بريطانيا | وصْفة تراس لـ«الانهيار»: فلْنعلن الحرب على الفقراء!
بعد أكثر من عقْد على اعتماد سياسات التقشّف وما نتج منها من تفاقم للفجوة بين الدخول، طرحت رئيسة الوزراء البريطانية، ليز تراس، موازنة بدت أشبه بـ«إعلان حرب» على الفقراء والأقل حظّاً لمصلحة الأقلية الثرية، وذلك في ظلّ أزمة تضخّم متصاعدة وركود اقتصادي يُرجَّح أن يستمرّ لسنوات. موازنةٌ موجزة لم يكد وزير الخزانة، كواسي كوارتنغ، يعلن عنها في مجلس العموم، حتى ترنّح الجنيه الإسترليني في أسواق المال، ووصل إلى أدنى مستوياته في 37 عاماً
هكذا، اختارت حكومة تراس اليمينية المتطرّفة علاجاً واضحاً ومحدَّداً للأزمة: النمو الاقتصادي السريع. ولتحقيق هذا الهدف، تبنّت الحكومة سلسلة إجراءات لرفْع مستوى نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي إلى 2.5% – بعدما استمر معدّل النمو السنوي يراوح، منذ الأزمة المالية في عام 2008، معدّلاً متوسّطاً قدره 1.5% فقط (مقارنة بـ2.7% قبل الانهيار، وهو الأدنى بين دول مجموعة الاقتصادات الغربية السبع الكبرى، باستثناء إيطاليا التي كانت أسوأ حالاً). وشكّل الأداء الهزيل لاقتصاد المملكة المتحدة سبباً إضافيّاً في مفاقمة الأزمة المعيشة التي دفعت بملايين العائلات البريطانية إلى ما دون خطّ الفقر، تاركةً طبقةً كاملة من التعساء الذين يعتمدون تماماً على بنوك الطعام الخيريّة، والإعانات المتناقصة. وارتفع متوسّط الدخل في البلاد، خلال العقدَين الأخيرَين، بنسبة 9% فقط مقارنةً بـ40% في كل من ألمانيا وفرنسا. ويقول خبراء إن دولاً مِن مِثل سلوفينيا وبولندا، ستسجّل مستويات معيشية أعلى من بريطانيا مع نهاية هذا العقد، في ما لو استمرّت المعدّلات الحالية للنمو على حالها.
لكنّ الإجراءات التي تبنّتها حكومة تراس بدت في مجموعها أقرب إلى تأسيس صريح وعلني لدولة أثرياء. وقالت الحكومة الجديدة إنها ستجمّد فواتير الطاقة للشركات والمصانع لمدّة عامين – على أن تنظر لاحقاً في مدّ هذه التغطية إلى المنازل -، وستعكس زيادة في مدفوعات التأمين الوطني تم فرضها في نيسان الماضي، كما ستلغي الزيادة المخطّط لها على ضريبة الشركات، وستزيل الحدّ الأقصى المفروض على مكافآت كبار المصرفيين. وقبل عطلة نهاية الأسبوع، أعلن وزير الخزانة البريطاني، كواسي كوارتنغ، موازنة قصيرة الأجل تغطّي كل ذلك، وفوقها أكبر مجموعة من التخفيضات الضريبية للأثرياء منذ 50 عاماً، وكسْراً للحدّ الحالي لضريبة الدخل (45%) لأصحاب شريحة الدخول الأعلى، فضلاً عن خفض حادّ في الرسوم المفروضة على أرباح الأسهم.
وبحسب التقديرات، فإن العبء الذي ستتحمّله الموازنة العامّة لتغطية هذه السياسة الاقتصادية – مضافاً إليها التزام تراس بدعم أوكرانيا ماليّاً وعسكريّاً – قد يصل في مجموعه إلى ما يقارب الـ200 مليار جنيه إسترليني (حوالى 220 مليار دولار أميركي)، وهو ما ستتمّ تغطيته من خلال الاستدانة وطبع المزيد من الجنيهات. وتتمتّع المملكة المتحدة بحرية مالية أكبر من دول منطقة اليورو، إذ تستطيع الاقتراض بعملتها الخاصة، وطبع الجنيهات دون الرجوع إلى أيّ سلطة، كما هو الحال على البرّ الأوروبي مثلاً. وقد أثار إعلان الموازنة شعوراً بالصدمة ليس على المستوى الشعبي فحسب، وإنما أيضاً في أوساط المال والأعمال في لندن، وبنك إنكلترا المركزي وحتى بين نواب «حزب المحافظين» الحاكم ونواب المعارضة على حدّ سواء، حيث تشارَك الجميع يوماً محموماً من القلق وتبادل التشكيك في استدامة النهج الاقتصادي الجديد للحكومة البريطانية. واستجابت الأسواق سريعاً، فارتفعت تكاليف الإقراض بشكل حادّ، وترنّح سعر صرف الإسترليني أمام الدولار حتى نزل في تداولات محمومة إلى أقلّ من مستوى دولار واحد وتسعة سنتات، وهو أدنى مستوى تاريخي له منذ 37 عاماً (1985). لكنّ كوارتنغ دافع عن الخطّة المالية لحكومة تراس، مشيراً إلى أن «المقامرة الكبرى كانت في الاستمرار على سياسة الضرائب المرتفعة والنمو المنخفض»، وسخر من ردة فعل الأسواق التي اعتبرها تتحرّك طوال الوقت، منادياً بـ«الحفاظ على الهدوء، والتركيز على الاستراتيجية الطويلة الأجل»، وادّعى بأن لديه استراتيجية لخفض الدَّين كحصّة من الناتج المحلي الإجمالي على المدى المُتوسط. لكنّ هذه الادعاءات بدت غير مستندة إلى أيّ تقييم اقتصادي متّزن، إذ سيكون الاقتراض الجديد لتمويل التخفيضات الضريبية وتغطية تكاليف فرض سقوف على فاتورة الطاقة أكثر تكلفة بالنسبة إلى المملكة المتحدة، مع ارتفاع تكلفة الاقتراض لمدة عامين إلى 4% (مقارنة بـ0.4% قبل عام)، وسَعْي المستثمرين إلى التخلّص من السندات الحكومية. وسيتعيّن على الحكومة اقتراض عشرات المليارات من الجنيهات الإسترلينية لتمويل إجراءاتها، في الوقت الذي يرفع فيه بنك إنكلترا أسعار الفائدة، في محاولته لكبح جماح التضخّم المتصاعد.
ووصف وزير الخزانة الأميركي الأسبق، لاري سامرز، في مقابلة تلفزيونية، إجراءات حكومة تراس بأنها «أسوأ سياسات الاقتصاد الكلي التي اتخذتها أيّ دولة كبرى منذ فترة طويلة»، معتبراً أن المملكة المتحدة تتصرّف كما لو أنها «سوق ناشئة تحوّل نفسها الآن إلى سوق غارقة». كما انتقد بول جونسون، مدير «معهد الدراسات الماليّة» المرموق في لندن، منهجيّة الاقتراض المفرط لتحقيق النمو، واصفاً موازنة كوارتنغ بأنها «حملة اقتراض مبالِغ هائلة بأسعار فائدة باهظة الثمن على نحو متزايد، ووضع للديون الحكومية على مسار صاعد لا يمكن تحمّله، على أمل غير مؤكد بتحقيق نمو أفضل». ويتّفق خبراء وأكاديميون بريطانيون تحدّثوا وكتبوا خلال الأيّام القليلة الماضية، على أهميّة هدف تحقيق نمو لاقتصاد المملكة الكئيب، لكنّ أغلبهم – بمَن فيهم يمينيون محافظون – أبدوا تردُّداً في دعم خيارات حكومة تراس لتحقيق الهدف المنشود. ومن المعروف أن معضلة الاقتصاد البريطاني هي في ذلك النّمو الهزيل للإنتاجية، حيث ارتفع الناتج لكل ساعة عمل بنسبة 0.7% فقط خلال العقد الأخير، ما يعكس مستويات مقلقة من عدم ثقة الاستثمار العام والخاص، وضعف المهارات والتدريب، وبنية تحتية متقادمة ومتهالكة. وبدلاً من معالجة هذه العناصر البنيوية، أعطت حكومة تراس الأولوية للتخفيضات الضريبية الباهظة الثمن والتي ستعود بالفائدة حصراً على أقل من 5% من المواطنين.
الخيارات الأيديولوجيّة لحكومة تراس القائمة على إطلاق حرية السوق إلى أقصاها، ونموذج الدولة الرشيقة، وتحفيز رؤوس الأموال الكبيرة، تبدو جميعها في غير وقتها، إنْ كان داخليّاً أو على المستوى العالمي. وليس لدى السيدة التي أوصلها إلى المنصب التنفيذي الأهمّ في هيكيلة السلطة أقل من 0.17% من الناخبين أيّ نيّة، كما تأكد، في السعي إلى تحسين الخدمات العامة أو مواجهة التباينات الفادحة بين الطبقات وبين الأقاليم، أو الحفاظ على التماسك الاجتماعي بين مواطني المملكة.