لفت حضور رئيس «مجلس السيادة» السوداني، عبد الفتاح البرهان، أعمال الدورة الـ77 للأمم المتحدة في نيويورك، أنظار المراقبين، باعتباره خطوة هامّة على طريق إكساب حُكم العسكر «الشرعية» الدولية، لا سيما أنه أتيحَت للبرهان فرصة لإلقاء خطاب مطوَّل (22 أيلول)، أعاد فيه الترويج لـ«انسحاب المؤسّسة العسكرية من الحوار، وعدم المشاركة في السلطة، إفساحاً في المجال أمام القوى السياسية والثورية المؤمنة بالتحوّل الديموقراطي لتشكيل حكومة بقيادة مدنية»، وصولاً إلى «إجراء انتخابات نزيهة وشفّافة». وبَعد هذا الخطاب بساعات، جدّد البرهان، الذي سبق أن التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو في شباط 2020 في عنتيبي الأوغندية، إثارة مسألة تطبيع علاقات بلاده مع دولة الاحتلال، مبدياً في مُقابلة صحافية (23 أيلول) استعداده لزيارة إسرائيل حال توجيه دعوة له «وتَوفُّر السبل لذلك»، لأن أساس العلاقات هو «المصالحة»، كما قال.
من عنتيبي إلى نيويورك
فَتح اجتماع البرهان بنتنياهو في عنتيبي قبل عامين ونصف العام، الطريق أمام الجانبَين للانخراط في «اتفاقيات آبراهام»، التي أَطلقت، برعاية أميركية، مسار التطبيع بين إسرائيل وعدّة دول عربية من بينها السودان. حرص البرهان، وقتها، على التسويق لكوْن ذلك الاجتماع مدفوعاً بـ«اعتبارات الأمن القومي والمصالح العُليا للشعب السوداني»، لتتّضح لاحقاً رغبة الحُكم الجديد في السودان في الحصول على دعم إسرائيل من أجل «إعادة الارتباط بالمجتمع الدولي». وبعد لقاء أوغندا بعامَين، أكد البرهان أن تلك الخطوة شرّعت باب تطوير التعاون الأمني والعسكري بين الخرطوم وتل أبيب، وهو ما تجلّى بالفعل في اجتماع مسؤولي الجانبَين بشكل منتظم وغير معلَن مذّاك. ومع أن أحاديث إسرائيلية سرتْ عن أن مسار التطبيع واجه عقبات مردّها الانقسام السوداني حول اتّفاق تشارُك السلطة بين الجيش والحكومة المدنية، والذي قاد لاحقاً إلى انقلاب تشرين الأوّل 2021، إلّا أن استمرار الاتّصالات الأميركية والإسرائيلية مع القيادة العسكرية في السودان، وتعميق هذه الاتّصالات – ضمن جهود إقليمية حثيثة برزت فيها مصر والسعودية -، أسهم في إبقاء هذا المسار حيّاً، وصولاً إلى ما بدا أنه نوع من «القبول الدولي» بقيادة البرهان للمرحلة الانتقالية. وما يعزّز التقدير المتقدّم، إبداء الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، خلال وجوده في الإمارات منتصف أيلول الجاري (بمناسبة الاحتفال بمرور عامَين على توقيع «اتفاقات آبراهام») تفاؤله بإمكانية تحقيق تقدّم في ملفّ التطبيع مع السودان، وحديثه عن «مناقشات إيجابية» سبق أن أجراها مع القادة السودانيين وخلص منها إلى وجود «رغبة متبادلة في تحسين العلاقات». وعليه، يبدو كلام البرهان الأخير تتويجاً لمشاورات قائمة بالفعل مع الإسرائيليين، بتسهيلٍ من أطراف عربية.
الرافعة الإسرائيلية
بعد أقلّ من شهر على انقلاب 2021، كشف مسؤولون أميركيون وإسرائيليون أن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، طَلب إلى إسرائيل «تشجيع الجيش السوداني على استعادة الاستقرار في البلاد»، مشدّداً على أن عملية التطبيع مع السودان لا يمكن أن تمضي قُدُماً قبل إعادة إقامة «إدارة شرعية». تلى ذلك، بحسب مصادر إسرائيلية، تَوجُّه وفد إسرائيلي إلى الخرطوم لمقابلة القادة العسكريين هناك، ومن بينهم نائب رئيس «المجلس السيادي»، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي كان قد زار دولة الاحتلال قبل انقلاب تشرين الأول بأسابيع، وعزّز الشكوك في ضلوع إسرائيل في ما جرى لاحقاً. ومع استمرار توالي التقارير عن زيارات عسكرية متبادلة بين الخرطوم وتل أبيب، تجاوَز البرهان، نهاية العام الماضي، الكثير من «الحرج» في هذا الملفّ، معلِناً أن علاقات بلاده مع إسرائيل قد تأخذ في نهاية الأمر «شكلاً طبيعياً»، وأن «(هذا) التطبيع ضرورة لعودة السودان إلى المجتمع الدولي».
على أن الخارجية الأميركية عادت، في نهاية أيار الفائت، إلى تحذير تل أبيب من «المُضيّ قُدُماً في التطبيع (مع الخرطوم) قبل استعادة الحُكم المدني» في الأخيرة، مُشجّعةً في الوقت نفسه الأولى على «الانضمام إلينا وإلى المجتمع الدولي في الضغط بقوّة على قادة جيش السودان للتخلّي عن السلطة، لصالح حكومة انتقالية مدنية ذات مصداقية». وبدا هذا الموقف أشبه بمحاولة لضبط مسار التطبيع، في إطار تأمين رافعة إسرائيلية رئيسة للجيش السوداني في ما تبقّى من المرحلة الانتقالية، ومظلّة حماية له من العقوبات الدولية مرحلياً على الأقلّ، فيما يكون دور واشنطن في ذلك «رقابياً وتنسيقياً» لأدوار الفاعلين الإقليميين. وأنبأ حديث هرتزوغ من الإمارات، ومن ثمّ كلام البرهان من نيويورك عشيّة زيارته القاهرة، بأن تلك العملية الجارية على قدم وساقٍ، تُحقّق بالفعل «مكاسب» فارقة للقيادة العسكرية، تُعوّل عليها الأخيرة طوال الأشهر المقبلة من أجل ضمان «تجميد» الضغوط الدولية القصوى، على الأقلّ.
إحياء «نظام الشرق الأوسط الجديد»
يقع السودان، تقليدياً، في بؤرة السياسة الخارجية الإسرائيلية، التي باتت شبه متطابقة مع مصالح «الحلفاء» الخليجيين في السودان وظهيره الأفريقي. وإلى جانب «التعاون» العسكري – الأمني الراهن، والذي يمتدّ إلى عهدَي الرئيس الأسبق جعفر نميري والرئيس المعزول عمر البشير، فإن الملفّ الاقتصادي يحضر بقوّة أيضاً في هذه العلاقات، ضمن برنامج عمل أوسع، مستندٍ، على ما يبدو، إلى طرحٍ قديمٍ لوزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، آرييل شارون، خلال اجتماعه بنميري في كينيا عام 1982، حيث اقترح تحويل السودان إلى ترسانة إقليمية في إطار «نظام شرق أوسطي جديد»، يهدف، من ضمن ما يهدف إليه، إلى إسقاط النظام الإيراني. ومن هنا، تُعوّل القيادة السودانية الحالية على الاستفادة من صلتها يإسرائيل في قطاعات مِن مِثل الرعاية الصحّية والزراعة والصناعة وتحلية المياه والتجارة، كما تمثّل دولة الاحتلال بالنسبة إليها ضامناً «موثوقاً» لأيّ طلبات تقدَّم مستقبلاً إلى الكونغرس الأمريكي. وفي المقابل، يوفّر السودان لإسرائيل فرصاً استثمارية هائلة في قطاعات الزراعة والتعدين وخدمات الموانئ، إضافة إلى كونه «ملاذاً آمناً» للمهاجرين وطالبي اللجوء الذين يسعون للوصول إلى الكيان العبري.
خلاصة
يبدو أن ملامح «نظام الشرق الأوسط الجديد» قد أخذت في التشكُّل، هذه المرّة في معقل جبهة الرفض العربي إبّان هزيمة حزيران 1967. إذ إن استعداد المكوّن العسكري للذهاب بعيداً في مسار التطبيع مع العدو، مدفوعاً بالدرجة الأولى برغبته في تثبيت حُكمه، يفتح الباب أمام نشوء علاقات «شاملة ومستدامة» بين السودان والكيان العبري. كما أن القابلية التي يُظهرها المكوّن المدني، هو الآخر، للمُضيّ في علاقات من هذا النوع – على رغم الدور الإسرائيلي في تثبيت الانقلاب والذي يُنظَر إليه على أنه مثابة دعم تكتيكي – منذ أيام حكومة عبد الله حمدوك، تلعب دوراً مساعداً في ذلك المجال. وبالنسبة إلى إسرائيل، فإن «تقسيم العمل» الأميركي في السودان يترك لها هامشاً واسعاً لاعتماد أوراق نظام البرهان أو ما بعد البرهان، وإصدار تقييمات لأداء الأوّل في ما تبقّى من المرحلة الانتقالية، حتى تُقرّر المسار الذي ستسلكه علاقاتها مع الخرطوم مستقبلاً.