هدف الأوراسيّة المتجدّدة أو “الدوغي – بوتينيّة”

 

د. محيي الدين الشحيمي* – أساس ميديا

أصبح هدف الرئيس بوتين معروفاً وطموحه مقروءاً. فالنهج الأوراسي عقيدته، وألكسندر دوغين معلّمه، وروسيا العظمى غايته وهدفه، على الرغم من أنّه متمكّن في فنّ الألغاز المنمّقة والمزركشة وفي إخفاء ما يضمره باطنه وحجبه قدر الإمكان عن الظاهر. هو ليس بكلاسيكي، لكنّه كاريزماتي بامتياز. يعتبر نفسه سيّد الصعود الروسي الرابع: من روسيا الدوقية الكييفية، وصولاً إلى روسيا البوتينية، مروراً بالقيصرية والشيوعية البلشفية والاتحادية. يحاول جاهداً إعادة إرث الإمبراطورية في شكل جديد ونمط مختلف معتمدين على فكرة إيديولوجية، لا على العرق ولا على القومية والدين. وذلك فق مسلَّمة الولاء لجيوبوليتيك الفضاء الأوراسي الروسي والدوغيني الذي يشكّل الحجر الأساس لسلطته. يريد بوتين إعادة القيصرية اللاوراثية بالنموذج النيوسوفييتي، وبالنكهة الرومانوفية الفكرية، وحتى بالعلمانية وحريّة العقيدة الدينية.

أهداف الأوراسيّة (الدوغي – بوتينيّة)

يكثّف قيصر روسيا جهده كله لتكريس الأوراسية المعدّلة، ولاسترداد ميراث القيصرية بتطبيقه تعاليم أستاذه المتصوّف (دوغين). وهو الإرث الذي خسرته روسيا وجُرّدت منه إبّان الحرب العالمية الأولى. لذلك حاول التمدّد في الشيشان وجورجيا، ثمّ التوسّع والسيطرة على القرم وإقليمَيْ دونيتسك ولوغانسك الانفصاليّين في منطقة الدونباس. وما الحرب الأوكرانية إلا النسخة الجديدة لتغليب النهج الأوراسي المتجدّد وتثبيته، بأهداف دوغي – بوتينية ثلاثة لا حياد عنها، وهي:

1- إعادة المجد الروسيّ – الأوراسي، والإمبراطورية التي يسعى بكلّ قوّته إلى استعادتها، وهي الوريثة الطبيعية للقيصرية، بشكل جديد وبخاصيّة الفلسفة الما فوق قارّيّة ومقوّمات مختلفة عابرة للعرق والدين والجغرافيا.

2- تحصين السلافية، والسلفنة القوميّة الشاملة علمانيّة الفكر واللاتوتاليتارية، والمدنية غير السلطوية بإدارتها غير المعتمدة على عقيدة الانتماء الديني، وخصوصاً أنّ بداية الإمبراطورية الروسية كانت على شكل إمارات سلافية.

3- إعادة تأسيس حلف وارسو الجديد لقطع الطريق أوّلاً على حلف بكين، ولتشكيل توازن رعب واتفاق ندّي مع الأطلسي، بمفهوم مختلف لمعاهدة واتفاقيات الأمن الجماعي، ورسم نسخة جديدة لجغرافية القارّة الأوروبية، وفق نكهة أوراسية من حلف وارسو، كردّ مخصوص على بولندا التي باتت في مقدَّم الدول المجابهة له، والتي كان انتقالها من موقع الحليف السابق إلى وضعيّة رأس الحربة مؤذياً لروسيا ولعقيدة بوتين، ومن الذرائع المشروعة لحرب اليوم.

الأيديولوجية لا تنجح دائماً

يجتهد بوتين لتحويل النظريّة الأيديولوجية والفكر النظري إلى واقع عمليّ ملموس يكون لصالحه. يكابر على ذاته لكي تكون له الغلبة بتشجيع شخصي وعقائدي في توسيع الرقعة الروسية. فهذا الأمر هو العلاج الوحيد والشافي له من عقدة انهيار الاتحاد السوفييتي وكارثته الجيو – ديمغرافية بسبب خسارته كتلة بشرية روسية باتت خارج روسيا وفي دول جديدة. لذا على العالم إذا كان يريد السلام أن يتأقلم مع وجود روسيا العظيمة القويّة العابرة للحدود، والتي تتخطّى كونها مجرّد دولة قوية إلى كونها ائتلافاً وتحالفاً استراتيجياً دوليّاً وقومياً وجيوبوليتيكياً ضمن فضاء إنساني وشعبي صرف. روسيا بالنسبة إلى بوتين عابرة للدولة وأشبه بالقارّة، ولا سبيل إلى تطبيق هذه الفرضية إلا عبر سلوك طريق استرداد جغرافية الاتحاد السوفييتي على الأقلّ، لكن من دون عقيدته التقليدية. فالإمبراطورية المستهدَفة هي عالم متعدّد الأقطاب لفكر وحيد، هويّته أوراسية قارّية وأعمق من الوطنيّة، ليكون مهد الحضارة الإنسانية، كما يعتقدون، ومنطقة الوصل والدمج بين آسيا وأوروبا.

الأوراسيّة المتجدّد: حتميّة نهاية الغرب

أطلق بوتين العنان للمشروع الأوراسي من أجل الاستفادة من تجارب ماضي الشعوب وتعزيز مستقبلها وحمايتها، ووضع حدّ لتفلّت المشروع الحداثي الأطلسي النقيض، وإعادة القطيع السلافي الضالّ إلى الحظيرة الأوراسية، والعمل على السلفنة الإنسانية للمجموعات الغريبة الراغبة والمقتنعة بهذا الانتماء، وتعميم التربية السلافية الملتزمة، والتنشئة الحضارية للجيل السلافي الحديث، من أجل السيادة الأوراسية الجديدة القوية جيوبوليتيكيّاً بحضور الأقوياء على اختلاف أعراقهم وإثنيّاتهم في روسيا والصين والهند وحتى إيران، وحتى مع بعض من هم اليوم مع القوى الأطلسية.

إنّه النسخة المهجّنة من الأوراسيّة الدوغينية، البديلة عن التشريق والتغريب والبلشفة، والتي ترى أنّ لروسيا حضارة فريدة، وعلى عاتقها مهمّة تاريخية جامعة للشرق والغرب في آن. فهي قلب العالم، وتملك إيماناً وعقيدة تنهيان حتميّة الغرب. إنّه الوقت المناسب للريادة الروسية والنهضة السلافية التي تدخل في صلب وأساس العلاقة الأوراسية. ولشعب الاتحاد السوفييتي بالذات أن يستفيد منها لدمج حضاري متعدّد وفق عقيدة تقتضي موت روسيا الحالية، الذي يصفونه بأنّه فعل حياة. ومن الممكن في المستقبل أن لا يكون مناصّ من تسليم الروس بدورهم التاريخي لشعب سلافي آخر غير روسي إعلاءً لمكانة الأوراسية واستمراريّتها، ولا يمانع دوغين نفسه في هذا الصدد من أن يكون هذا الشعب هم الأوكران، فلن يلغي الروسي دوره أبداً لأنّ في ذلك موتاً للأوراسية، التي لا وجود لروسيا أبداً من دونها. هم لا يعتبرون أنّ زوال روسيا الحاليّة زوال لروسيا العظيمة، لأنّ الإمبراطوية الروسية الكبرى المنتظَرة هي الأوراسية، وأيّ شعب من شعوبها السلافية يمكنه تسلّم زمام الأمر.

الولاء للسلافيّة

تُعتبر فكرة الولاء للسلافية الأوراسية مقدّسة بالنسبة إلى بوتين. فهي الجماعة المجسّدة للأصالة الروسية برسالتها الخالصة لإنقاذ البشريّة وتوحيد كلّ شعوب ما بعد الحقبة السوفييتية على أسس طوعية، وترميم العلاقات مع الجمهوريات الإكس- سوفييتية، توطيدها واعادتها إلى الحضن الروسي. تنقض السلافيّة التوجّه الغربي بالكامل. فعقيدة العالم الروسي هي الأصل وتبرّر كلّ النشاطات الحالية، القابل منها للتنبّؤ وغير القابل، على الرغم من جهل الجميع بما يحتويه رأس بوتين وما يدور في رأسه ورأس أستاذه. وفكر هذا الأخير هو ما يستند إليه في التعليل المباشر للتدخّل الخارجي دعماً للفضاء الروسي والمتحدّثين بالروسيّة، وحمايةً للتقاليد، وتحصيناً للأقاليم في عالم متعدّد الأقطاب على المسرح الدولي.

ليس في قيام الأوراسية استجابة للتحدّيات الآنيّة فقط، وإنّما هي امتداد لمسار أيديولوجي حتمي من أجل استمرارية روسيا دولة عظمى. وخوف كلّ من بوتين ودوغين هو من عودة روسيا التسعينيّات من القرن الماضي، أي لفترة الركود والضعف والقوقعة، وهو ما لا يسمحون به من خلال الحفاظ على مواطن القوّة والاستمرار في خطّتهم وتجفيف ومنع أيّ احتمال يؤدّي ظهوره إلى بروز بعض المشاكل القديمة التي عانت منها روسيا السوفييتية في السابق.

رسم جديد

الهجوم الروسي على أوكرانيا قرار أوراسي (دوغي – بوتيني) المصدر، وتكريس لولادة نظام جديد من خاصرة النظام الحالي، الذي نشأ عقب نهاية الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفييتي. إنّه محاولة لصعود روسي جديد وتثبيت مصالح روسيا، فهل تنجح؟ هو قطع لطريق الناتو والفكر الأطلسي في فضاء إمارة “موسكو الكييفيّة”، فهل تقدر؟

الأمر جلّه مقبل على مشهديّتين واحتمالين: إمّا سيطرة روسيّة إدارية في أوكرانيا، وهو انتصار كبير للقيصر، وإمّا ضمّ روسيا لبعض أرض أوكرانيا وتقسيمها، وتسليمها بالباقي للمحور الأطلسي. الحقيقة المهمّة جدّاً التي لا يمكننا إغفالها هي خروج أوكرانيا عن حياديّتها، ووقوعها في إشكاليّة عدم استطاعتها أن تكون ضدّ روسيا ولا مع الأطلسي والعمق الأوروبي بالكامل. تخبرنا الأحداث بمناطق نفوذ جديدة وبتوازن مختلف للقوى، ممهّدة لرسم جديد لخريطة العالم.

Exit mobile version