خيرالله خيرالله -أساس ميديا
يختزل الخطاب الذي ألقاه فيصل المقداد وزير خارجية النظام أمام الجمعية العموميّة للأمم المتّحدة مأساة سوريا منذ الانقلاب العسكريّ البعثيّ الذي وقع في الثامن من آذار 1963، وهو انقلاب قضى على الفرصة الوحيدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا. لا توجد كلمة واحدة صحيحة في خطاب يشكو من الاحتلال الإسرائيلي للجولان في العام 1967 ويتجاهل أنّ النظام لم يبذل في يوم من الأيّام أيّ خطوة جدّيّة لاستعادة الهضبة التي احتُلّت في ظروف غامضة حين كان حافظ الأسد وزيراً للدفاع.
إذا استثنينا حرب 1973، وهي حرب شُنّت أصلاً بالتفاهم مع الرئيس الراحل أنور السادات بغية تحقيق أهداف سياسية، من بينها التوصّل إلى تسوية مع إسرائيل، يتبيّن أنّ الجولان لم يكن في يوم من الأيّام، بالنسبة إلى النظام السوري، سوى مادّة ابتزاز لا أكثر.
كلّ ما تضمّنه خطاب فيصل المقداد خطير نظراً إلى أنّه يتجاهل أنّ سوريا التي عرفناها انتهت. يوحي الخطاب بأنّ المطلوب إنقاذ النظام وليس إنقاذ سوريا أو ما بقي منها. مِن أطرف ما جاء على لسان المقداد، وهو سنّيّ من محافظة درعا لا يمتلك أيّ صلاحيّات من أيّ نوع، شكواه من التغيير الديمغرافي الذي تقوم به إسرائيل في الجولان. يبدو أنّه لم يأخذ علماً بالتغييرات ذات الطابع الديمغرافي التي قامت بها إيران في سوريا بهدف تبديد معالم كلّ مدينة من مدنها، بدءاً بدمشق وكلّ المناطق المحيطة بها وصولاً إلى حلب ودير الزور، مروراً بالجنوب السوريّ، بما في ذلك درعا نفسها، وحمص وحماة في طبيعة الحال.
الهروب السوري إلى إسرائيل
تصلح إسرائيل، التي لا يمكن إنكار عدوانيّتها في ما يخصّ الإصرار على احتلال جزء من الضفّة الغربية والقدس الشرقيّة، أن تكون شمّاعة تُعلّق عليها كلّ الأزمات التي تعاني منها سوريا. في مقدّم هذه الأزمات رفض النظام الأقلّويّ القائم الاعتراف بأنّه مرفوض من شعبه. لذلك يهرب المقداد في خطابه إلى اتّهام إسرائيل بـ”دعم داعش”. هل نسي أنّ تنظيم “داعش” وُلد من رحم النظام السوري. فاته ذلك بالطبع. في طليعة ما فاته الدور الذي لعبه النظام السوري في إيجاد هذا التنظيم الإرهابي بإطلاقه سجناء يعرف تماماً أنّهم متطرّفون كانوا في زنازينه. أكثر من ذلك، يعدّد ارتكابات إسرائيل في حقّ الشعب الفلسطيني. نسي أنّ النظام السوري قتل من الفلسطينيين أضعافاً مضاعفة لِما قتلته إسرائيل. ليس مخيّم اليرموك، قرب دمشق، سوى آخر دليل على ذلك.
ليست مأساة سوريا في نظام يعتقد أنّ خلاصه في دعم الحرب الروسيّة على أوكرانيا والموقف الإيراني من المفاوضات بين أميركا والصين في موضوع تايوان. مأساة سوريا في وجود نظام خرّب المنطقة كلّها، ولعب دوراً أساسيّاً في الانهيار اللبناني. المأساة السوريّة مأساة لبنانيّة أيضاً. في أساس هذه المأساة إيجاد موطئ قدم لإيران في لبنان ابتداء من العام 1982 من دون إدراك لمعنى الحلف الذي قام بين دمشق وطهران وأبعاده، وهو حلف جعل من كلّ كلام عن السيادة السوريّة من النوع الذي لا قيمة له.
ليس سرّاً أنّ الحلف الذي أقامه حافظ الأسد مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” كان طابعه مذهبياً أكثر من أيّ شيء. لكنّ الأسد الأب الذي دعم إيران في حربها مع العراق بين 1980 و1988 كان يعرف أنّ ثمّة خطوطاً لا يستطيع تجاوزها. لذلك طلب من معمّر القذافي تزويد “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران بصواريخ استُخدمت في قصف بغداد ومدن عراقيّة أخرى بدل إرسال صواريخ من مخزون الجيش السوريّ.
ليس سرّاً أيضاً أنّ هذا الحلف أخذ بعداً جديداً مع خلافة بشّار لوالده في العام 2000. تُوّج هذا الحلف بتغطية النظام السوري عملية اغتيال رفيق الحريري المعروف مَن يقف خلفها. سمّت المحكمة الدولية المنفّذين من دون مواربة.
بين 28 أيلول من العام 1961، عندما تخلّصت سوريا من كابوس النظام الأمنيّ الدموي الذي قام في ظلّ الوحدة مع مصر، والثامن من آذار 1963 عندما انقلب الضبّاط البعثيون على محاولة إنقاذ سوريا وعودتها إلى بلد طبيعي، قُضي على الفرصة الوحيدة أمام هذا البلد
النظام السوري: الأسد أو نحرق البلد
يشبه القضاء على فرصة الأمل السورية بالقضاء على فرصة الأمل اللبنانية بين 1992 و2005. هذا ما لا يدركه النظام السوري المصرّ على العيش في عالم خاصّ به تختصره عبارة “الأسد أو نحرق البلد”. إنّها العبارة التي رفعها النظام مباشرة بعد اندلاع الثورة السوريّة، وهي عبارة تعني بين ما تعنيه أنّ النظام أهمّ من سوريا والسوريّين.
يؤكّد خطاب فيصل المقداد أنّ سوريا صارت في الحضن الإيراني. ليس مهمّاً أن يعيش البلد في ظلّ خمسة احتلالات (الإيراني والروسيّ والتركيّ والأميركيّ والإسرائيليّ)، بمقدار ما أنّ المهمّ بقاء بشّار الأسد في دمشق. من أجل بقائه في دمشق، ولو صوريّاً، تستطيع إيران أن تفعل ما تشاء، خصوصاً في ضوء السقوط المريع للدور الروسيّ في الحرب الأوكرانيّة.
هل من خلاص لسوريا يوماً؟ الجواب بكلّ بساطة أنّ الكثير سيعتمد على ما يحصل في إيران حالياً. هل تكون الثورة الشعبية الواسعة التي تقودها المرأة الإيرانيّة خطوة على طريق الخلاص من كابوس اسمه النظام الإيراني الذي لا همّ لديه سوى تفتيت نسيج المجتمعَيْن السوري واللبناني، مثلما فتّت المجتمع في العراق؟
يبدو الأمل، سوريّاً ولبنانيّاً، في حصول تغيير في إيران وليس في أيّ مكان آخر. إنّه بصيص أمل ينتظره السوريون واللبنانيون في عالم منصبّ فيه الاهتمام على أوكرانيا. عالم لا يريد سماع شيء لا عن مأساة سوريا ولا عن مأساة لبنان كما عكسهما خطاب فيصل المقداد.