صالة دائمة للسينما والمسرح: أملٌ “جنوبي” في صحراء الألم الطرابلسي..

 

سامر زريق -أساس ميديا

غالباً ما تُلازم اسم مدينة طرابلس صفات سلبية قاسية وظالمة، ما خلا لحظة 17 تشرين 2019، حينما عاندت ثاني أكبر مدينة في لبنان ما حيك لها وأُسقط عليها من تسميات بدءاً من “قندهار” و”تورا بورا”، مروراً بمدينة المحاور القتاليّة وخطوط التماس الطائفيّة، وصولاً إلى “داعش”، وأخيراً مدينة المهاجرين الانتحاريّين عبر المتوسّط، وغيرها من المسمّيات التي أُغدقت على الفيحاء.

على الرغم من هذا كلّه، هناك دائماً من يأبى هذا التنميط ويعمل على كسره، والأجمل أنْ يكون من خارج نسيج المدينة الاجتماعي. ففيما يبحث أهل المدينة عن بصيص ضوء في سواد الأزمات المتلاحقة، ولا سيّما أزمة الأسودين: الكهرباء والماء، منح الفنّان الجنوبي قاسم اسطنبولي الطرابلسيّين فسحة من الأمل كانوا بأمسّ الحاجة إليها. فكانت ولادة “المسرح الوطني اللبناني” المجّانيّ في طرابلس. وهي فكرة حالمة وربّما قد تبدو مجنونة بعض الشي في هذه الظروف. لكن اسطنبولي حوّل الفكرة إلى حقيقة بدأها في مدينة صور، ثمّ نقلها إلى طرابلس، من أجل ثقافة لامركزية، ولكسر الجدران بين المناطق.

الفنّ في المناطق المهمّشة

قاسم اسطنبولي ممثّل ومخرج، حصل على الماجستير في الإخراج عام 2014. وهي السنة التي أسّس فيها “مسرح اسطنبولي” في صور. وهو مسرح صغير يطلق عليه اسم “مسرح الغرفة”. وأسّس أيضاً في السنة عينها “محترَف تيرو للفنون” بهدف تقديم تدريب مجّانيّ في مجال المسرح والسينما والتصوير والرسم، من أجل تعزيز القدرات والمهارات الفنّية لدى الشباب. أنجز عدّة أعمال مسرحيّة مع طلّاب، إضافة إلى معارض رسم، وأفلام قصيرة، ومعارض للصور الفوتوغرافية.

في عام 2015، أسّس اسطنبولي “جمعية تيرو للفنون” التي ضمّت فريق المسرح والطلّاب والمتطوّعين الذين بدأ عددهم يزداد. والجمعية غير حكومية تهدف إلى تفعيل الحركة الثقافية والفنية في المناطق والقرى المهمّشة، بتوفير منصّات ثقافية، وإقامة ورش ونشاطات فنّية. وأعاد اسطنبولي تأهيل وافتتاح صالتي سينما “الحمرا” و”ريفولي”  في صور عام 2014 بعد نحو عقود ثلاثة على توقفهما، وسينما “ستارز” في النبطية بعد 27 عاماً من إقفالها.

وزار مدينة طرابلس عام 2016 لحضور مهرجان سينمائي، وشدّ انتباهه عدد دور السينما المقفلة فيها وباتت جزءاً من ماضٍ جميل يجري على ألسنة من عاصروه. وكانت السنوات الستّ الأخيرة قاسية ومريرة على طرابلس ولبنان، لكنّها لم تمنع الفتى الجنوبي من التمسّك بفكرته والبحث عن المكان الأمثل لتنفيذها، إلى أن نجح في استئجار سينما “أمبير” في منطقة التلّ في قلب طرابلس المنهك.

على مدى 8 أشهر متواصلة من العمل بصحبة مجموعة متطوّعين من شبّان وشابّات، أعاد اسطنبولي تأهيل هذه السينما بعملية جراحية دقيقة ومتواصلة، استخدم فيها مبضع الجرّاح وريشة الرسّام بمهارة، ليعيد تشكيل مشهد السينما القديمة في زمن ما بعد الأقراص المدمَجة والأجهزة اللوحيّة والهواتف الذكيّة، التي يشكّل كلّ واحد منها عالماً سينمائياً قائماً بذاته يزخر بالأفلام الحديثة منها والقديمة.

تاريخ إزدهار آفل

سينما “أمبير” الطرابلسية واحدة من أقدم وأعرق دور السينما في لبنان. تأسست، حسب الكاتب هادي زكّاك صاحب كتاب “العرض الأخير: سيلَما طرابلس”، منتصف ثلاثينيّات القرن الماضي على يد أنطون شاهين وبالتعاون مع شركة “أمبير” في بيروت. وكرّت بعدها سبحة دور السينما في الفيحاء وصولاً إلى 35 دار سينما ومسرح. هذا بالإضافة إلى أنّ أوّل معهد فنون للتمثيل في طرابلس، وكذلك أوّل مسرح يوميّ في لبنان، أسّسهما الفنّان القدير عمر ميقاتي، ومنهما انطلقت فرق فنّية عدة. لقد كانت طرابلس مدينة سينما ومسرح، وهذا جزء يسير من تاريخها المغيب أو الآفل.

أمّا لماذا هذه السينما وفي منطقة التلّ بالذّات، التي اقترن ذكرها في السنوات الأخيرة بمشروع المرأب والاعتصامات والاعتداءات على المخفر المطلّ على ساحتها؟

يقول اسطنبولي إنّ الاختيار نابع من كون المشروع يهدف إلى “إحياء هويّة المدينة وإرثها الثقافي، والحفاظ على معلم يشكّل جزءاً من ذاكرة أبنائها”. لذلك أبقى على طابع سينما “أمبير” ليس فقط من ناحية الموقع والتاريخ، إنّما حافظ أيضاً على ألوانها كما كانت منذ عقود طويلة، وكذلك المسرح والأرضيّة والموكيت والكراسي المخمليّة الحمراء وغيرها من العناصر التراثية.

ولأنّ “التغيير هو حالة تبدأ وتستمرّ وتصل إلى الهدف”، يقول اسطنبولي إنّه “على الرغم من كلّ الصعوبات التي واجهت المشروع منذ بداياته، إلّا أنّ الشغف والعزيمة كانا أقوى بكثير، وأهمّ ما في هذا العمل هو اللقاء بين مجموعة والعاملين فيه. لدينا طاقة كبيرة أجمل ما فيها أنّها تطوّعية. وهذا أهمّ من أيّ إمكانية أخرى. نحن نؤمن تماماً بما نقوم به، ونحن على ثقة بأنّ ما فعلناه كفيل بإحداث تغيير اقتصادي وفكري، وبتعزيز السياحة الثقافية”.

أهل طرابلس والمسرح

يوم السبت 27 آب الماضي، افتُتِح “المسرح الوطني اللبناني في طرابلس” في سينما “أمبير”، بالتزامن مع إطلاق الدورة الأولى من “مهرجان طرابلس المسرحي الدولي”، الذي استمرّ حتى الثلاثين منه. هذا المهرجان الذي أُقيم بالتعاون مع مؤسّسة “دون” الهولندية، تخلّله الكثير من المشاركات العربية بسلسلة أفلام وعروض مسرحيّة، من الجزائر والعراق وتونس وموريتانيا وسلطنة عمان، وأيضاً الدوليّة من إسبانيا والمكسيك.

“المسرح الوطني اللبناني” هو منصّة ثقافية حرّة ومستقلّة للناس، تُنظَّم فيها ورشات تدريبية ومهرجانات وعروض فنّية، وتحتوي على مكتبة عامّة. هذا المسرح يديره فريق من الشبّان والشابّات، وهو متاح بشكل مجّانيّ أمام مَن يشاء الاستفادة من هذه المساحة من أجل الرسم أو الموسيقى أو للتدرّب على العرض أو للقيام بأيّ أنشطة أخرى.

وعن تقييمه لهذه التجربة الطرابلسية الفريدة يقول اسطنبولي لـ”أساس”: “أن تنجح في فتح المسرح بهذه الظروف الصعبة، مع خصوصيّة المكان، فهذا بحدّ ذاته إنجاز. كلّ التجارب التي قمنا بها كانت ناجحة. لكن تجربة طرابلس كانت الأنجح. فقد اكتشفنا أنّ الناس الذين يحضرون المسرح في طرابلس كثيرون”.

ويلفت اسطنبولي إلى أنّ الإقبال على المهرجان في أيّامه الأربعة كان مميّزاً فـ”أهل طرابلس يحبّون المسرح. ومنذ انتهاء المهرجان يُعرض فيلم كلّ أسبوع، ومع كلّ عرض نلاحظ زيادة في الإقبال”.

أمّا عن المواهب الطرابلسية الفنّية فيشير اسطنبولي إلى أنّ “المهرجان تضمّن عرض مسرحية حملت عنوان “حكايات من التل” مثّل فيها 14 شابّاً وشابّة من طرابلس وشمال لبنان، وتتناول موضوع الهجرة عبر القوارب البحريّة”.

وعدا عن الفيلم الذي يُعرض أسبوعيّاً، ينظّم “المسرح الوطني اللبناني” المجّانيّ في طرابلس ورش تدريب إذاعية، وورشة للأشغال اليدويّة، وقريباً ورش للرسم، وبعدها يقيم مكتبة. ويفتخر اسطنبولي بأنّه صار في “المسرح الوطني اللبناني” في طرابلس فرقة مسرحية خلال أمد قصير، مشدّداً على أنّ المسرح أُنشئ لأهل هذه المدينة وسيبقى لهم.

هذا وستكون طرابلس على موعد مع “مهرجان لبنان المسرحي الدولي للحكواتي” في دورته الرابعة من 12 حتى 15 تشرين الثاني المقبل، وستستقبل حكواتيّين من عدد كبير من الدول العربية، ضمن برنامج حافل وواعد وفق ما أطلعنا عليه الفنّان والمخرج قاسم اسطنبولي.

Exit mobile version