حجز مقعد للرئاسة

 

يتهافت زعماء الطائفة، على حجز مقعد الرئاسة المقبلة. كل شيء قابل للبيع والشراء، كل شيء قابل للمقايضة. ليس هناك أغلى ولا أثمن من هذا المقعد، لا لأنه يحفظ كرامة لبنان، ولا لأنه يحافظ على حدوده وسيادته وأمن وكرامة شعبه، لا لأنه يحفظ الحقوق، ويصون الديمقراطية والعدالة، ويعمل على تحقيق تطلّعات اللبنانيين، في وطن حر وشعب سعيد، بل لأنه يبيض ذهبا.
الرئاسة، من خلال ما هي منفوخة من صلاحيات، ومن خلال ما هي منفوخة، من بطانة، ومن عظمة، ومن تعاظم، ومن خلال ما هي متورمة بالطائفة والطوائف والطوائفيين، والذين يشدّون على أيديهم من داخل البلاد، ومن خارج البلاد، تصير  للمخادعة، للغش، للمقايضة، بل للتجارة.. تلعب على الحبال بين الطوائف، وتلعب على الحبال داخل كل طائفة. تتسلل تحت القنابل الدخانية، تحت ضوضاء البلاد، تحت الشرشف الأبيض، الذي يغطي جرائمها، لتحصد الذهب. فيعود الرئيس، في برهة الخلو مع الذات، تاجرا ومماكسا، يعرض في قصر الرئاسة، أشلاء الوطن، ويبيعها، في صفقة واحدة، أو في صفقات متعددة، للزبائن، وللزبانية على حد سواء.
عندي وطن للبيع، يصيح رئيس من أعلى بعبدا. عندي قطعان للبيع. عندي عقارات في الجنوب للبيع.. وكذا في الشمال وكذا في الشرق وفي الغرب.. وعلى إمتداد الساحل العميق، حتى الحدود الدولية.  عندي فضاء للطائرات، للمسيّرات، للراجمات، للصواريخ العابرة، إلى ما بعد الحدود. عندي شركات مفلسة، لسوق المزادات، من كهرباء وماء، ومطار وميناء. عندي حطام مدارس رسمية، وحطام جامعات، وحطام مستشفيات حكومية. عندي «وطن خردة» للبيع. عندي قطاعات للبيع، تلال، ومناطق ومواقع، يشتهي المستثمر والمستعمر، أن يكون له، أن يديره، أن يكون فيه.
عندي وطن للبيع يصيح الواصل الحديث إلى بعبدا. يسير على نفس تقاليد الرئاسة، منذ أول القرن. يعرض كل شيء للبيع، حتى أثاث الرئاسة، حتى أثاث قصر الرئاسة، حتى خدم الرئاسة، حتى المستشارين، حتى الجهابذة، حتى العصافير التي تطير.. حتى البواشق، التي تحلق في فضاء الرئاسة.
حجز مقعد للرئاسة اليوم، ليس بالأمر السهل. يحتاج الأمر إلى الشعوذة، إلى الشطارة، إلى اللعب فوق الطاولة، وإلى اللعب تحت الطاولة. يحتاج الأمر إلى جعاب مملوءة بالبارود، عند حدوث المخاطرات. يحتاج الأمر  للتعاقد مع المنصات. فلا بد من التهويل بالمسيّرات والصواريخ، وأخذ البلاد رهينة، حتى تتم المفاوضات، كما يحلم أصحاب المفاوضات.
يتهافت الطامحون اليوم لحجز مقعد للرئاسة. يدفعون بكل ما بيدهم من أوراق. يخترعون أوراقا. يزورون أوراقا. يكذبون كثيرا. يكذبون على أنفسهم أولا. ويكذبون على شعبهم تاليا. ثم يستفيضون في الكذب، حتى يغرقوا البلاد بالأكاذيب الواعدة. يغشون في الداخل، ويغشون في الخارج، وهم ليسوا على قدر المقام، ولا على قدر المقال، لأنهم ليسوا أكثر من تاجر  مماكس تافه بليد.
حجز مقعد للرئاسة، يفترض تغيير المعادلة الخاطئة. يفترض إعادة النظر من جديد، بالرئاسة وبتاريخ الرئاسة، وبالرؤساء الناجحين والفاشلين. يفترض، تغيير قواعد اللعبة، بحيث يتغيّر الخطاب. وتتغيّر اللقاءات. وتتغيّر التوجهات. وتتغيّر الإتجاهات. فلا يمكن أن تكون كرسي الرئاسة مصابة بالطاعون إلى هذا الحد، ويقبل عليها المقبلون.. يقبل عليها المفلسون.
حجز مقعد الرئاسة، اليوم، دونه خرط القتاد. فالعالم، كل العالم، مشغول عن لبنان، في حرب ضروس، في بلاد الأوكران. والأوروبيون كلهم، يرتجفون من صقيع اليوم التالي، بسبب فقدان الطاقة بسبب فقدان الغاز. والأميركيون والروس، يحاول كل واحد، أن يلوي ذراع الآخر. يراهن واحدهم على من يصرخ أولا. والمقارفة على أشدّها. ومعركة «لي الذراع»، مفتوحة على مصراعيها. وأهل الصين، في أوج المعركة مع تايوان. والأميركيون ينظمون أوراق العالم، ولا يأبهون للبنان، أنه في العتمة الشاملة، منذ زمان.
الرهان على كسب الأصدقاء، على كسب الأوراق، على كسب حجز مقعد للرئاسة، رهان خاسر هذه الأيام. فليس في الأفق سمسار واحد يشغله لبنان. فليس في الأفق تاجر، يرى في الرئاسة تجارة رابحة، ليس في الأفق، من يريد أن يضم إلى همّه، هم لبنان. ولهذا، فلا رئاسة في المدى المنظور، بل حكومة لتقطيع الوقت، بل مجلس يسير الأعمال العالقة، وينظم الإنهيار، ويدير الأزمة في البلاد. فحجز مقعد للرئاسة، أضاعه المهووسون، الممسوسون، المهلوسون. أضاعته الطائفية الشاردة على عواهنها. لأن في لبنان لم يكن هناك من يحافظوا على مقعد الرئاسة مثل الرجال.
Exit mobile version