رضوان السيد -أساس ميديا
ليست هذه هي المرّة الأولى التي يشغل فيها الإخوان المسلمون والقرضاوي الأزهر. هذه المرّة ولمناسبة وفاته بقطر عن ستةٍ وتسعين عاماً، هاج بعض المتحمّسين للقرضاوي على شيخ الأزهر لأنّه لم ينعَ القرضاوي ولم يترحّم عليه. لكن منذ العام 2012 وفي عهد الشيخ الحالي للأزهر أحمد الطيب هاج القرضاوي (وهو خرّيج أزهري قديم من كليّة أصول الدين) لأنّ شيخ الأزهر لم يدعم الثورة ولا حُكم وحكومة الإخوان. بينما تحمّس القرضاوي، وهو إخوانيّ قديم أيضاً، لصعود الإخوان ودعا إلى قتال خصومهم لأنّهم يقاتلون الإسلام (!).
الأزهر والإخوان والدولة
خلال أقلّ من عامين (2012-2013) كان طلاب الإخوان بالأزهر قد خرّبوا وأحرقوا أربع كلّيات بجامعة الأزهر، ونظّموا تظاهرات صاخبة تارةً لعزل رئيس جامعة الأزهر، وطوراً لعزل شيخ الأزهر نفسه. وتنوّعت الأسباب بين أنّ الجامعة تسمّم الطلاب في طعامهم (من أجل ذلك زارهم الرئيس محمد مرسي في المستشفيات!) أو لأنّ الأزهر ما يزال مع النظام القديم ضدّ الثورة.
وخلال ذينك العامين كان شيخ الأزهر منصرفاً لجمع كبار المثقّفين المصريين بالمشيخة حيث أصدروا أربع وثائق: عن الحكم المدني الدستوري، وعن تحريم العنف، وعن حقّ الشعوب العربية في التغيير بلا عنف، وعن الحرّيات الأساسيّة الأربع. لكن وقعت الواقعة بين الأزهر والقرضاوي نهائيّاً عندما وقف شيخ الأزهر مع الجيش في 3 حزيران 2013 إلى جانب الرئيس السيسي وبابا الأقباط حين أُعلن عن عزل الرئيس محمد مرسي، ثمّ وقائع اعتصام رابعة.. إلخ.
يومها كالعادة دعا القرضاوي إلى مقاتلة الانقلاب وإنشاء الجيش الحرّ من ماله الخاصّ، واعتبر شيخ الأزهر خارجاً عن الإسلام. وقد أفقدت خروجات القرضاوي الأزهريّين كلّ صبرهم وهدوئهم فهبّ زميل القرضاوي القديم في الأزهر والجامعة الشيخ حسن الشافعي للدفاع عن الأزهر وشيخه، وتحدّث عن جناية القرضاوي على الإسلام. لكنّ أستاذنا الشيخ الشافعي عاد فعزّى أخيراً بالقرضاوي.
مؤسّسة الأزهر بمصر هي في نظر المصريين وجمهور المسلمين في أنحاء العالم، الإسلام نفسه. لكنّ الأزهر في عصوره كلها (الحديثة على الأقلّ) مؤسّسة من مؤسّسات الدولة المصرية. وفي كلّ الانقلابات العسكرية العربية، كان الضبّاط الشباب يعمدون إلى ضرب المؤسّسات الدينية في بلدانهم بحجّة محافظتها ومعارضتها للتغيير الثوري. وهذا كلّه باستثناء ضبّاط ثورة 23 تموز 1952 الذين حرصوا على حفظ الأزهر ودعمه لأنّهم كانوا في معظمهم متديّنين، وكجزءٍ من حرصهم على إرضاء الجمهور. وقد استعانوا به فيما بعد في صراعهم على السلطة مع جماعة الإخوان المسلمين.
الواقع أنّ خصومة الإخوان المسلمين مع الدولة المصرية ومع الأزهر تعود إلى ما قبل ثورة تموز بزمان. فالشيخ مصطفى المراغي، شيخ الأزهر (1935-1945)، خاصم حسن البنّا مؤسّس الجماعة في أربعينيّات القرن عندما رآه يدعو إلى استعادة الخلافة والدولة الإسلامية، ويُنشئُ نظاماً خاصّاً يستخدم العنف لأهدافٍ سياسية. والأزهريون لا يرون للأزهر دوراً سياسيّاً.
وإنّما شارك في الحركات الوطنية ضدّ الفرنسيين قديماً، وضدّ الإنكليز عام 1919. وبخلاف رؤية الجماعات الإسلامية الجديدة، ومنها الإخوان، التي كانت وما تزال ترمي إلى إقامة الدولة الإسلامية التي تطبّق الشريعة، فإنّ الأزهر لا يرى أنّ تطبيق الدين من مهمّات الدولة قديماً وحديثاً، بل مهمّتها حُسْنُ إدارة الشأن العامّ. ولذلك فإنّ الإخوان المسلمين الذين سرعان ما اصطدموا بالدولة المصرية تارةً لمنعها من تجاوز حكم الإسلام، وطوراً لإسقاطها وإقامة حكم الدين، ما لبثوا أن اصطدموا بالأزهر أيضاً، مرة لتبعيّته للدولة، وأخرى لأنّه لا يدعو للإسلام الصحيح حسب فهمهم.
الأزهريون والأحزاب
الأزهريون المصريون على وجه الخصوص لا يدخلون في الأحزاب السياسية والدينية. لكنّ مصر في حقبة ما بين الحربين وبعد الحرب الثانية، كانت تغصُّ في أزمنة الأزمات تلك بعشرات الأحزاب الراديكالية الوطنية والدينية. ولذلك دخلت قلّةٌ من شبّان الأزهر المتحمّسين في تلك الأحزاب، واستقبلهم حسن البنّا في تنظيمه بالترحاب، لأنّه “أفندي” يتحدّث في الدين، ويريد سنداً من المعمّمين، فكان منهم الشيخ الباقوري والشيخ الغزالي والشيخ سابق.. والفتى يوسف القرضاوي. وحسن البنّا نفسه في شبابه (مولود مثل سيّد قطب عام 1906) كان اكتسب ثقافته الدينية من مجلّة المنار وصاحبها المعمّم السيّد محمد رشيد رضا الشاميّ الأصل كما هو معروف. وعندما توفّي رضا عام 1935 حاول حسن البنّا أن يستمرّ في إصدار المنار التي صمدت معه سنتين لا أكثر.
وقامت ثورة تموز التي دعمها الإخوان في البداية، ثمّ اختلفوا مع جمال عبد الناصر على المناصب، وتواصلوا مع الإنكليز من وراء ظهره، ثمّ حاولوا اغتياله عام 1954، فنشب صراعٌ بينهم وبين الدولة المصرية تخلّلته جولاتٌ كثيرةٌ من الكرّ والفرّ حتى اليوم.
القرضاوي إخوانياً
عندما نشب الصراع الأوّل كان الأزهريون الثلاثة: الباقوري والغزالي وسيّد سابق، قد غادروا التنظيم، وبقي أصغرهم القرضاوي فيه وإن يكن غير ظاهرٍ ولا ملحوظ. وغادر القرضاوي مصر في مطالع الستينيّات وجال في دول الخليج حتى استقرّ بقطر طوال الخمسين عاماً الماضية، حيث ازدهر واشتهر. ومع أنّه عاد إلى مصر في فترة الهدنة أيّام الرئيس السادات، وحصل على الدكتوراه من كليّة أصول الدين بمساعدة شيخ الأزهر الكبير عبد الحليم محمود، فإنّ علاقاته بالأزهر لم تستقرّ شأن كلّ الحزبيّين الدينيين الذين يملكون تصوّراً آخر غير تصوّر الأزهر للإسلام ورسالته، ولأنّهم ثوريون ويودّون التخلّص من مؤسّسات التقليد.
قال الشيخ القرضاوي إنّه لم يعد يملك علاقات تنظيمية بالإخوان منذ السبعينيّات، لكنّه من الناحية الفكرية ظلّ على نفس منطلقاتهم ورؤاهم. وفي مصر ثلاث جهات تتحدّى سلطة الأزهر باسم الدين: الإخوان والسلفيون ثمّ الذين صاروا “جهاديين”. أمّا السلفيون فأنشأوا مرجعيّاتهم واعتزلوا ولم يخوضوا في العمل السياسي المباشر. وأمّا الإخوان فانصبّ جهدهم على نقد التقليد الأزهري، تقليد الحيض والنفاس كما قالوا على سبيل التحقير، لكنّهم ركّزوا أيضاً على اختراق المؤسّسة من خلال الطلاب والأساتذة. ثمّ انتهت مرحلة الهدوء الساداتية عام 1977 عندما قتل الجهاديون المنشقّون عن الإخوان وزير الأوقاف المصري السابق الشيخ محمد حسين الذهبي، ثمّ قتلوا الرئيس السادات عام 1981.
أحيائيٌ في قطر
منذ الثمانينيّات من القرن الماضي بدأ القرضاوي يشتهر. فالإخوان لا يملكون شيخاً فقيهاً غيره. وقد أقبل على التأليف الكثيف والفتوى، وأظهر اعتدالاً بالدعوة لترشيد الصحوة، ونقد التوجّه العنيف لسيّد قطب (أُعدم عام 1966)، والذي استخدمه الجهاديون بكثافة. ومع تعاظم قدراته الماليّة والدعوية بالمناصب والجهات والمؤسّسات التي أنشأها، عاد لمنافسة الأزهر من خلال اصطناع مرجعيّة اتّحاد علماء المسلمين، ونقد مسارات الأزهر في برنامجه الشهير بالجزيرة: الشريعة والحياة. وبالطبع كانت لديه الرؤية الإحيائية (كما سمّيتُها في كتبي) من جهة، وأنفذ توجّهات الجهة السياسية حيث يقيم وقد صار هو شيخ الإسلام وفقيه العصر عندهم، من جهة أخرى. وعندما انتقد أمامي مرّةً أحد الأنظمة العربية، سألته على استحياء عن طبيعة علاقاته هو بسياسات الدولة، فغضب وقال: ما سألوني مرّةً عن شيء ولا طلبوا منّي مرّةً شيئاً، وما طلبتُ منهم أمراً فيه مصلحة إسلامية إلاّ لبَّوه. وتجرّأت فسألته: هل ذهبتَ بدون علمهم إلى ليبيا القذّافي وإلى سورية الأسد؟ أجاب وقد ازداد غضبه: أنت في بيتي، ولستُ مضطرّاً إلى الإجابة على سؤالك، لكنّني أخبرك أنّني أنا الذي طلبت الذهاب إلى ليبيا للإصلاح بين القذافي والإسلاميين، وإلى سورية لتحيّة الرئيس الأسد على دعمه المقاومة (!). ومنذ ذلك العام (2010) التقيته في بعض المناسبات لكنّني ما سألته عن الدعوات التي وجّهها لمجاهدة القذافي وقتال الأسد، وإسقاط أنظمة الطغيان عام 2011، ولا عن إدانته للأزهر لأنّ شيخه تأخّر كثيراً في “البراءة” من نظام مبارك. ولا عن كيف يدعو فقيهٌ إلى العنف، بهذه الحرارة.
شهد القرضاوي وشارك في تكوين ونشر فكر “الصحوة”، كما سمّاها، وهي الصحوة التي صنعت “النظام الكامل” و”الإسلام هو الحلّ”. فالإسلام، كما قال في سلسلته عن بيّنات الحلّ الإسلامي، يعرض على العالم بقوّة الحقّ نظاماً كاملاً متكاملاً في الاجتماع والاقتصاد والسياسة وفلسفة الحكم وأسلوبه. وقد فشلت الأنظمة الشيوعية والليبرالية، ولم يبقَ غير نظامه للإنفاذ والإحقاق. وليس في ذلك جديد فقد قال بذلك كثيرون.
كاريزما ومال
لكنّ القرضاوي كان نافذاً وكاريزماتيّاً وعنده قدرات ماليّة متنامية، وهكذا اجتمعت له في أزمنة وسائل الاتصال والديجيتال الأمور الضرورية التي لم تجتمع لأحدٍ غيره: وسائل الاتصال والنشر الحديثة، وكثرة المؤلّفات التي “تزعم” الإجابة على كل شيء، والكاريزما الشخصية، ودعم جهة سياسية له، ومعرفة كلّ الحركيّين والناشطين الإسلاميين الذين سعوا إلى الحصول على دعمه واحتضانه هو وعلى رأسهم الإخوان المسلمون وتنظيمهم الدولي.
في العام 2011 خرج القرضاوي على كلّ تحفّظ ومن قناة الجزيرة، كما من ميدان التحرير بمصر، إذ اعتبر أنّ زمان “التمكين” للإخوان قد أزِف، ولا ينبغي تفويت الفرصة. وهو لا يدعو إلى العنف إلّا في فلسطين، لكن إذا كان ضروريّاً فليس عنده مانع من استخدام العنف لإقامة دولة الإسلام. رأيته مرّةً على إحدى الفضائيّات عام 2012 وقد اجتمعت من حوله حشودٌ هائلة، فتذكّرت بيل غراهام الأصوليّ الإنجيليّ الأميركي الذي كان يقول مثله إنّه يريد تغيير العالم. فخاطبته في مقالةٍ بصحيفة “الحياة” قائلاً: “ولِمَ كلّ هذا، لا بدّ من شيء من التواضع. والناس كانوا يخافون من الدولة وقد صاروا يخافون عليها. والأزهر أعقل وأكثر تواضعاً عندما يصدر وثائق عن الدولة الوطنية الدستورية، وتحريم العنف، وحقّ الناس في التغيير إنّما بدون عنف، والحرّيات الأساسية الأربع، وينشئ “بيت العائلة المصرية”. في حين تدعو يا شيخ إلى دولة الإسلام التي لا يعرف كنهها إلاّ أنت وفلان الشاطر. وما نجحت دولةٌ دينيةٌ في هذا العصر”.
بوفاة القرضاوي تنتهي حقبة. والمستقبل للدولة الوطنية الحديثة وليس لدولة الخلافة. أمّا الإسلام فما يزال الصراع فيه ومن حوله مشتعلاً بسبب الاستفزازات والاستنزافات.