أصبح شبه محسومً عدم إنتخاب رئيس للجمهورية في المواعيد الدستورية. هذا ما يُشدّد عليه الخبراء السياسيون الذين يرون في التسريع بتشكيل الحكومة خطوة لملء الفراغ الذي ستُخلّفه نهاية ولاية الرئيس ميشال عون. وإذا كان تشكيل الحكومة أمر جيد وبشرى خير بالمطلق، إلا أن الغموض الذي يلف عملية إنتخاب رئيس للجمهورية سيكون له حكمًا تداعيات على الواقع الإقتصادي والمعيشي في ظل إنقسام حاد، وتمتّع كل وزير في هذه الحكومة بجزء من صلاحيات رئيس الجمهورية، وهو ما يعني تشرذم القرار الإقتصادي وبروز تصفية حسابات من باب الإعتراض و»الفيتوات» على العديد من القرارات التي ستكون الحكومة العتيدة مُلزمة إتخاذها في المرحلة المُقبلة.

هذه المُقدّمة تهدف قبل كل شيء إلى القول إن أي قرار إقتصادي مُستقبلي سيكون خاضعًا بدون أدنى شكّ للتسويات السياسية على الطريقة القديمة، ولن يكون نتاج ضرورات الواقع المعيشي والإجتماعي، ونتاج مُقاربة علمية تأخذ مصلحة المواطن من بين المُسلّمات التي لا يُمكن المسّ بها.

على الصعيد الرئاسي، يربط المعنيون الدعوة إلى جلسة إنتخاب لرئيس الجمهورية بإقرار الموازنة (الأولوية لهذا الملف) وبتشكيل حكومة. ويُشكّل هذان الملفان مع ترسيم الحدود الملفات الثلاث التي ستُبّصر النور قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون.

الموازنة

على صعيد الموازنة، تُشير المعلومات المُتداولة الى أن الاتصالات السياسية نشطت بعد إسقاط نصاب جلسة الموازنة الأخيرة، بهدف تأمين النصاب لجلسة اليوم، مع أغلبية لإقرارها بالتعديلات التي سيتوافق عليها النواب، والتي هي بالدرجة الأولى سعر صرف الدولار المُعتمد والذي سيتمّ إقراره على عشرين ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد بما فيه الدولار الجمّركي.

إعتراض بعض الكتل النيابية على مشروع الموازنة لن يؤتي نفعًا، خصوصًا أن حجم هذه الكتل غير كافٍ لتعطيل النصاب، مع موافقة إحدى الكتل الكبيرة المُعترضة على تأمين النصاب والتصويت لصالح الموازنة.

هذه الموازنة المنوي مناقشتها وإقرارها اليوم في الهيئة العامة للمجلس، سيتمّ تطبيقها من تاريخ صدور القانون، أي على فترة شهرين من السنة فقط. وبالتالي حتى ولو تمّ إقرار موازنة مثالية، فإنها لن تُغير في الواقع الكارثي الذي امتد على فترة عشرة أشهر من السنة، ومن المتوقّع أن تستمر مفاعيله حتى أواخر العام. من هنا نقول إن مفعول الموازنة في حال أقرّت اليوم سيكون مفعول تضخّمي على الشهرين الباقيين من هذا العام، خصوصًا مع الإرتفاع الكبير في النفقات بعد إقرار الزيادات في الأجور، ومع التأكيد على أن المداخيل المتوقّعة من الدولار الجمركي لن تكون على الموعد، نظرًا إلى أن التجار قاموا بإستيراد كمّيات كبيرة في المرحلة السابقة (10 مليار دولار أميركي في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام)، ونظرًا إلى أن عمليات التهريب من الخارج إلى الداخل اللبناني أصبحت ناشطة وستزداد وتيرتها بعد إقرار الموازنة.

من هذا المُنطلق، لا فائدة من الصراع على موازنة العام 2022، بل أن الصراع يجب أن يكون على موازنة العام 2023 بحكم حجم التحدّيات التي تواجه هذه الموازنة، خصوصًا إذا لم يتم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. الفائدة الوحيدة التي يُمكن التعويل عليها من إقرار موازنة العام 2022 هو التدقيق المحاسبي الذي سيقوم به ديوان المحاسبة لاحقًا.

وبالحديث عن ديوان المحاسبة، فقد أصبح من الضروري على السادة النواب إلزام الحكومة بشكل حازم تقديم قطوعات الحساب للمجلس النيابي عن الأعوام المُمتدّة من 2003 وحتى العام 2021 ، في مهلة لا تتجاوز الستّة أشهر، وعدم القيام بهذا الأمر يعني بكل بساطة أن لا جدّية في أي موازنة مُستقبلية!

إذًا اليوم سيلتئم المجلس النيابي في جلستين صباحية ومسائية لإقرار موازنة العام 2022 من دون قطع حساب، وسيتمّ إقفال شارع المصارف كلياً طيلة فترة انعقاد الجلسة، في ظل مُخاوف من قيام مواطنين بالتظاهر أمام المجلس إعتراضًا على الواقع المعيشي الكارثي وعلى التأخير ببتّ موضوع الودائع في المصارف.

موازنة تتأرجح بين الواقع المعيشي وضغوطات الصندوق

إذًا موازنة العام 2022 تتأرجح بين الواقع المعيشي وضغوطات صندوق النقد الدولي، ولكن كيف يُمكّن للدولة تمويل عجزها المتراكم منذ بداية هذا العام، والذي تمّ تقديره من قبل النواب بين 12 و14 ألف مليار ليرة لبنانية (تقديراتنا هي ضعف هذا الرقم!)؟ الجواب عند مصرف لبنان نظرًا إلى أن الحكومة عاجزة عن الإقتراض وعاجزة عن تأمين موارد تسمح بإستمرارية المرفق العام حتى أخر السنة من دون الإعتماد على المصرف المركزي الذي ستُلّزمه الحكومة بإقراضها عملًا بالمادة 91 من قانون النقد والتسليف.

المُشكلة تكمن في أن رفع الأجور بثلاثة أضعاف، وزيادة الموازنات للعديد من المؤسسات، وزيادة الإنفاق العام بحكم ارتفاع سعر دولار السوق السوداء ودولار منصة صيرفة، يعني أن المصرف المركزي أمام خياريين:

– الأول : الإستمرار بإستنزاف إحتياطاته لإمتصاص هذا العجز.

– الثاني : طبع الليرة اللبنانية وهو ما سيكون له تداعيات على سعر الصرف وبالتالي على الموازنة.

أرقام الموجودات من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي أصبحت تُقاس ببضعة أشهر من الإستيراد، وهو ما يُبرّر إلى حدٍ كبير توقف المركزي عن تأمين الدولارات للإستيراد مع العلم أن نصف هذا الإستيراد يذهب إلى التهريب! وهذا الأمر تعلمه الحكومة جيدًا.

إذًا على ماذا الإعتماد لتمويل الإستيراد خصوصًا في ظل غياب إتفاق مع صندوق النقد الدولي؟ في الواقع، هناك من يعتقد أن السوق اللبناني يحوي على حجم دولارات يفوق بأقلّ تقديرات الـ 15 مليار دولار أميركي موجودة خارج القطاع المصرفي. وبما أن الإستيراد هو إنفاق خاص، فإن دولارات الإستيراد سيتمّ تأمينها من الدولارات الموجودة في السوق. لكن كيف سيُمَوِّل من لا مدخول لديه بالدولار إستهلاكه الخارجي؟ أغلب الظن أن هؤلاء سيكونون موضع مساعدات مالية مباشرة من قبل الحكومة و/أو الجمعيات الخيرية.

إذا مما تقدّم، نرى أن الجمود السياسي الحاصل في موضوع الإصلاحات الإقتصادية والمالية والنقدية والمصرفية، وعدم إستيفاء شروط صندوق النقد الدولي لإبرام الإتفاق النهائي الذي على أساسه سيتمّ إقراض الدولة اللبنانية ثلاثة مليارات دولار أميركي على مدة أربع سنوات، سيؤدّيان حتمًا إلى تعاظم الكارثة المعيشية من باب سعر الصرف.

الجدير ذكره، أن قرض صندوق النقد الدولي في حال تم توقيع إتفاق معه، سيذهب حصرًا إلى تمويل توحيد سعر الصرف وتمويل الإصلاحات المنوي القيام بها، على أن تكون الحكومة قادرة في نهاية الأربع سنوات على بدء سدّ دينها للصندوق من مداخيل الموازنة.

الدين العام

المعضلة الأساسية التي تواجه أي إصلاح مهما كان نوعه هو الدين العام. فصندوق النقد الدولي يعلم جيدًا أن الدين العام يُشكّل عبئًا كبيرًا على الحكومة وعلى الاقتصاد وبالتالي مع حجم دين عام إلى الناتج المحلّي بمستوى حجم الدين العام اللبناني، هناك إستحالة لإستعادة العافية المالية للدولة. من هنا كان شرط الصندوق تخفيض الدين العام إلى أقلّ من 100% من الناتج المحلّي الإجمالي.

البدعة التي قامت بها الحكومة لخفض الدين العام هو عبر شطب ديونها للمصرف المركزي الذي نقلت إلى موازنته مُعظم دينها وللمصارف التجارية! والمعروف أن 85% من هذا الدين هو داخلي ويعود بقسم كبير للمودعين في المصارف اللبنانية. فكيف لها أن تكون حَكَمًا بين القطاع المصرفي وبين المودعين في وقت هي سبب هذه الأزمة؟ للتذكير فإن الخاسر الأكبر في عملية شطب ديون الدولة، هم المودعون يليهم المصارف التجارية ومن ثم المصرف المركزي. وكل هذا من دون قطوعات حساب منذ العام 2003 وحتى العام 2019 تاريخ بدء الإنهيار المالي للدولة تُبرّر أين تمّ صرف الدين العام؟

المصارف التي قرّرت فتح فروعها بدءًا من اليوم، ولكن بقنوات يحدّدها كل مصرف وفرع، ستُعاود عملها من دون أي تعديل في المعطيات المالية أي أنها ستستمر بالعمل على أساس تعاميم مصرف لبنان، مع فارق بسيط أن الأسباب التي أدّت إلى إقفال الفروع الأسبوع الماضي لم تندثر، وبالتالي وفي حال حصول أي إقتحام جديد، هل ستُقفل المصارف فروعها من جديد خصوصًا أننا على أواخر شهر أيلول أي فترة سحب الرواتب من المصارف؟

بإعتقادنا وبغض النظر عمّا إذا أقفلت فروع المصارف أبوابها أم لم تُقفلها، عملية إقتحام المصارف شكّلت مدخلًا لخطوات مستقبلية، إن من ناحية طريقة عمل المصارف أو من ناحية قراراتها الوجودية. وإذا كان بعض القيمين على هذا القطاع يضعون أمالًا على حلّ يأتي من الحكومة، إلا أن المرحلة القادمة محفوفة بغموض سياسي كبير سيكون مُكلفًا جدًا وسيدفع ثمنه المواطن والمودع ولن يكون تشكيل الحكومة ولا إقرار الموازنة ولا ترسيم الحدود ذات منفعة بعد ذلك.

من هنا نرى أن الحسابات السياسية التي تحظى بأولوية في التعاطي الحكومي على حساب مصلحة المواطن، يجب أن تتوقّف فورًا تحت طائلة جرّ البلاد إلى مزيد من المآسي الاجتماعية.