لندن | تحوُّلات أساسية أفرزتها الانتخابات العامّة الاستثنائية في إيطاليا، لم يكن أقلّها إيصال تحالف يميني شعبوي متطرّف إلى السلطة خلَفاً لحكومة ماريو دراغي المستقيلة، وعلى رأسه «حركة إخوة إيطاليا» التي تُجاهر بجذورها المحافِظة الفاشيّة. ومع أن كثيرين أبدوا قلقهم من موجة تَعزّز اليمين في غير ما بلد أوروبي، والتي وصلت الآن إلى روما، إلّا أن السياق الكلّي للحدث العالمي، والذي لا يُناظر ما كانت عليه الحال في عشرينيات القرن الماضي التي شهدت صعود فاشيّة موسوليني، ينبئ بأن الأمور ستظلّ تُرواح في نطاق مقبول لروما وبروكسل على السواء، خصوصاً أن الأخيرة تُمسك الأولى من خنّاقها الاقتصادي
أظهرت النتائج شبه النهائية للانتخابات العامّة الاستثنائية في إيطاليا، والتي أُجريت الأحد الماضي، انتصاراً لائتلاف يميني تقوده «حركة إخوة إيطاليا» (فراتيلي دي إيطاليا) المحافِظة ذات الجذور الفاشيّة المتطرّفة. واستفادت الحركة من حصولها على أكثر من رُبع أصوات الناخبين لضمان إيصال زعيمتها، جورجيا ميلوني (45 عاماً)، إلى منصب رئيس الوزراء كأوّل سيّدة ترْأس حكومة في تاريخ الجمهورية الإيطالية المعاصرة. وحصل الائتلاف اليميني على نحو 44 في المئة من إجمالي الأصوات، ما يعني، وفقاً للنظام المعقّد الذي تُطبقّه إيطاليا لملء مقاعد غرفتَي البرلمان (400 للنواب، و200 للشيوخ) والذي يمزج بين الحسابات النسبية وحسابات الفائز الأوّل، أن اليمين ستكون لديه غالبية قوية للتشريع، لكنها تظلّ قاصرة عن غالبية الثلثَين اللازمة لتغيير الدستور من دون استفتاء.
وكانت ميلوني شخصية ثانوية على هامش المشهد السياسي في البلاد حتى وقت قريب، وحصلت الحركة التي تقودها في انتخابات 2018 على 4.3 في المائة فقط من أصوات الناخبين، وبقيت حركتها الحزب الرئيس الوحيد الذي لم يكن ممثَّلاً في حكومة الوحدة الوطنية التي تزعّمها ماريو دراغي. لكن تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا غيّرت كلّ شيء في إيطاليا، حيث أدّى التضخّم وارتفاع تكاليف المعيشة، إلى تزايد شعبيّة «إخوة إيطاليا»، وانفضاض التأييد مِن حول حكومة دراغي الوسطية وسياساتها المُمالِئة لرغبات المركز البيروقراطي في الاتحاد الأوروبي، وتَوجّهات الولايات المتحدة أيضاً. وتعهّدت ميلوني، التي بدأت مسيرتها السياسية كناشطة مراهقة في الجناح الشبابي لـ«الحركة الاجتماعية الإيطالية» الفاشيّة الجديدة، وتَعتبر نفسها وريثة شرعيّة لتِركة بينيتو موسوليني، بالدفاع عن القِيم الاجتماعية التقليدية والهويّة المسيحيّة لأوروبا، وإغلاق الطرق أمام المهاجرين غير الشرعيين، والتصدّي لـ«البيروقراطيين العدميين» في بروكسل، فيما لم تستبعد إعادة النظر في مبدأ استخدام اليورو – العملة الأوروبية الموحدة -. لكن ميلوني عادت ولطّفت مواقفها الأخيرة، مقترِبةً فيها من «الاعتدال»، حيث وعدت بالحفاظ على تحالفات إيطاليا الأطلسية، واحترام العملية الديموقراطية، وتحقيق «الاستقرار المالي». وقالت للصحافة إن «المراقبين في الخارج» سيرون جدّية حكومتها «بمجرّد أن نُقدّم أوّل قانون للميزانية»، بينما تراجعت مسألة الهجرة إلى مركز متأخّر على قائمة أولويات الإيطاليين، في أعقاب تسجيل انخفاض مثير في عدد قوارب الهجرة، يبدو مردّه تزويد الميليشيات الليبية بالموارد اللازمة لوقف تدفّق المهاجرين المحتمَلين من دول الجنوب.
ومن المُفترض أن يدعو الرئيس الإيطالي، ميلوني، إلى تشكيل الحكومة، بوصْفها زعيمة الكتلة الأكبر، في عملية قد تستغرق شهراً على الأقلّ. ويحذّر معارضو السيّدة الفائزة من روابطها الوثيقة بالأحزاب اليمينيّة الحاكمة في بولندا وهنغاريا، ما قد يقوّي الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي. كما أن انعدام خبرتها السياسية ربّما يتهدّد باستمرار مسلسل الحكومات قصيرة العمر الذي تشتهر به إيطاليا، منذ قيام الجمهورية بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا تمّ تأكيد تعيين ميلوني رئيسة للوزراء، فإنها ستُواجه استحقاقات فورية نظراً إلى الغضب الشعبي من ارتفاع تكاليف المعيشة والركود الاقتصادي داخلياً، فضلاً عن متطلّبات التحالف ضدّ روسيا خارجياً، وهي مسائل ستمثّل اختباراً لقدرتها على إبقاء حدّ أدنى من التماسك بين مكوّنات الائتلاف الذي يدعمها.
وإثر ظهور النتائج الأوّلية، نشرت ميلوني، الإثنين، صورة لها على صفحتها في «فايسبوك»، وهي تحمل بطاقة تقول «شكراً إيطاليا»، وكتبت أن «الإيطاليين قد عهدوا إليها بمسؤولية مهمّة»، و«الآن سيكون دورنا ألّا نُخيّب آمالهم». وكانت جاءت النتائج متوافقة إلى حدّ كبير مع التَوقّعات التي أشارت إلى أن اليمين متّجه إلى نصر محتّم. ويرجع ذلك أساساً إلى أن أحزابه توحّدت في ائتلاف مُتماسك، في حين كانت الخلافات تعصف بأحزاب يسار الوسط التي أقرّ أكبرها (الحزب الديموقراطي) بالهزيمة، بعد أن حصل على أقلّ من 20 في المئة من مجموع الأصوات، وقال زعيمه إنه سيكتفي بدور المعارضة خلال دورة البرلمان الحالي. ولم تتجاوز حصّة تحالف الخضر واليسار الـ3.6 في المئة، فيما حصل حزبٌ يدعم روابط قوية مع أوروبا على أقلّ من 3 في المئة. وقدّم «حزب الرابطة» الشعبوي الذي يقوده ماتيتو سالفيني، والشريك الثاني في الائتلاف اليميني، أداء مخيّباً للآمال، وكاد يحلّ ثالثاً بعد «فورزا إيطاليا»، الشريك الثالث، لولا هامش ضئيل. وحصل «الرابطة» على 8.9 في المئة، مقابل 8.3 في المئة لـ«فورزا» الذي يقوده رئيس الوزراء السابق، سيلفيو بيرلسكوني، العائد بعد فترة من الاستبعاد بسبب سلسلة فضائح أثناء تولّيه الولاية العامة، الأمر الذي قد يقوّي في المحصّلة أوراق ميلوني في قيادة الائتلاف. ولعلّ المفاجأة الوحيدة في كلّ ذلك، الأداء الأفضل من المتوقّع لحركة «خمس نجوم» الشعبوية، التي حصلت على أكثر قليلاً من 15 في المئة بعدما عانت انقساماً حادّاً، وتَوقّع كثيرون تقلُّص مساحات التأييد لها. واستناداً إلى بيانات نِسب المشاركة في التصويت، فقد انخفض إقبال الناخبين من 74 في المئة في دورة 2018، إلى 64 في المئة في هذه الدّورة، ويعكس هذا، إضافة إلى تفتُّت توجّهات التصويت، تراجُعاً في ثقة المواطنين بالنظام الديموقراطي برمّته، إذ لم يرَ أغلب الإيطاليين أيّ تحسُّن ملموس في مستوى دخْلهم خلال عقدَين، فيما أدّى قِصر عُمر الحكومات، من دون أن يتوفّر للزعماء المنتخَبين الوقت الكافي للوفاء بوعودهم الانتخابية، إلى تضخيم الشعور بالاغتراب عن مجمل العملية السياسية لدى كتلة عريضة من الفقراء والمهمَّشين.
في المقابل، تابعت بروكسل باهتمام ما يجري في روما. إذ تخشى بيروقراطية المركز الأوروبي من نوايا الائتلاف الفائز الذي يَجمع مناهضين لها، وعلى رأسهم ميلوني التي من المتوقّع أن تتبنّى سياسة حمائيّة تقلّل من الآثار السلبية للسياسات النيوليبرالية القاسية التي يدعمها الاتحاد. ومع ذلك، فإن لدى بروكسل من الأوراق ما قد يكبح جماح الحكومة الإيطالية الجديدة، ويمنعها من اتّخاذ إجراءات متطرّفة تحت طائلة مواجهة خطر الإفلاس. وتُعدّ إيطاليا، بالفعل، الدولة الأكثر مديونية في منطقة اليورو – بنحو 3 تريليونات يورو، أي أكثر من 150 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي -، وهي بحاجة ماسّة إلى الحصول على حُزمة دعم من الاتحاد الأوروبي بقيمة 200 مليار يورو لإعادة إنعاش اقتصادها بعد جائحة «كوفيد 19»، فيما ينبغي لها الامتثال لتعليمات البنك المركزي الأوروبي إنْ هي أرادت الاستفادة من خطّة جديدة لشراء السندات الحكومية، تبنّاها البنك أخيراً بهدف الحفاظ على تكاليف الاقتراض من التصاعُد في الدول الأعضاء. وفي الوقت نفسه، فإن بروكسل بحاجة أيضاً إلى دعم إيطاليا – ثالث أكبر اقتصاداتها حجماً – لضمان استجابة منسَّقة لظروف المعركة المتغيّرة في أوكرانيا، لا سيّما بشأن واردات الطاقة.
ومع أن كثيرين أبدوا قلقهم من موجة تَعزُّز اليمين في غير ما بلد أوروبي، والتي وصلت الآن إلى روما، إلّا أن السياق الكلّي للأزمة العالمية هذه المرّة، لا يسمح للإيطاليين – ولا لغيرهم من الأوروبيين – بالكثير من «العبث الأيديولوجي» بعيداً عن تَوجّهات واشنطن التي تقود مواجهة حاسمة دفاعاً عن هيمنتها. ولذا، فهي – بقواعدها المنتشرة عبر الأراضي الإيطالية وأيديها الاستخباراتية الممتدّة عميقاً في قلْب نُخبة البلاد السياسية -، يُتوقّع لها أن تضْمن توظيف كلّ نزوع إلى الفاشيّة لخدمة مصالحها حصراً، كما في النموذج البولندي، ولو تَسبّب ذلك عرَضاً بتفتُّت وحدة الأوروبيين. فليست عشرينيات القرن الحالي هي نفسها عشرينيات القرن الماضي التي شهدت صعود الفاشيّة الكلاسيكية، فيما قد لا تكون ميلوني سوى نسخة باهتة من الدوتشي.