أيمن جزيني – أساس ميديا
تفترض المبدئيّة في السياسة أن تشتبك مع المغالطات، خصوصاً متى كانت وطنيّة الطابع. أمّا الفاعليّة فيصحّ استخدامها براغماتيّاً استناداً إلى تعريف السياسة الأوّلي بأنّها “فنّ الممكن”. في الحالين يمكن مباشرة السياسة تبعاً لظروف البلد وتراكيبه الاجتماعية والثقافية. وهذا يصحّ صحّة قويّة في لبنان. لكنّ ما ينفي الأمرين هو نهج “التلاعب السياسي” الذي ينتهجه رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. فالرجل لا يتورّع عن مغامرات قاتلة تحقيقاً لمكاسب شخصيّة لا صلة لها بمصلحة لبنان.
الأنا المتضخّمة
على مدى التاريخ اللبناني لم تظهر شخصيّة على مثال جبران باسيل، وعلى هذا القدر من الاستفزاز. فهو يحترف تغليب “أناه” التي يغلّفها بـ “التمثيل الشعبي” ليتحدّث عن حقوق للمسيحيّين في الدولة واجبة على الدولة وعلى مكوّناتها الاجتماعية والثقافية الأخرى.
ففي 13 تشرين الأول من العام 2020 رفع باسيل عقيرته صارخاً: “لا إمكانيّة للعيش والاستمرار مع هذا الدستور النتن والعفن الذي أتانا بدبّابة….”. قال هذا صلفاً وعن معرفة بأنّ خطابه يمزّق أوصال البلد، وينشد تحشيد طرف أهليّ ضدّ الأطراف الأخرى، ويغلّب مناطق على أخرى، حتى إنّه يبدو عنواناً حاسماً لـ”إرادة التفريق والتشتيت” بلا منازع.
يمكن للمسيحيّين أن يبادروا إلى تهنئة باسيل على نجاحه في جعل البلد ساحة لقياس قواه وغرائزه التي تقطِّع أوصال لبنان. قد يستحقّ الأمر أكثر من تهنئة على استخدام فكرة لبنان المجرّدة والمتقادمة ضدّ اللبنانيين في واقعهم وحياتهم الراهنة، على الرغم من جهل باسيل بالفكرة اللبنانية في نشأتها وتاريخها. فهي في تكوينها ومسارها تركيب سياسي لتلافي الصدام بين مكوّنات الصيغة اللبنانية. لكنّ بعض مكوّنات هذه الصيغة اليوم صار يختلف عن أسلافه في مناحي النهوض الديمقراطي.
اجتماع دار الفتوى مثالاً
كانت دار الفتوى مثالاً في اللقاء الأخير الذي عقدته بغية تحقيق إجماع وطني، غير سياسي ظرفيّ. فاللقاء عاين هويّة لبنان، وهي الأصل. وجديد هذه المعاينة أنّها بعثت مُجدّداً “اتفاق الطائف” بما هو عقد اجتماعي – وطني يرتقي على النصّ الدستوري، وقدّم نهائيّات ثلاثاً دفع اللبنانيون أثمانها دماً وخراباً اقتصاديّاً عميماً، منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي أفضى إلى “ثورة الأرز” واغتيال غيره من الساسة وقادة الرأي.
حسمت نهائيّات الطائف هويّة لبنان واللبنانيين لجهة “نهائيّة الكيان” و”عروبة هويّته” و”العيش المشترك” فيه. أمّا خطابات جبران باسيل فتأتي على الضدّ من ذلك. كلّ حراكه السياسي العارم محاولة جدّيّة لتوكيد هويّة بعينها للبلد. تُغويه “جاذبيّة عرض القوّة” مستقوياً بداخل خارجيّ، بل نقيض للدولة (حزب الله)، ضدّ الداخل القائم على العيش المشترك. قد تكون مصلحة لبنان من الأمور التي يمكن أن تخضع لاجتهادات ومناقشات، لكنّ تلمّسها ومقاربتها لا يتمّان من موقع فئوي يغلّب الهواجس الفئوية لطائفة على الهواجس العامّة والتحدّيات التي تحيط بالبلد من الجهات كلّها، وليس من موقع التهويل على البلد وأهله بالسلاح، ولا من موقع مانح شهادات الوطنيّة الممتدّة حبالها من بيروت إلى طهران.
لبنان العزلة والانهيار
لا يمكن تعيين التحدّيات التي تخنق لبنان راهناً من دون اعتبار جدّيّ للهواجس المختلفة والعمل على معالجتها والدفع باتّجاه استقرارها. فالتحدّيات التي تجبه البلد يتحمّل نتائجها اللبنانيون جميعاً. على هذا، فإنّ مصير اللبنانيين مشترك، وينبغي أن يكون التخطيط للمستقبل مشتركاً والانتماء إلى البلد همّاً عامّاً.
لكنّ جبران باسيل في مغامرته كان له الإسهام الأكبر في عزل لبنان عن الدول العربية وعن المجتمع الدولي. وهو برّر خروج “حزب الله” من لبنان إلى غزّة فسوريا ثمّ العراق واليمن، متجرّئاً على معاداة السعودية. سكت عن إحراق مقرّات دبلوماسية عربية…
حسناً، ماذا بعد؟ لقد صار لبنان شكلاً من الدول المُعتدية والمنهارة.
حديث جبران باسيل عن مصلحة لبنان العامّة مبتور دائماً. وهي مصلحة سياسية فئوية وآنيّة. فعل ذلك خلال زيارته دار الفتوى قبل أيّام، مُعلناً لضرورات معركته الرئاسية أنّنا “متمسّكون بالدستور ووثيقة الوفاق الوطني واتفاق الطائف”. لكنّه قبل ذلك بنى سرديّة سياسيّة طويلة وعريضة على اختصامٍ ما اصطلح على تسميته “السُّنّية السياسية”. فصنف منها، حسب باسيل، يرتدي ربطة عنق الفاسدين، وآخر يترك لحيته ليوضع على لوائح داعش والتنظيمات المُتطرّفة.
معاداة الجميع وتشويههم
شيزوفرنيا جبران باسيل ليست طارئة. فهو لم يترك كبيرة أو صغيرة إلا وحاولها حفظاً “للمُلك”. حيناً قاتل باسم الدستور، وحيناً آخر لم يتورّع عن استخدام “الطائفة” مُقارِعاً بها طوائف أخرى. معاركه لا تتوقّف. أصلى الجميع حروباً سياسية ضدّ “عتاة النظام” السياسي، من نبيه برّي إلى وليد جنبلاط. أراد تكسير رأس الأول. وذهب مغامراً وموهوماً باستعادة الجبل إلى زمن الأمير فخر الدين.
مع الداخل المسيحي عامةً، والماروني خاصةً، كان باسيل على قسوته ذاتها. اتّفق مع سمير جعجع على “محاصصة” المسيحيين في الدولة، وبذل كلّ ممكن لإقصاء سليمان فرنجية حتى عن الحضور في إدارات الدولة. أمّا سامي الجميّل فكان يعتبر أنّ تشويهه سياسيّاً كفيل بإقصاء “فتى الكتائب”.
لم تُسجَّل لباسيل “محاولة حواريّة”. أقام حراكه السياسي على الصراعات. قاعدة السياسة الذهبية القائمة على “تحقيق أعلى نسبة نجاح بأقلّ نسبة توتّر” غير موجودة في قاموسه. ما هو موجود وبكثافة عبارات مُستعادة من أرشيف يشوّه “الجمهورية الأولى”، لمعاداة “اتفاق الطائف” بثلاثيّته: العيش المشترك، عروبة لبنان، ونهائيّة الكيان. ما من شيء يستثير حساسيّته أكثر من اتفاق الطائف. وهو في هذا يتشارك عن قصد أو غير قصد مع حزب الله وقوى مسيحية. يعتبر باسيل أنّ الطائف رفع المسلمين درجةً، وأنزل المسيحيّين مثلها.
لماذا دار الفتوى؟
كلّ ذهابه وإيابه في الساحة السياسية استند إلى “فائض سلاح حزب الله وجماهيره، سواء في الانتخابات أو في الانقلابات السياسية بدءاً من عدوان 7 أيار وصولاً إلى اتفاق الدوحة الذي أرسى أعرافاً على النقيض من الدستور. استغلّ كلّ شيء من أجل النفوذ لا من أجل الدولة. والآن يهدّد بهذا النفوذ أن يزيد انقسامات البلد أفقياً وعمودياً. هذا فيما يواصل لبنان سقوطه الحرّ من دون أملٍ يُرتجى.
على أبواب فراغ رئاسي مُحتمل يندفع باسيل إلى قتال وتحشيد، وكأنّ “الرئاسة الأولى” إرث يجب أن يؤول إليه. آخر توجّهاته في هذا الصدد هو من النوع الذي لا يُنذر إلا بشرٍّ مستطير. هي آخر معاركه راهناً حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وعلى قارعة انتظار تسويات من الخارج والداخل، أو انفجار بين هذين. أمام حالٍ كحاله التي تسعى إلى تكسير الرؤوس يصبح السؤال عن “رأسه السياسي”، وهو سؤال جوابه عند باسيل وحده.
أخيراً، لولا نجاح السعوديّة في طيّ البحث في النظام السياسي وفي تثبيت اتفاق الطائف دولياً وخصوصاً فرنسياً، لَما حضر باسيل طائعاً إلى دار الفتوى.