ياسر هلال* -أساس ميديا-
لن تنتهي أزمة الطاقة بنهاية الحرب الروسيّة على أوكرانيا، فالحرب فاقمت الأزمة لكنّها لم تكن سببها. فالسبب الرئيسي هو السياسات المتسرّعة التي دمّرت الطاقة الأحفورية بهدف فرض خطط التحوّل إلى الطاقة المتجدّدة، وهي السياسات التي وصفها الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو أمين الناصر بأنّها “مجرّد قصور من الرمال جرفتها أمواج الواقع”.
بانتظار أن تؤدّي الأزمة إلى تراجع الدول الغربية عن المعادلة الكارثية القائمة على تدمير المتسرّع للطاقة الأحفورية لمواجهة تداعيات التغيّر المناخي، وتبنّيها معادلة واقعية تتمثّل في تطوير الطاقات النظيفة مع حماية الطاقة الأحفورية و”تنظيفها”، نستعرض عمق تأثير العامل السياسي والتدخّلات الحكومية في التسبّب بالأزمة وفي تعطيل حلّها.
المشكلة بالسياسة لا بالنفط
الجانب الواضح من تأثير العامل السياسي هو استخدام الغاز والنفط سلاحاً في الحرب الروسيّة على أوكرانيا من قبل طرفَيْ النزاع. أمّا الجانب غير الظاهر، لكن الأهمّ، فهو اندفاع الدول الغربية، وبخاصة أميركا وبعض الدول الأوروبية، إلى اعتماد سياسات وقرارات تنظيمية متسرّعة لتقليص الاستثمار في الطاقة الأحفورية وتدميرها، لتحقيق هدف معلن هو مواجهة التغيّر المناخي والوصول إلى تصفير الانبعاثات الكربونية بحلول العام 2050، من دون أن نستبعد الهدف غير المعلن المتمثّل في إحكام السيطرة على نظام الطاقة العالمي الجديد الذي يشكّل مكوّناً رئيسياً في التحالفات الدولية والجغرافية السياسية، وفي مكانة وقوّة الدول المنتجة للنفط والغاز مثل روسيا ودول الخليج.
اعتمدت الدول الصناعية في حربها ضدّ الطاقة الأحفورية سلسلة من السياسات والقوانين والقرارات. تمثّلت أبرزها بوضع معايير صارمة للحدّ من الانبعاثات والالتزام بتحقيقها وفق جدول زمني ضيّق، مع فرض قيود مشدّدة على الاستثمار في أنشطة الوقود الأحفوري وصلت إلى المنع الكامل في بعض الدول. وتمثّلت أيضاً في فرض ضرائب باهظة على انبعاثات الكربون، وقيود مشدّدة على تمويل الأنشطة المرتبطة بالوقود الأحفوري. وترافق ذلك مع وضع اتفاقيات دولية في إطار اتفاقية باريس والتزامات مؤتمر المناخ كوب 25 وكوب 26، والسعي إلى إلزام الدول بتغيير قوانينها بما يتلاءم مع هذه الاتفاقيات.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى تطوّر بالغ الخطورة تمثّل في السعي إلى نقل ملف الانبعاثات الكربونية إلى مجلس الأمن، حيث تمّ طرح مشروع قرار يعتبرها “خطراً على السلم والأمن والاستقرار العالمية”، فاضطرّت روسيا إلى استخدام حقّ النقض لإسقاطه. وجرت محاولة لنقل الملفّ إلى المحكمة الجنائية الدولية بسبب اعتبار الانبعاثات الكربونية “جريمة إبادة” وتصنيفها جريمة خامسة ضدّ الإنسانية.
هلع وهروب الاستثمارات
كانت النتيجة المباشرة لتلك السياسات تراجع الاستثمارات في قطاع النفط والغاز من حوالي 700 مليار دولار في العام 2014 إلى حوالي 300 مليار دولار في 2021، وهو ما أدّى إلى خلق مشكلة مستعصية في وفرة المعروض المتوقّع وإلى حالة من عدم اليقين في الأسواق بشأن كفاية الإمدادات، ودخل العالم في حلقة مفرغة من ارتفاع الأسعار وتراجع الإنتاج الصناعي، وتلت ذلك بالطبع موجة تضخّم أدّت إلى رفع أسعار الفائدة والركود وتراجع النموّ واضطرابات اجتماعية. وذلك ما عبّر عنه وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدّمة الإماراتي، والرئيس التنفيذي لشركة “أدنوك”، سلطان الجابر بقوله إنّ “الفشل في الاستثمار بشكل كافٍ في الوقود الأحفوري هو وصفة لكارثة”. ونلاحظ هنا أنّ هذه التداعيات بدأت بالظهور في أوروبا قبل غزو أوكرانيا، وبالتالي لا يصحّ تعليق الأزمة على شمّاعة الغزو.
ويعني تراجع الاستثمارات استبعاد مكوّن رئيسي في مزيج الطاقة لا يمكن الاستغناء عنه تحت كلّ الظروف. فاستناداً إلى أكثر السيناريوهات تفاؤلاً التي وضعتها وكالة الطاقة الدولية المعادية أصلاً للنفط والغاز، فإنّ حصّة الطاقة الأحفورية في العام 2050 لن تقلّ عن 30% من مزيج الطاقة العالمي، في حين تتوقّع منظّمة “أوبك” أن تبلغ هذه النسبة نحو 70%. ويُشار في هذا السياق إلى أنّ دولة مثل اليابان لا تزال تعتمد على الوقود الأحفوري بنسبة 88%، والولايات المتحدة بنسبة 81%، وبريطانيا بنسبة 80%، وتتدنّى النسبة إلى 46% في فرنسا بسبب اعتمادها على الطاقة النووية. فكيف سيتمّ الاستغناء عن النفط والغاز إذا كانت حصّة طاقة الشمس والرياح لا تزيد على 10% حتى الآن، وإذا كانت حصّة السيارات الكهربائية أقلّ من 2%، في حين لا تزال الطاقة المتجدّدة تواجه عقبات كبيرة تتعلّق بالتكلفة وتطوير التكنولوجيا والموادّ الخام وخلق سلاسل الإمداد والأسواق.
استرضاء السعوديّة واستبعاد روسيا
فوجئت أميركا والدول الأوروبية بعمق وخطورة أزمة الطاقة، وبعدم وجود طاقات إنتاجية كافية وجاهزة لزيادة إنتاج النفط والغاز إلا في السعودية وروسيا على المدى القصير، وفي فنزويلا وإيران والعراق وبعض الدول الإفريقية على المدى المتوسط. ولمّا كان الغاز الروسي قد تحوّل إلى سلاح، وبات مستبعداً بقرار سياسي من أميركا وأوروبا، كان الحلّ الوحيد هو “الركض” نحو السعودية ودول الخليج لاسترضائها، بعد مرحلة من الاستعداء والاستهداف. ولكن هذه الدول لا يمكن استرضاؤها بتصريحات صحافية أو “تنازلات” شكليّة كزيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للسعودية والاجتماع بوليّ العهد، أو زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز للمنطقة، خاصة إذا كان المطلوب إقناعها بالعمل ضدّ مصالحها، أي الضخّ بأقصى طاقة ممكنة لخفض الأسعار، في حين تتواصل سياسات “شيطنة” الوقود الأحفوري والدول المنتجة له. ولذلك جاءت استجابة السعودية وبقية دول “أوبك بلاس” للضغوط محدودة، ومحكومة بالحفاظ على استقرار الأسواق والأسعار، والأهمّ على مصالحها.
التصدّي لـ “دواعش المناخ”
إنّ الخروج من الأزمة يتطلّب بدايةً الاعتراف بخطيئة اعتماد سياسات متسرّعة لتقييد ومنع الاستثمار في الطاقة الأحفورية بدعوى أنّ ذلك سيؤدّي إلى توجيه الاستثمارات نحو الطاقة المتجدّدة لتطويرها، والاعتراف أيضاً بخطيئة استخدام الطاقة سلاحاً، سواء في الحروب والصراعات، أو في تشكيل الجغرافية السياسية والتحالفات.
إلى ذلك يقتضي الخروج، بقدر كبير من الأولويّة، التصدّي لمتطرّفي البيئة والتغيّر المناخي الذين تحوّلوا إلى قوّة ضغط مخيفة تعتمد الديماغوجية والشعارات الشعبوية لتدمير الطاقة الأحفورية. وقد استفادوا من تبنّي الدول الصناعية سياسات الحدّ من الانبعاثات الكربونية، لممارسة أقصى درجات الإرهاب الفكري ضدّ كلّ من يجرؤ على طرح فكرة الانتقال التدريجي نحو الطاقة المتجدّدة والدفاع عن الوقود الأحفوري. وبات التشكُّك في التغيّر المناخي والاحتباس الحراري حتى من قبل كبار العلماء والخبراء، أشبه بالتشكُّك في “الهولوكوست”، وأقرب إلى التجديف والكفر. وتحوّل هؤلاء إلى “دواعش المناخ”، إذا صحّ التعبير، الذين يسيئون إلى التحوّل نحو الطاقة النظيفة وإلى البيئة والاستدامة بقدر إساءة “داعش” إلى الإسلام.
التطوير لا التدمير
أمّا الحلّ الواقعي والمنطقي الذي تعتمده دول مثل السعودية والإمارات وأستراليا، فيقضي باعتماد سياسات تقوم على الاستثمار المكثّف في الطاقة المتجدّدة مع الاستثمار المكثّف أيضاً في الوقود الأحفوري لتطوير الطاقات الإنتاجية أوّلاً ولتنظيفه ثانياً، والمقصود بالتنظيف الاستثمار في مشاريع استخدام الغاز لإنتاج الهيدروجين الأزرق والفيروزي والأمونيا الزرقاء من خلال تقنية التقاط الكربون وتخزينه، والاندفاع في الوقت ذاته إلى ضخّ استثمارات كبيرة لتطوير طاقاتها الإنتاجية من النفط والغاز حتى في أوج أزمة كورونا وحالة عدم اليقين والتردّد من قبل الجميع. وكان لافتاً تصريح وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان أنّ “تردّد الدول والمستثمرين هو نعمة للمستثمر الذي يبني خطواته على معالجة عدم اليقين باليقين”، معتبراً أنّ “العوامل المخيفة التي تحيط بصناعة النفط والغاز، هي عوامل مطمئنة لنا، وما يُقال عن تراجع النفط في العام 2030 حتى 2050، هو مبالغات لن تتحقّق. ونجحت السعودية مثلاً في زيادة طاقتها الإنتاجية خلال العامين الماضيين، إلى حوالي 13 مليون برميل يومياً”.
يبدو أنّ الجميع بدأ يعيد حساباته، حتى إنّ وكالة الطاقة الدولية اضطرّ رئيسها الفاتح بيرول إلى الاعتراف أخيراً بحاجة قطاع النفط والغاز إلى استثمارات بمئات مليارات الدولارات لتلبية الزيادة في الطلب العالمي، مشدّداً على أنّ الاستثمار في الطاقة المتجدّدة يجب ألا يكون على حساب الاستثمار في النفط والغاز.