مرّة جديدة، يوضع اتفاق «الطائف» على طاولة التفاوض، الرئاسية. في الدورة السابقة، ضمنت التفاهمات التي عقدها «التيار الوطنيّ الحرّ» لتأمين وصول رئيسه العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، بقاء الاتفاق سالماً، معافى، محمياً من أي محاولة لضربه أو تطويره أو تعديله. وها هو الاتفاق يعود من جديد إلى سلّة الشروط التي تفرضها السعودية على أي مرشح رئاسي، لكي تؤمن غطاءها السياسي، ومشاركتها في تسوية انتخابه.
اذ يواظب السفير السعودي في لبنان وليد البخاري على التذكير باتفاق «الطائف». في تغريدة له كتبها في الخامس من أيلول الماضي، قال «ميثاقُ الوِفاقُ الوطنيُّ والذي أقرَّهُ اللبنانيّون برعايةٍ عربيةٍ ودوليّةٍ، ليس وهماً ولا أُحجِيَةً غامضةً فهو مُصاغٌ بلسانٍ عربيٍّ فَصيح…#إتفاق_الطائف». ثم استعاد يوم الأربعاء مقولة لرئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني جاء فيها «إتِّفاقُ الطائفِ غيرُ صالحٍ للإنتقاءِ وغيرُ قابلٍ للتّجزِئة». كما غرّد في «ذكرى مرور 33 عاماً على توقيع إتفاق «الطائف»، الاسم الذي تعرف به وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، التي وضعت بين الجهات المتنازعة في لبنان، في 30 أيلول 1989 في مدينة الطائف وأقر بتاريخ 22 تشرين الأول 1989 منهياً الحرب الأهلية اللبنانية، وذلك بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على اندلاعها». واستحضر الوثقية في كلّ اللقاءات السياسية التي عقدها تحت عنوان «رئاسيات»، في إشارة تبدو جليّة وتؤكد بأنّ عودة السعودية إلى لبنان لن تحصل إلّا بعد ضمان تمديد عمر الطائف لستّ سنوات إضافية.
الدستور اللبناني معطّل. هذه ثابتة مفروغ منها. ثمة إقرار محلي ودولي بأنّ اتفاق «الطائف» كاد يستنفد نفسه، وقد تحوّل بالممارسة، إلى أداة تعطيل يستعين بها أسياد الطوائف، فقد بذلك مهمته كناظم للمؤسسات الدستورية. الثغرات كثيرة، ولكلّ طرف نظرته ورؤيته لهذه العلل. المصالح متشعّبة والأفكار متداخلة. المشترك بينها، هو أنّ القوى السياسية تتعامل مع الظرف السياسي على أنّه اللحظة المناسبة لتدشين ورشة تعديل الدستور.
مع الوقت بات النظام اللبناني عبارة عن نظام فيتوات متبادلة يتمّ تفعيله عند كل استحقاق ما يحول دون انتاج صيغ مبتكرة لخرق الشلل والشغور. وقد فضحت التجربة على مدى أكثر من ثلاثة عقود، عمق الثغرات الكامنة في الدستور، ولعل بعضها تُرك عمداً افساحاً في المجال لتبادل الفيتوات بين المكونات الأساسية، وعدم قدرة النصّ الذاتية على معالجة تلك الثغرات التي أغرقت الحركة السياسية طوال حقبات ما بعد الطائف، وتحديداً بعد العام 2005 تاريخ انسحاب السوري من لبنان، في حلقات مفرغة من الشغور الدستوري، المتمادي، المتنقّل من مؤسسة إلى أخرى، من دون القدرة على انتاج آلية دستورية تسمح بتفادي الشلل أو الشغور في تلك المؤسسات.
اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة
وما كلام رئيس الجمهورية ميشال عون عن اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة، إلا حجرة جديدة ألقيت بقصد تحريك المياه الراكدة. بالتوازي، يعمد جبران باسيل منذ مدّة الى الترويج لفكرة تطوير النظام أو تعديله: «اللبنانيون بحاجة لعقد جديد نقوم به بخيارنا الحر وبتوقيتنا، بدل أن تفرضه علينا التطورات، ويجبرنا الخارج على تسويات عرجاء سبق واختبرناها، وأوصلتنا إلى حيث نحن». «نظام سياسي مشلول في لبنان لا يمكن الاستمرار به». الحل في لبنان هو «بالدولة المدنية مع لامركزية إدارية». «المجلس النيابي القادم يجب ان تكون مهمّته تطوير النظام السياسي وتغيير النموذج المالي والاقتصادي».
فهل أن آوان الجلوس الى طاولة مستديرة تفتح باب التعديلات الدستورية؟ وهل باتت الظروف مناسبة؟
فعلياً، سبق «للتيار الوطني الحرّ» أن استخدم ورقة الطائف خلال مفاوضاته مع القوى السياسية إبان ترشيح العماد ميشال عون. وعلى هذا الأساس حملت تسوية سعد الحريري- جبران باسيل عنواناً جذّاباً بالنسبة للمكوّن السني، ويقضي بحماية «الطائف» من محاولات نسفه أو تعديله على حساب صلاحيات رئيس الحكومة، لكنها كانت بالمضمون عبارة عن تفاهم محاصصة لتأمين المصالح المشتركة. وقد سعى رئيس «تيار المستقبل» إلى التسويق لفكرة حماية «وثيقة الوفاق الوطني» من خلال تحويل عون من خصم إلى شريك في الطائف، لتبرير تلك التسوية الشهيرة.
ويبدو أنّ باسيل يعيد من جديد استنساخ تلك التجربة في محاولة منه للتذكير بأنّ «الطائف» فقد مقومات صموده ولا بدّ من اخضاعه للتعديل. لكن عارفي الرجل يجزمون بأنّه يلوّح بورقة نسف النظام والتهديد بالذهاب إلى تعديلات صارت إلزامية لاستخدام تلك الورقة من باب «الابتزاز السياسي»، والعمل على توظيفها لتحصيل مكاسب في الملف الرئاسي… بدليل ما أدلى به في دار الفتوى من توضيحات تثبت بأنّ طروحاته «التصحيحية» ليست سوى من باب اقحام «الطائف» في البازار الرئاسي.
ويشيرون إلى أنّ ملف التعديلات الدستورية كان يفترض أن يكون بنداً أساسياً في برنامج عهد الرئيس عون منذ يومه الأول في قصر بعبدا. ويلفتون إلى أنّه لو كان باسيل جدياً في ما يطرحه، لكان خاض معركة تعديل النظام الداخلي لمجلس الوزراء، وهي أقل المعارك قساوة في هذا الشأن خصوصاً وأنّه سبق لـ «التيار» أن أوحى أنه بصدد خوض اشتباك سياسي لفرض صلاحيات نيابة الرئيس تحت عنوان قوننة عمل مجلس الوزراء.
في الـ 2012، كانت صلاحيات نائب رئيس الحكومة عنوان معركة سياسية خاضها رئيس «التيار الوطني الحرّ» في حينه، ميشال عون. أعلن تشكيل لجنة لصياغة اقتراح قانون نظام داخلي لمجلس الوزراء، على اعتبار أنّ هذا الأخير مؤسسة مستقلة ويجب أن يكون لديه نظام. اذ لا يذكر مرسوم تنظيم أعمال مجلس الوزراء نائب رئيس الحكومة، وتغفل المادتان 64 و65 من الدستور اللتان تحددان مهمات رئيس الحكومة وصلاحياته، ذكر دور نائب الرئيس. وقد صدر مرسوم تنظيم أعمال مجلس الوزراء سنة 1991 محدداً شبه آلية لتنظيم العمل الوزاري، لكنه لم يطبّق لأنه غير ملزم كمرسوم، وليس له قوة القانون المقرّ في المجلس النيابي.
وفي العام 2018 يوضح نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي أنّه «كان ليُكتب لنائب رئيس الحكومة دورٌ، لو طُبّق اتفاق الطائف، وأصبح هناك نظام داخلي لمجلس الوزراء». ولكن العكس هو ما حصل، «أُخذت كلّ الصلاحيات وجرى حصرها برئيس الحكومة، فباتت حياة الحكومة ترتبط به». حينها، أوحى بأنّ «التيار» مُقبلٌ على فتح معركة صلاحيات نائب رئيس الحكومة، وهو لذلك يتمسك بالحصول على الموقع. بالنسبة إلى الفرزلي إنّها «معركة تطبيق اتفاق الطائف، حيث يجب أن يكون لنائب رئيس الحكومة دورٌ في ترؤس اللجان، والجلسات الحكومية في حال غياب رئيسها، تماماً كما يحصل في المجلس النيابي». ولكن المعركة بقيت حبراً على ورق ولم تحجز لها مكاناً رسمياً. يقترب عهد الرئيس عون من أيامه الأخيرة، ولم يتسن «للتيار» طرح تلك الإشكالية، لا في الحكومات التي كان له فيها اليد الطولى، ولا تلك التي اشتكى فيها من عدم مونته على الوزراء!
فائض القوة الشيعية
فالثنائي الشيعي، وتحديداً «حزب الله» هو الأكثر عرضة للاتهام بالسعي إلى تعديل اتفاق الطائف من باب تعزيز مكانة المكوّن الشيعي في التركيبة الحاكمة، حيث كان أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله، أول من طرح فكرة المؤتمر التأسيسي في العام 2012، حين دعا إلى «العمل من أجل إقامة مؤتمر تأسيسي وطني لمناقشة بناء دولة قوية في لبنان».
يقول المواكبون إنّ هذه المسألة تشكّل هاجساً حقيقياً لـ»حزب الله» في ضوء شعوره بفائض القوة وعدم قدرته على ترجمة هذا الفائض في التركيبة السلطوية ولو أنّ شريكه، أي رئيس مجلس النواب نبيه بري يضع التوقيع الثالث، وزارة المال، في جيبه. ولكن لا بدّ من تكريس شراكة المكوّن الشيعي في الكتاب، أي الدستور. وهذا ما يدفعه إلى التفكير بكيفية تنقيح اتفاق «الطائف» وتطويره لكي يحسّن مكانته في النظام، ولكن من دون خوض اشتباك مع أي مكون آخر، وتحديداً المكون السني لكي لا يُحمّل مسؤولية الانقلاب على الدستور، ويزيد من التوتر السني – الشيعي.
وفق المعطيات، فإنّ الفرنسيين هم الفريق الخارجي الوحيد الذي فاتح مسؤولين في الحزب بهذا الملف، وسبق لهم أنّ أجروا محاولة أولية خجولة عرفت يومها بلقاءات سان كلو. خلال الأشهر الماضية، أعيد فتح الملف وكان يفترض أن تتزامن أي تسوية سياسية تسعى فرنسا إلى تحقيقها حول لبنان مع السعوديين، بدفع أميركي، مع احياء طاولة التعديلات الدستورية وذلك بعد انجاز الاستحقاق الرئاسي في لبنان. غير أنّ الحرب في اوكرانيا أبعدت الفرنسيين بعض الشيء عن الوحول اللبنانية وبات الاهتمام يقتصر على الملف الرئاسي.
ويبدو أنّ الفرنسيين قرروا طيّ هذه الصفحة خصوصاً بعدما أقنعوا السعوديين بالعودة إلى طاولة النقاش حول الملف اللبناني، حيث يبدو أنّ شرط السعوديين الأول هو ضمان بقاء اتفاق «الطائف» وعدم المسّ به. ولهذا يحرص السفير السعودي على التأكيد على حماية الاتفاق من أي تعديل، سواء بقوة الأمر الواقع، أو بالتفاوض. وقد جاء البيان الثلاثي الأميركي ـ الفرنسي ـ السعودي إشارة واضحة في هذا الاتجاه من خلال التأكيد على أهمية «الطائف».
حتى أنّ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط راح يذكّر بهذا الاتفاق، اذ شدّد على «ضرورة الحفاظ على «الطائف» هو نقطة استراتيجية بالنسبة إلى السعودية، التي تتمسك به، وتعتبر أن تطبيقه هو الخيار الأمثل ليخرج لبنان من كل أزماته؛ لأن الأزمة ليست في النظام أو الدستور بل في عدم تطبيقه».
«الإصلاحات السياسية» في «الطائف»
يُذكر، أنّ اللامركزية الإدارية الموسّعة وإلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس الشيوخ، هي بنود وردت في اتفاق الطائف تحت عنوان «الإصلاحات السياسية»، وجاءت كالآتي:
7ـ مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية.
ز- إلغاء الطائفية السياسية:
هي هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية، وعلى مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.
أ- إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين من دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة.
ب- إلغاء ذكر الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية.
أ- اللامركزية الإدارية:
1- الدولة اللبنانية دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزية قوية.
2- توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين وتمثيل جميع إدارات الدولة في المناطق الإدارية على أعلى مستوى ممكن تسهيلاً لخدمة المواطنين وتلبية لحاجاتهم محلياً.
3- إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العيش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
4- اعتماد اللامركزية الإدارية الموسعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى (القضاء وما دون) عن طريق انتخاب مجلس لكل قضاء يرأسه القائمقام تأميناً للمشاركة المحلية.
5- اعتماد خطة إنمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً، وتعزيز موارد البلديات والبلديات الموحدة والاتحادات البلدية بالإمكانات المالية اللازمة.