محكومون بالموت مرتين!
86 ضحية و50 مفقوداً، هي الحصيلة الأخيرة في هذه الساعات لحادثة غرق مركب قرب السواحل السورية في طرطوس والذي حمل على متنه أكثر من 150 شخصاً بينهم لبنانيون وفلسطينيون وسوريون وجنسيات عربية أخرى، من ميناء المنية شمال لبنان، “هرباً من الجحيم”، (على حدّ وصف أحد المحاولين بالهرب) وأملاً بالوصول الى أبواب القارة الأوروبية.
يعزو بعض الناجين أو ذوي الضحايا والمفقودين في حديثهم على الاعلام، أسباب الاقدام على مثل هذه المخاطرة، المعروفة بنسبتها العالية بالفشل، نظراً الى العديد من الحوادث المماثلة، بالأوضاع الاقتصادية الصعبة جداً في لبنان والتي تفاقمت في السنوات الثلاث الماضية مع تدهور سعر صرف الدولار وخسارة الرواتب والعائدات المالية لقدرتها الشرائية، فيما خسر أرباب الأسر والشباب كلياً وظائفهم أو لم يعودوا قادرين على الإنتاج في مصالحهم الخاصة. ما أدّى بطبيعة الحال الى تفاقم الأزمات المعيشية. ويضيف آخرون أن الهجرة الشرعية في لبنان باتت أيضاً مسألة صعبة بسبب أزمات البلد المترابطة فيما بينها، اذ يصعب،منذ سنة على أقل تقدير، الحصول على جواز سفر.
تغيب مقومات الحياة عن أحياء مدينة طرابلس، التي تعتبر منسية بالنسبة للدولة اللبنانية أولاً، ومن أثريائها وذوي المناصب السياسية باستثناء الأشهر ما قبل الانتخابات النيابية كل أربعة أعوام طمعاً بحصد الأصوات الناخبة. وحسب شهادات هؤلاء، يصبح ذهاب الأولاد الى المدارس، وتوفر المياه والكهرباء من الأحلام نادرة التحقق.
صنّفت دراسات البنك الدولي طرابلس بالمدينة الأكثر فقراً على ساحل المتوسط، وتشير الى أن أكثر من نصف سكانها يعيشون تحت خط الفقر. وإن شمال لبنان يضم الاكثرية المطلقة من عدد الفقراء في لبنان، أي ما يعادل نحو 290 الفاً أو ما نسبته 36 % من مجمل عدد اللبنانيين. ورصد International Poverty Center في دراسة نشرت عام 2018 حول النمو وتوزيع الدخل في لبنان، أن نسبة الفقر ترتفع في طرابلس لتشمل 57% من مجمل سكانها.
أما في دراسة أعدتها “اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا” (الإسكوا) بالتعاون مع “برنامج الامم المتحدة الإنمائي” ووزارة الشؤون الاجتماعية، عام 2015، تبيّن أن نسبة الذين يعيشون ضمن ظروف صعبة تجاوزت الـ 75% من عدد سكان طرابلس الذين يبلغ تعدادهم نحو 600 ألف نسمة، وترتفع هذه النسبة إلى 90% في بعض الأحياء، مثل “باب التبانة” و”حي التنك” ومنطقة “السويقة”.
كما أوضحت دراسة لمؤسسة البحوث والاستشارات، فإن حوالي 73% من الأسر في طرابلس لا تملك أي نوع من التغطية الصحية وترتفع أعداد الوفيات خاصة لدى الأطفال، اذ يسجّل وفاة 53 طفلاً دون الخمس سنوات من بين كلّ ألف طفل. وتنخفض نسبة التحاق الأطفال بالمدارس.
تجدر الإشارة الى أن كلّ هذه الاحصائيات كانت قبل وصول البلد الى ذروة الأزمة في أواخر العام 2019، فهل يمكن التوقّع الى أي واقع كارثي قد وصلت اليه الأوضاع في الشمال؟
تضم مدينة طرابلس أيضاً مخيمات اللجوء، وأبرزها مخيم “نهر البارد” الذي هو أول مخيم يقام للاجئين الفلسطينيين في المنطقة بعد النكبة عام 1949. ويعاني المخيم من عدة مشاكل تتعلق بضعف البنية التحتية والاكتظاظ السكاني، حيث يضم حسب إحصاءات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أكثر من 31 ألف لاجئ فلسطيني (لغاية العام 2014). وتعاني نحو 1600 عائلة من الفقر الشديد، إضافة إلى أنه لا يوجد غير مركز صحي وحيد يستقبل يوميا نحو 500 مريض.
حادثة غرق المركب منذ أيام والذي تواصل فرق البحث والإنقاذ السورية العمل على انتشال الجثامين والعثور على المفقودين والناجين، لم تكن الحادثة الأولى ولن تكون الأخيرة، اذ لم تبقى الأزمة المتفاقمة وغياب الدولة والجهات الراعية خياراً أمام سكّان الشمال سوى “الانتحار” في البحر.
الكاتب: الخنادق