بعد تنقّلها بين نيويورك وفيلادلفيا، حطّت مكتبة الكونغرس في العاصمة الأميركية واشنطن عام 1800. تُعرف اختصاراً بـ LOC، وتتبع إدارياً للكونغرس، لكنها بمبانيها الثلاثة في «كابيتول هيل»، بمثابة مكتبة وطنية، وهي مقصد أساسي لزوار العاصمة، إذ بلغ عدد زائريها عام 2019، مثلاً، نحو 1.9 مليون سائح. قاعات المكتبة الـ 26 تعجّ يومياً بالمؤتمرات، إذ يمكن لكل منظمة أو مجموعة أفراد – أو حتى شخص بمفرده – أن يحجز قاعة، مقابل بدل مالي، لتنظيم ندوة أو ورشة عمل. مع ذلك، «يسرّب» كثيرون خبراً أو صورة عن مشاركتهم في لقاء في «مكتبة الكونغرس» كما لو أن اللقاء في الكونغرس نفسه.

إلا أن بعض ما نوقش في مكتبة الكونغرس (وليس في الكونغرس) في 6 نيسان الماضي، ينبغي التوقف عنده لكشف ما يفكر به بعض الأفرقاء اللبنانيين ويستنفرون علاقاتهم في الخارج لإقناع الخليجيين والأميركيين به. وبمعزل عما يصف وليد فارس (بترونيّ هاجر إلى الولايات المتحدة عام 1990 وعمل لمصلحة الاستخبارات الأميركية) نفسه به على موقعه على الإنترنت (من «أمين عام» لمنظمة و«مستشار» للجنة و«خبير» ومحاضر جامعي وكاتب وصاحب إطلالات تلفزيونية شبه يومية و«ناصح» للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب)، فهو لا يمل من تقديم مشاريع ومحاولة تسويقها في أروقة الكونغرس، وآخرها «المنطقة الحرة». إذ إنه «بعد فشل الدولة اللبنانية في إثبات وجودها كدولة سيدة، بحكم سقوط جميع مؤسساتها تحت الاحتلال الإيراني، لا بد من تدخل دولي طارئ لوقف الانهيار الاقتصادي والنزيف الديموغرافي». وهو تدخّل يشمل جغرافياً المساحة التي كانت تشغلها متصرفية جبل لبنان، مع إضافة عكار شمالاً، واستثناء «الشاطئ الماروني» بين صيدا وبيروت. وفي المرحلة الثانية، يمكن ضم صيدا والدامور وعنجر وأجزاء من مرجعيون إلى هذه «المنطقة الحرة»، كما يفترض بالمتدخلين أن يستولوا بسرعة على مستودعات الأسلحة والذخيرة، والتخلص من السلاح غير الشرعي. ومنعاً للالتباس(!)، كما يؤكّد فارس، فإن هذا «المشروع ليس تقسيماً، ولا نظاماً فدرالياً، ولا إعادة هيكلة للسلطة، إنما حماية للبنان من المخاطر الاقتصادية والديموغرافية والأمنية». وهو أشبه بـ «مرحلة انتقالية» لا تستوجب أي صدام مع حزب الله، إنما ترك الحزب في مناطقه وتحصين المناطق الأخرى. ويقوم المشروع على أسس ستة:

1 – إنشاء «منطقة حرة من الميليشيات»، ضمناً حزب الله، تمتد من بيروت إلى الحدود الشمالية، مروراً بجبل لبنان وطرابلس وعكار وكل المناطق الأخرى «غير الخاضعة لسيادة حزب الله».
2 – يحمي الجيش اللبناني هذه المنطقة، ويعيش فيها رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء ويكون المصرف المركزي ضمنها.
3 – استحداث مطارين أحدهما في القبيات المارونية (وليس القليعات حيث مطار رينيه معوض) والثاني في حامات حيث يوجد مطار عسكري للجيش اللبناني الذي يفترض أيضاً أن يتولى المسؤوليات كاملة في مرفأي بيروت وطرابلس.
4 – حفظ الحرية السياسية وحرية التعبير واحترامهما بالكامل في المنطقة الحرّة، حيث لا يمكن لأي مجموعة مسلحة، ولأي سبب، أن تمنع تحرك مواطن أو تتعرض له أو توقفه.
5 – يجب فتح الأبواب للخارج، خصوصاً العرب، للاستثمار في المنطقة الحرة لتنشيط الاقتصاد، وتفعيل المصارف، ومساعدة المجتمع على النهوض.
6 – المواطنون في المنطقة الحرة يمكن أن يباشروا تنفيذ هذا المشروع من دون تصادم مع حزب الله. أما كيف ينطلقون، فهو ما سيناقش أكثر في المستقبل القريب.

وبحسب الورقة – المشروع – الطموح: بمجرد أن يتبنى الكونغرس مشروع «المنطقة الحرة»، تنتفي الحاجة إلى تصويت إضافي من الأمم المتحدة، لأن إقامة هذه المنطقة تأتي في إطار تنفيذ القرار 1559 الصادر عن الأمم المتحدة. ويلفت معدّ المشروع إلى أن «حماسة المجتمع الدولي عام 2004 ما كانت لتحصل لولا التظاهرات الشعبية الكبيرة في لبنان، ما يؤكد أن المسار الطبيعي لتحقيق هذا المشروع يبدأ من التنسيق والتقارب بين جميع الديناميكيات الموجودة في الداخل اللبناني والإقليم والمجتمع الدولي. وإذا كانت المبادرة الكويتية هي الأفضل نصاً فإنها لن تثمر (Bear fruit) إذا بقيت من دون مساندة جماهيرية لبنانية. تماماً كما كانت المبادرة البطريركية للحياد تحتاج إلى دعم شعبي دولي وإقليمي ومحلي. والدعم المحلي هو رهن تنسيق مسيحي – سني – درزي مشترك، مع التأكيد الدائم على تنسيق جهود كل من المجتمع المدني، الاغتراب اللبناني، الأحزاب، القيادات الروحية والإعلام».
اللافت أن صاحب هذا المشروع يتوقع موافقة الحزب عليه ومعارضة إسرائيل له، لأن «المنطقة الحرة» لا تمثل أي تهديد مباشر للحزب الذي سيكون أمام خيارين: الخضوع للمشروع الجديد كتسوية في هذه المرحلة لعدم تدهور الأمور أكثر، أو الانخراط في «حرب أهلية يستحيل عليه ربحها» مع «غالبية الشعب اللبناني» التي اختارت العيش في المنطقة الحرة وستهبّ «لمقاومته عفوياً» إذا قرر المواجهة «كما حصل في عين الرمانة وخلدة والشوف (المقصود حاصبيا، لكنه خلط بين المنطقتين طالما أن من يقطنهما هم أبناء الطائفة الدرزية!).
أما الصعوبات التي تعترض المشروع فهي:
«1 – مضاعفة عديد قوات اليونيفيل لتتحمل بنفسها كامل المسؤوليات لأن الجيش سينشغل بمهامه الكثيرة في المنطقة الحرة.
2 – إنهاء أي دور للحكومة اللبنانية في ما يخص أمن الحدود مع إسرائيل.
3 – سيؤدي إلى حركة إيرانية مضادة عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً في المناطق غير الواقعة ضمن المنطقة الحرة، خصوصاً الجنوب».
وبالتالي فإن المشروع يحقق تطلعات بعض الأفرقاء اللبنانيين لكنه لا يحقق المصلحة الإسرائيلية التي تمثل الهدف المباشر والوحيد لأي قانون يصدر عن الكونغرس الأميركيّ في ما يخص «الشرق الأوسط».

مع ذلك، فإن خطورة الطرح تكمن في وجود أفرقاء لبنانيين يشاركون وليد فارس أوهامه، ولا يقتصر الأمر على رئيس حزب القوات سمير جعجع، بل يشمل مرجعيات دينية وأمنية أيضاً، في ظل إدارات أميركية لا تمانع «تجربة أي شيء» طالما أن ليس لديها ما تخسره في البلد.
وإذا كانت ورقة «المنطقة الحرة» بين أيدي حزب الله منذ السابع من نيسان الماضي فإن إعادة قراءتها اليوم تبدو ضرورية جداً، في ظل تزامن مغادرة الرئيس ميشال عون للقصر الجمهوريّ مع تعطل مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي (وذهاب الإيرانيين بعيداً في إمداد الروس بطائرات من دون طيار)، ومع تموضع الفرنسيين لبنانياً بشكل واضح إلى جانب الفريق الأميركي – السعودي، وتضييع الخليج فرصة القمة العربية في الجزائر للمضي قدماً في المصالحة مع دمشق، وتمسك السعوديين بأوهامهم هنا وهناك، في ساحة من الصدامات يبدو فيها اتفاق ترسيم الحدود البحرية الاستثناء لا القاعدة.
وخلافاً لما كان يتوقع عن استراحة المقاتلين قليلاً بعد انتهاء العهد، لا يبدو أن الأميركي والسعودي والفرنسيّ وموظفيهم اللبنانيين ينوون منح اللبنانيين فرصة لالتقاط الأنفاس، بل إنهم ماضون في المواجهة، واضعين الفراغ نصب أعينهم، وهو فراغ يؤسس لسيناريوهات تشبه ما ورد في «المنطقة الحرة».