تحقيقات - ملفات

الحرب النفسية في خطاب السيد نصر الله

حين نتحدّث عن سماحة السيد حسن نصر الله حفظه الله، وهو الأمين العام لحزب الله أحد أهم التنظيمات تأثيرًا في المنطقة في عصرنا الحاضر، فنحن هنا نتحدّث عن شخصية أخذت اليوم بُعدًا مركزيًا في العالمين العربي والإسلامي، خاصة وأنّ دور حزب الله بات إقليميًا في المرحلة الأخيرة. فمع تخطّي الحزب حدود الوطن، ولعبه لعدّة أدوار في المنطقة، كان قائد هذا الحزب هو الرجل الأوّل الذي يحتل قلوب وعقول الناس المنتمين لبيئة المقاومة التي أصبحت واقعة في شعاع “أمّة”.

كان خطاب سماحته يتجدد في مناسبات مختلفة، القومية والإسلامية والدينية والسياسية. وكانت وتيرة هذه الخطابات تأخذ منحًى تصاعديًا، لتصبح خطابات “طاقة” ترفع معنويات الأمّة، توجّهها لخياراتها الثوريّة الصحيحة، وتعيد برمجة وعيها، وتضعها أمام مقولات ثقافية تكون الركيزة لها في قبالة “ثقافة الاستسلام” كطريقٍ منهجيّ لوضع أسس “قواعد المقاومة والممانعة” للمشروع الصهيو-أمريكي.

يُلحظ من خطاب سماحته أنّه مبني على بنية معرفية وأيديولوجية عميقة أسّس من خلالها لأحد أهم عناوين اقتدار الأمّة في العصر الحديث وهو “مفهوم المقاومة” مستفيدًا من أستاذه الإمام الخميني “قدّس سرّه” صانع التحوّل في المنهج المقاوم.

فهذا المفهوم سرعان ما تحوّل لحالة شعبية، مع طرح مقومات هذه المقاومة بخلفيتها العقائدية، والتي كان لسماحته موعد مع طرحها في خطبه العاشورائية التي لطالما ربط فيها مقاومة العدوّ الصهيوني بمقاومة الجيش الأموي اليزيدي إبّان ثورة الإمام الحسين عليه السلام. هذه المقاومة العقائدية تختلف بنتائجها عن تلك المتعلقة بالقوميات، لأنها تحاكي الرؤية الوجودية للإنسان، وبالتالي دوافع هذه المقاومة أكبر وأعمق خاصة عندما نتحدّث عن الإيمان بهذا الخيار الفطري واليقين بصوابيته نظرًا للشواهد النقلية التي تعرض مفهوم النصر الإلهي وعلاقته الطردية بالدفاع عن الحق والذي يتمثّل اليوم بالحالة الدفاعية المقاومة التي يمارسها حزب الله في المنطقة.

قدّم سماحته، بالإضافة للخطاب الديني الثوري، خطابًا سياسيًا رفع من خلاله الوعي الجمعي للأمّة، فهو الذي وضّح المخاطر التي تحيط بالأمّة والمؤامرات التي تُحاك حولها، فهو يبدأ بالفهم والوعي السياسي للوقائع لينتقل بهذا الوعي للتوجّه العملي الذي سرعان ما أصبح قوّة ممنهجة، قطعت على العدوّ طريقه لاغتيال وعي الأمّة.

إنّ لقوّة الخطاب لدى سماحته شقًّا يتعلّق بما يقدّمه حفظه الله من مفاهيم إنسانية ومضمون ثوري، وشقًا آخر يتعلّق بالشخصية الكاريزمية لسماحته والتي تلعب دورًا كبيرًا في جذب المستمع، فلو أنّ القضية تتوقف على المضمون لما سمعنا عن كون الشعب الإسرائيلي يثق بما يقوله سماحة السيد أكثر من ثقته بحكومة الاحتلال، وهو ما وصفه البعض بأنّه خسارة “إسرائيل” لسلاحها الإستراتيجي، إذ بفقدان ثقة المستوطن والتفويض الشعبي سيعاني الاحتلال من أزمة ثقة بين المستوطن والقيادتين العسكرية والسياسية. بينما الأمر على النقيض تمامًا بالنسبة لحزب الله؛ فخطاب سماحة الأمين العام هو أحد أمضى الأسلحة الفتّاكة والإستراتيجية الذي يحتوي على مصداقية عالية وقدرة بيانية جذّابة، وبذلك يكون هذا الخطاب جسر تواصل بين رأس الأمّة وجسدها.

لا شك في تجذّر السيد في الوعي العربي، والإسلامي، والوعي المقاوم، وتأثيره في الوعي الإسرائيلي، فهو الذي ينتظره العدوّ قبل الصديق، وفي ذلك دلالة واضحة على أهمية هذا الخطاب الذي أصبح “سلاح حرب نفسية” فاعلًا ومؤثّرًا، فاليوم في إسرائيل يُعتبر خطاب السيد سلاحًا يُعطي حزب الله تفوّقًا لجهة كونه يشكّل حربًا على الوعي داخل الكيان، كما يمكن أن يعبّر بكون هذا الخطاب هو عملية “دخول إلى رأس العدوّ” وتخريبه وزرع الخوف في داخله، وهذا ما عاينّاه من تأثيرات هذا الخطاب على المجتمع الإسرائيلي.

في حرب تموز 2006، شكّل خطاب السيد قوّة تفوق رشقات الصواريخ التي كان يرسلها حزب الله بحسب تعبير مراكز أبحاث العدو، فهي ترى فيه عدوًّا صادقًا ومرًّا، خبيرًا عسكريًّا مقتدرًا، وخبيرًا بخفايا المجتمع الإسرائيلي، وقد قيّمت خطاباته على أنها “ظاهرة” لم يسبق لها مثيل في تأثيراتها الإعلامية.

لليوم، وبعد مرور أعوام على إطلاق السيد لسلاحه ذي القوتين الجاذبة لجمهوره، والقاتلة لعدوّه، لم يستطع أحد من الحد من تأثيرات هذا الخطاب الذي غدا يشكّل مركز ثقل وازن لدى محور المقاومة؛ فالحرب اليوم حرب أدمغة، تحتاج لعناصر معرفية تكون منصات يُبثّ منها الوعي، فهي لا تقل أهمية عن الجهدين العسكري والحربي، بل تتكامل معهما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى