إيطاليا بعد السويد: اليمين المتطرف انتخابيٌ يتراجعُ عندما يحكم

ضجّت وسائل الإعلام الدولية منذ أسابيع بالتحوّل الذي توقّعت أنّه سيجري في إيطاليا بوصول اليمين المتطرّف إلى الحكم في روما. سال حبر كثير حول زعيمة حزب “فريتالي ديتالي” (إخوة إيطاليا) جورجيا ميلوني التي صعدت أسهم تولّيها رئاسة حكومة البلاد المقبلة. وحزبها ينتمي إلى الفاشية الجديدة، وهي لا تخفي إعجابها بموسوليني.

 

مسار اليمين الإيطالي

غير أنّ في الضجيج كثيراً من المبالغة والتبسيط. وهذا ليس سابقة نادرة. فاليمين بتصنيفاته المختلفة حكَم إيطاليا. كان سيلفيو برلسكوني زعيم حزب “فورتزا إيطاليا” (إيطاليا إلى الأمام)، الذي يتعايش مع أطروحات التطرّف، رئيساً للوزراء ثلاث مرّات. فيما ماتيو سيلفيني زعيم حزب “لا ليغا” (الرابطة) لا يُخفي تفاخره بانتمائه إلى يمين شعبويّ متطرّف. وكان وبرلسكوني جزءاً من ائتلاف الحكومة السابقة الذي ضمّ مروحة واسعة من أحزاب من اليمين واليسار برئاسة ماريو دراغي. ورفضت ميلوني دخول هذا الائتلاف وكلّ الحكومات منذ عام 2018، وبقيت في المعارضة، وتعود بعد انتخابات الأحد رئيسةً للوزراء.

أظهرت نتائج الانتخابات الأوّليّة فوز حزب ميلوني بنسبة 26 في المئة (4.3 في المئة في انتخابات 2018). سيحصل تحالفها الثلاثيّ على حوالي 43 في المئة، وهو ما يعني نيل الأغلبيّة المطلقة من المقاعد في البرلمان بغرفتَيْه. بالمقابل لم يستطع الحزب الديمقراطي (يسار) المنافس بزعامة إنريكو ليتا تجاوز عتبة 20 في المئة.

يفوز الائتلاف اليمينيّ انتخابيّاً وسط جدل حول قدرته على الانسجام حكوميّاً ولمدّة طويلة. اعتادت إيطاليا على الحكومات المتأرجحة القابلة للسقوط عند أيّ مفترق. وإذا ما اجتمعت ميلوني مع سيلفيني وبرلسكوني على رفع أطروحات اليمين التقليدية بشأن الأفضليّة الوطنية ومكافحة الهجرة والتدلّل على الاتحاد الأوروبي، فإنّ للحكم قواعد وأصولاً ولغة تختلف عن مضامين الحملات الانتخابية الشعبوية.

 

تطرف الحقبة القلقة

لكن اليمين المتطرّف في إيطاليا يفوز بعد أسابيع على فوز ائتلاف يمينيّ متحالف مع حزب “ديمقراطيّي السويد” اليمينيّ المتطرّف بالأغلبيّة (176 مقعداً). غير أن الفوز تحقّق بفارق طفيف جدّاً عن التكتّل اليساري (173 مقعداً). وقد يبقى الحزب المتطرّف الذي حقّق اختراقاً لافتاً (73 مقعداً) خارج الحكومة، مشكّلاً قوّة دعم وازنة داخل البرلمان.

يعوم التطرّف بخطبه وتشكيلاته على حقبة قلقة. ويوفّر تراكم الأزمات، منذ جائحة كورونا مروراً بالتضخّم وأسعار الطاقة وانتهاءً بالحرب في أوكرانيا، مياهاً غزيرة لطواحينه. ولئن يواجه الاعتدال والوسطيّة أسئلة أمنيّة اقتصادية هويّاتيّة مرتبكة، فمن السهل على ميلوني وصحبها بيع الحلول في إيطاليا والوعد بالترياق السحريّ العجيب.

يسهل التصويب في إيطاليا على الهجرة والمهاجرين. ما زالت هذه المسألة تجذب منذ عقود أصوات اليمين المتطرّف داخل البلدان الغربية. حتى في الولايات المتحدة بنى دونالد ترامب خطابه العقائدي الانتخابي على الحرب ضدّ الهجرة غير الشرعية ورفع شعار “أميركا أوّلاً”، وفاخر ببناء جدار على حدود المكسيك. ومن جهته، يَعِد اليمين المتطرّف في أوروبا، وفي إيطاليا خصوصاً، ببناء جدار مثله وإن بأساليب وأشكال مختلفة.

تكره ميلوني غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا وتقف إلى جانب أوكرانيا وتؤيّد تسليحها وتدعم العقوبات ضدّ موسكو. وفي المقابل برلسكوني صديق حميم لبوتين. سبق أن استقبله في قصره في سردينيا ورافقه إلى القرم بعدما ضمّتها روسيا عام 2014. وقد أدلى قبل أيّام بتصريح قال فيه إنّ بوتين دخل أوكرانيا “مدفوعاً” من شعبه. سبّبت تصريحاته حملة غضب اضطرّته إلى التراجع والإعلان عن ولائه للحلف الأطلسي. في هذه القضية يتباين سيلفيني الذي يرى غزو أوكرانيا “غير مبرّر”، لكنّه يجد أنّ العقوبات على روسيا مضرّة لبلاده وغير فعّالة.

 

يمين الشعارات الانتخابية

قد يقلق الاتحاد الأوروبي من هذا الانزلاق نحو التطرّف في دولة مؤسّسة للمشروع الأوروبي. أنذرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، الخميس، إيطاليا بفرض عقوبات في حال انتهكت المبادئ الديمقراطية للاتحاد الأوروبي. أغضب الإنذار يمينيّي إيطاليا، وطالبها سلفيني بالاعتذار. لكنّه أيضاً أغضب يمينيّين في أوروبا، واعتبر بعضهم في فرنسا أنّ فون دير لاين صارت تمثّل خطراً على أوروبا.

حين شعرت ميلوني أنّها تقترب من الحكم بدّلت لهجتها وخفّفت من بيع الأوهام. راجعت خطابها حيال أوروبا وأسقطت مشروعها للخروج من منطقة اليورو. شيء من هذا القبيل سلكته مارين لوبن زعيمة حزب “التجمّع الوطني” سليل حزب “الجبهة الوطنية” اليمينيّ المتطرّف في فرنسا. أعادت لوبن التصالح مع الاتحاد وعملته، وتراجعت عن فكرة الـ “فريكسيت” (خروج فرنسا من الاتحاد) على خطى بريكست بريطانيا، لكن مع ذلك سُدّت أبواب الإليزيه في وجهها.

لا يستطيع ائتلاف التطرّف أن يطبّق ما وعد به من إجراءات قصوى ضدّ الهجرة والمهاجرين (10 آلاف سنوياً يصلون إلى شواطئ إيطاليا). سبق لسلفيني أن جرّب حظّه حين كان وزيراً للداخلية (2018-2019)، فانتهى خارج وزارته، وتمّت محاكمته العام الماضي بتهمة محاصرة 150 مهاجراً غير شرعيّ في البحر المتوسط، وتعريض حياتهم للخطر. لن يستطيع الائتلاف المضيّ قدماً في خططه من دون الاصطدام بتشريعات الاتحاد الأوروبي وسياسات زعمائه. ثمّ هل تملك روما، في عزّ أزمتها الاقتصادية التي أتت بميلوني وصحبها (2.7 تريليون دولار من الديون تمثّل 150 في المئة من الناتج الإجمالي القومي) أن تواجه بروكسل؟

 

المثال اليوناني

في اليونان أوصلت الأزمة الاقتصادية ائتلاف “سيريزا” اليساريّ إلى الحكم عام 2015. كان في جيب زعيم اليسار أليكس تسيبراس حجج أيديولوجية جاهزة لقصف الاتحاد الأوروبي وليبراليّته. لكنّ الرجل سرعان ما أدرك أنّ “أوروبا” هي مخرج اليونان من تلك الأزمة. موّل الاتحاد خطّة التعافي في اليونان مقابل التزام أثينا بالقواعد والشروط.

في إيطاليا لن يستطيع يمينها المتطرّف أن يرفع كثيراً من سقف الخصومة مع الاتحاد الأوروبي، إذ وضعت الحكومة السابقة خطّة للتعافي خصّص الاتحاد الأوروبي نحو 200 مليار يورو لتمويلها.

يصف خبراء الاتحاد تمويلات أوروبا لإيطاليا بأنّها تاريخية غير مسبوقة ترسّخ مبدأ التضامن والتكامل والتكافل بين دول الاتحاد. تعرف روما أيّاً كان حاكمها ذلك تماماً، وتعرف ميلوني وحلفاؤها أنّ ثرثرة الحملات الانتخابية تُسقطها لغة الأرقام ووجع الواقع وحقائقه.

*كاتب لبناني مقيم في لندن