شكّلت آخر جلسات مجلس القضاء الأعلى أمس لتعيين قاضٍ رديف للمحقّق العدلي في قضية مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، دليلاً إضافياً على بلوغ رئيس المجلس القاضي سهيل عبود مستوى متقدماً في مدّ فتائل للتفجير المؤجل. نكثَ عبّود بوعدٍ قطعه في جلسة الثلاثاء الماضي بأن تكون جلسة الأمس مخصصّة للتصويت على الاسم الذي أرسله وزير العدل هنري خوري (قاضي التحقيق الأول في الشمال سمرندا نصار) كقاض رديف، فرفض افتتاح الجلسة، رغمَ اكتمال النصاب، مُهدداً بـ «الانسحاب، ومعه القاضي عفيف الحكيم، في حال أراد أعضاء المجلس التصويت على اسم نصار»، مانعاً تسجيل محضر!
لكن رفضه المتكرر لم يمُر هذه المرة مرور الكرام، واستحالَ نقاشاً حاداً مع القضاة الحاضرين بأن «ما يفعله غير قانوني وأنهم أعضاء في مجلس القضاء ويحق لهم التصويت، ولا يجوز له اختزال المجلس بشخصه ممارساً ديكتاتورية مطلقة».
احتدّ عبّود، وبدا متوتراً جداً، خصوصاً أن القضاة (لا سيما القاضي حبيب مزهر) حاصروه بوقائع عديدة رداً على اتهامه نصار بأنها «عونية»، مشيرين إلى أنه «صارَ واضحاً توجهه السياسي»، وإلى أنه «طرحَ أسماء عدة رديفة للبيطار كلها تدور في فلك حزب القوات اللبنانية»، فضلاً عن اللقاءات الدورية التي يُجريها مع سفراء أجانب مهتمين بالملف. ولما توجه إليه أحد الحاضرين بسؤال: هل استقبلت أمس السفير الألماني في بيروت وسمعت تهديداً بفرض عقوبات عليك في حال تم السير بتعيين نصار؟ التزم عبود الصمت ورفض التعليق. وسأله مزهر: «ما الذي يمنع تسمية نصار ولتبادر إلى درس ملفات بعض الموقوفين، ولن يحصل شيء إن أطلقت سراح بعضهم؟»، فرد عبود: «لست خائفاً من أن تقوم بتخلية سبيل موقوفين، بل أخشى أن تبادر إلى استرداد مذكرات التوقيف الصادرة بحق الآخرين»، في إشارة إلى الوزراء والنواب.

موقف عبود جاء رغم إشارة حاضرين إلى حالة الموقوفين منذ ثلاث سنوات من دون محاكمة وقرار بعضهم بالإضراب عن الطعام، وإلى وجود حالات صحية حرجة، معتبرين أن القضاء سيتحمل مسؤولية كبيرة في ما لو حصل لأي منهم مكروه، فأجاب عبّود «ما بيهمني»!
في هذه الأثناء، لم يكُن الشارع أقل توتراً، إذ نُظّمت تظاهرتان أمام قصر العدل. واحدة لأهالي الموقوفين للمطالبة بتعيين محقق عدلي رديف للبت في طلبات إخلاء سبيلهم، وأخرى لأهالي ضحايا الانفجار رفضاً للتعيين، وقد وجدَ الطرفان المعنيان في القضية نفسهما وجهاً لوجه، ما أدى إلى وقوع إشكالات من المرجح أن تتطور في الأيام المقبلة كنتيجة طبيعية لإدارة عبود ومجلس القضاء للملف.

دور ألماني مشبوه
جدير بالذكر أن هذه الجلسة أتت بعدَ أيام من حركة ديبلوماسية قادها سفراء غربيون للاستفسار عن قرار القاضي الرديف، على رأسهم السفير الألماني أندرياس كيندل الذي زار وزير العدل هنري خوري ثم رئيس مجلس القضاء الأعلى. وأبلغ السفير الألماني خوري أن تعيين قاض رديف يهدد سلامة التحقيقات ويعتبر تدخلاً من قبل السلطة في عمل القضاء، فردّ وزير العدل: «لدينا موقوفون لم تدرس طلبات إخلاء سبيلهم، وبعضهم قد يموت قبل خضوعه للمحاكمة. لو كانت هذه الحالة في بلادكم، كيف كنتم ستتصرفون؟»، فردّ كيندل بأن هذا لا يبرر تعيين قاض رديف و«المجتمع الدولي سيكون مضطراً للمطالبة بتدويل التحقيق».

ولدى زيارته عبود، يبدو أن السفير الألماني كان أكثر صلافة. إذ سربت مصادر قضائية رفيعة أن عبود سمع «تهديدات مباشرة بأن الاتحاد الأوروبي سيفرض عقوبات على أي قاض يشارك في تعريض التحقيقات التي يجريها القاضي طارق البيطار للخطر» مع إشارة مباشرة إلى فكرة تعيين قاض رديف.
الاهتمام الألماني الخاص بات يثير علامات استفهام كبيرة في الوسط القضائي. إذ تشير أوساط «العدلية» إلى «أن السفير الألماني يوحي وكأن الملف صار في عهدة الألمان نيابة عن الأميركيين وبقية الأوروبيين». وذكّرت هذه الأوساط بالدور المشبوه الذي لعبه الألمان في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري بدءاً من تسريبات مجلة «دير شبيغل» وصولاً إلى الدور الذي لعبه كبير المحققين ديتليف ميليس بالتعاون مع شخصيات لبنانية جهدت لتركيب وتلفيق تهم لضباط ومسؤولين لبنانيين وسوريين وقيادات في حزب الله. وكان لافتاً أن الصحيفة الألمانية التي ادعت عام 2009 أن «لدى المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري أدلة على تورط حزب الله في عملية الاغتيال»، هي نفسها التي زعمت في تقرير لها، في آب الماضي، بالتعاون مع مشروع التغطية الصحافية لأخبار الجريمة المنظمة والفساد «وجود علاقة بين مالك السفينة التي حملت شحنة نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت وحزب الله». ولأن لا شيء يأتي بالصدفة، ولأن مسلسل استهداف الحزب والمقاومة مستمر منذ عام 2005، اعتبرت مصادر معنية أن «المخاوف من محاولة إلصاق تهمة تفجير المرفأ بحزب الله باتت مشروعة»، كاشفة عن «تنسيق وثيق بين السفير الألماني وموظفة ألمانية تعمل في مكتب الأمم المتحدة في بيروت معروف عنها عداؤها الكبير للحزب»، مع الإشارة إلى أن «جزءاً من التقارير التي يتلقاها المكتب يأتي من الكيان الصهيوني»، وقد تكون هناك «محاولات لاستبعاد فرضية أن تكون إسرائيل قد نفذت عدواناً على المرفأ وإلصاق التهمة بحزب الله».

وتساءلت المصادر: «لماذا يهتمّ السفراء الغربيون بقرار تعيين قاضٍ رديف إلى هذا الحد ويجهدون في منع تنفيذ هذا القرار؟ وهل هناك تلاعب قامت به جهات سياسية وقضائية من بينها عبود والبيطار لا يراد لأي قاضٍ أن يكشفها؟ أم أن عبّود وفريقه يريدان الإبقاء على الموقوفين رهائن حتى لا يظهر التحقيق الذي أجراه البيطار فارغاً من أي معطى؟».

استدعاء نائب
وفي تطور جديد مرتبط بالملف، استدعي أمس عضو تكتل «لبنان القوي» النائب شربل مارون إلى القضاء في جلسة ستُعقد الخميس المقبل على خلفية تصريحاته ضد رئيس مجلس القضاء الأعلى، بعدما تقدّم الأخير بشكوى جزائية ضده لدى مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، وذلك خلافاً للقانون وتخطياً للحصانة النيابية. فبدلاً من طلب الإذن من مجلس النواب، وصلت إلى مجلس النواب رسالة لـ «أخذ العلم بالاستدعاء» تشير إلى ملاحقة النائب مارون جزائياً بالجرم المشهود لأنه وصف عبود بـ «المافيا وعدداً من القضاة بالمجرمين وبأن القضاء فاسد وميليشيات»، علماً أن ذلك مخالف للقانون. وفي هذا الإطار، قالت مصادر نيابية إن «ما يقوم به القضاء فيه استباحة وترهيب وكأن لا قانون في البلد»، مذكرة من قامَ بهذا الفعل أن «الخلاف الكبير بين القضاء ومجلس النواب قائم بسبب مذكرات التوقيف والاستدعاءات التي صدرت في حق وزراء مدعى عليهم في القضية، فضلاً عن الخلاف الكبير على الجهة التي لها صلاحية محاسبتهم». وأضافت المصادر أن «الممارسات التي يقوم بها عبّود ستعمق الخلاف مع التيار الوطني الحر في الفترة المقبلة، علماً أن التيار لم يتدخل فيها إلا أخيراً، وأن ذلك قد يفتح باب البحث بتغيير عبّود بعدَ أن كانَ النقاش محصوراً بتغيير القاضي البيطار».