تلك العمليات. والظاهر أن الاشتباك الذي انفجر في شمال الضفة، بدأ يشتدّ في جنوبها أيضاً، حيث تَعرّضت مستوطنة «كريات أربع» لعملية إطلاق نار، وكذلك مستوطنة «غوش عتصيون»، وهو ما ضاعف مخاوف أجهزة الاحتلال الأمنية من اتّساع رقعة الهجمات وانتقالها إلى الداخل المحتلّ. وبحسب «الشاباك»، فقد نُفذّ 172 هجوماً في شهر آب في الضفة، منها 23 عملية إطلاق نار، بينما في أيلول سُجّلت 212 عملية، 34 منها إطلاق نار، أي بمعدّل عملية إطلاق نار واحدة على الأقلّ يومياً، على رغم تعزيز شرطة الاحتلال انتشارها في المدن العربية في الداخل والقدس والضفة.

وتبنّت مجموعات «عرين الأسود» في نابلس، الأحد، مجموعة من العمليات، متعهّدةً بحرمان المستوطِنين التجوّل وإغلاق المستوطنات ومنْع اقتحام قبر يوسف في «الأعياد اليهودية»، مؤكدة أن «كلّ هدف ثابت أو متحرّك يتنفّس هو هدف لبنادقنا وعبواتنا الناسفة، بل أبعد من ذلك هو هدف لمفاجآتنا». وبدأت عمليات المقاومة التي تستهدف المستوطِنين تؤتي أُكُلها بالفعل؛ فإلى جانب أنها أفْقدتهم الأمان الذي عاشوه طيلة السنوات الماضية، فهي جعلتْهم اليوم غير قادرين على التنقّل بحرية، الأمر الذي بات يتهدّد عمل شركات الحافلات التي تقلّهم. ووافقت لجنة المالية في «الكنيست» على تخصيص 15 مليون شيكل كميزانية لحماية الحافلات، علماً أن الشركات المالكة للأخيرة كانت هدّدت بوقْف رحلاتها من وإلى المستوطنات المقامَة في الضفة، وخاصة في منطقتَي بيت لحم والخليل، بسبب عدم تحصينها ضدّ إطلاق النار والحجارة.
وفي ظلّ هذا الواقع، تبدو الخيارات الإسرائيلية محدودة، بل تكاد تكون محصورةً بين اثنَين: إمّا عملية عسكرية واسعة؛ أو الاستمرار في تنفيذ عمليات مركّزة، مع تكثيف الضغط على السلطة الفلسطينية من أجل القيام ببعض المهمات والعمليات في محاربة المقاومين، وملاحقة علاقاتهم المالية والعسكرية. لكن حتى هذا الخيار الأخير يَظهر غير مضمون النتائج، إذ نبّه «مراقب الدولة» في إسرائيل، الأحد، إلى أن الجيش الإسرائيلي «غير مستعدّ لوجستياً» لمواصلة الاعتقالات التي بدأت في وقت سابق من العام الجاري في الضفة، لافتاً إلى أن «جنود الاحتياط الذين يخدمون في مركز «ياكير» العسكري في وسط الضفة، يفتقرون إلى المعدّات الأساسية»، وأن «المجنّدين الذين يتلقّون تدريبات في مركز التدريب في لواء كفير يعانون من ظروف معيشية سيّئة». وانطلاقاً من ذلك، هدّد رئيس «مجلس يشع» الاستيطاني، في اجتماع مع وزير الحرب بيني غانتس، بإطلاق يد المستوطِنين، قائلاً: «إذا لم يكن الجيش الإسرائيلي على الأرض، ولم تطلِق الحكومة يد الجيش، فسنكون نحن هناك لحماية السكّان».

ويَلفت المختصّ بالشأن العبري، عصمت منصور، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «التصعيد الإسرائيلي ذو وجهَين: أوّلهما يقوده المستوطنون سواءً على الأرض بارتكاب المزيد من الجرائم والاعتداءات أو من خلال الضغط على الجيش أو المؤسّسة الأمنية لاتّخاذ المزيد من الإجراءات الأمنية؛ وثانيهما تصعيد رسمي عسكري من خلال الاقتحامات والاعتقالات وعمليات القتل والسماح باقتحام الأقصى وانتهاك المقدسات ونشر الحواجز، وهذه سياسة تدْفع الأوضاع إلى مزيد من الانفجار». ويرى منصور أن «الأوضاع الأمنية الحالية ستستمرّ، بل وستزداد سخونة في الفترة المقبلة، بالنظر إلى أن اقتراب الانتخابات الإسرائيلية واهتمام القادة السياسيين بالإبقاء على حظوظهم في الفوز، يمنعانهم من اتّخاذ أيّ خطوة لتهدئة الأمور، حتى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، تَجنّب الردّ على اتّصال الرئيس محمود عباس الذي سعى إلى ذلك قبل أيام». ويَعتبر أن «عدم قيام الاحتلال بأيّ خطوة لتهدئة الأمور، وانصياعه للمستوطِنين واستفزازاتهم ودعواتهم إلى التصعيد، يُعدّ عملياً وصْفة للانفجار، وهذا أمر وارد»، مُذكّراً بأن «المستوطِنين عاشوا سابقاً في الانتفاضة الثانية فقدان الأمان على شوارع الضفة، لكنهم يعتقدون أنه إذا رفعوا من وتيرة التصعيد فقد يحصلوا على الأمان، لكن هذا الأمر يرتدّ عليهم بشكل عكْسي، حيث كلّ ممارساتهم تُحرّك الرغبة في التصدّي والمقاومة». ويشير إلى أن «أكبر الهواجس التي تُواجه المؤسّسة الأمنية، هو امتداد ظاهرة المقاومة والخلايا المسلّحة، وأن تَفقد السلطة سيطرتها على مناطق أوسع في الضفة، وهذا سوف يستنزف الإسرائيليين ويدفعهم إلى مواجهة مباشرة وواسعة، بما يعيد الأمور إلى ما كانت عليه في بداية الانتفاضة الثانية».