الانتصار الذي يدعو كونستانتين مالوفييف، رجل الأعمال الروسي القومي، إلى الصلاة لأجله، يمثّل خيار روسيا الأوحد، ويعني، في المقابل، ليس هزيمةَ أوكرانيا التي تقاتل بالنيابة عن الغرب، بل هزيمة هذا الأخير وانكسار منظومته، وما سيستتبع هذه الهزيمة من إعادة تشكيلٍ لـ«النظام الدولي القائم على القواعد»، محور الارتكاز في المواجهة المستعرة بين روسيا والعالم الغربي. لن تقبل الولايات المتحدة، بحال من الأحوال، بسيناريو يُنهي «هيمنتها»، وإن كانت تسير في منحى انحداري يهدِّد «النظام العالمي» الذي يمرّ «بواحدة من مراحله المفصليّة الخطيرة»، مع عودة بعض «أسوأ مظاهر الجغرافيا السياسية»، ومن سِماته «تنافس القوى العظمى، والطموحات الاستعمارية، والصراعات حول الموارد»، فيما أميركا «الممزّقة داخليّاً» و«الضعيفة» و«التائهة»، لن تكون مستعدّة أو قادرة على تولّي القيادة على المسرح الدولي، على حدّ توصيف ريتشارد هاس، في مجلة «فورين أفيرز».
لم تخفِ الولايات المتحدة وحلفاؤها أن هدفهم النهائي من الحرب الآخذة في الاتّساع على المسرح الأوكراني، والدولي، إضعاف روسيا عبر استنزافها، وصولاً إلى هزيمتها ولاحقاً تفكُّكها، إذ هي تمثّل، وفق تقدير هاس نفسه، «مشكلة حادّة» للولايات المتحدة على المدى القريب. ومن هذا المُحدّد (هزيمة روسيا)، تنطلق الدعوات إلى «مساعدة أوكرانيا في تحقيق نصر أسرع» من شأن رفدها بسلاح نوعي، من مِثل «صواريخ طويلة المدى ودبابات قتالية متطوّرة»، أن يساهم في تحقُّقه. هذه المناشدة على لسان وزير الخارجية البريطاني الأسبق، وليام هيغ، جاءت في سياق دعوته الغرب إلى «الاستعداد» للخطوة التالية التي قد يخطوها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووضعه ثلاثة سيناريوات يُحتمل أن يلجأ إليها الكرملين: أولها، إعلان بوتين التعبئة الكاملة للاقتصاد والمجتمع الروسيَّين (حرب تقليدية شاملة) من خلال استدعاء مليونَي جندي احتياطي، وتحويل عمل المصانع إلى إنتاج الذخيرة، وهو خيار تكمن خطورته في أنه «يتطلّب وقتاً لتحقُّقه، ويمكن أن يؤدّي إلى انهيار الدعم الشعبي للحرب»؛ ثانيها، التهديد باستخدام أسلحة الدمار الشامل أو استخدامها فعليّاً، وهو الخيار «الأكثر جنوناً لأنه سيوحّد العالم كلّه ضدّ بوتين، ولن يُكسبَه الحربَ»؛ ثالثها، العيش للقتال في يومٍ آخر، أي الانسحاب تحت عنوان «إعادة الانتشار» نحو خطوط أكثر تحصيناً، وتلك خطوة ستُظهر الروس بصورة المهزوم؛ وهذا، يقول كونستانتين مالوفييف، ليس خياراً.
ليس وليام هيغ وحده مَن رسم السيناريوات المتاحة أمام روسيا؛ إذ وضعت ليانا فيكس وزميلها مايكل كيماج، في مجلة «فورين أفيرز»، تصوّرهما لِمَا يمكن أن تكون عليه الخطوة التالية لبوتين، الذي بقي حتى بداية الشهر الحالي، يمسك بطابتين في الهواء: الأولى، مواصلة حرب طويلة الأمد بـ«جيش طُوّر لمرحلة سلام»، بعدما أخفق في إدراك حجم قوّة الجيش الأوكراني، واعتبر أن حرباً طويلة تخدم روسيا أكثر؛ والثانية، ضمان بقاء المجتمع الروسي بمنأى عن الحرب، وضمان استمرار حصول بوتين على دعم شعبي في حربه، طالما أن الروس لا يواجهون تكاليفها المباشرة، وهي حسابات «أطاحتها مكاسب الجيش الأوكراني حول خاركيف». ويرى الكاتبان أن بوتين يواجه حالياً مجموعة من الخيارات القاسية، منها، أنه قد يُبقي على التزام الجيش الروسي بحدوده الدنيا، وعلى عدد القوات الروسية الحالي، أو بإمكانه إعلان التعبئة العامة. وبرأي «فورين أفيرز»، يشكّل الخياران معضلة للرئيس الروسي، وخطراً على شرعيّته. فَمِن شأن الأوّل، إغضاب «القوميين» الذين وُعدوا بحرب خاطفة. أمّا الخيار الثاني، أي التعبئة العامة، فسيعدّل بصورة راديكالية الإدارة الروسية الحذرة للحرب، في الداخل.
اختار الرئيس الروسي، بعد الهجوم الأوكراني المضاد وتمكُّن كييف من تحقيق خروقات مهمّة حول خاركيف، أن يخطو نحو تعبئة عسكرية «جزئية» (استدعاء 300 ألف فرد احتياطي)، هي الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، منذراً الغرب بأنّه إذا استمرّ في ما وصفه بـ«الابتزاز النووي»، فستردّ موسكو بكلّ القوّة التي لديها في ترسانتها الضخمة «بهدف الدفاع عن وطننا الأمّ وسيادته وسلامة أراضيه، وتأمين الأمن لشعبنا هنا وفي الأراضي المحرّرة»، على أن يجري استفتاء على الانضمام إلى روسيا في أربع مناطق أوكرانية تمكّنت القوات الروسية من انتزاعها، وتشكّل نحو 15% من مساحة الأرض الأوكرانية. بهذا القرار، أي ضمّ أجزاء كبيرة من أراضي جنوب أوكرانيا وشرقها، يريد بوتين ثَنْي كييف وحلفائها الغربيين عن مهاجمة ما يعتبره «أرضاً روسية»، ممهدّاً الطريق أمام التعبئة الشاملة أو حتّى الحرب النووية، والتقدير لصحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، والتي تصف التصعيد الأخير بـ«المقامرة» التي تؤكد «تقلُّص مساحة المناورة لدى بوتين في أوكرانيا، كما في روسيا». في السياق عينه، يشير روب لي، من «معهد أبحاث السياسة الخارجية»، إلى أنه «من خلال إعلان هذه المناطق أراضي روسية، ربّما يأمل بوتين أن يتمكّن من وقْف تقدُّم أوكرانيا وردْع رغبة الغرب في إرسال مزيد من السلاح»، لأنه سيثبت أن «أيّ هجوم هنا على يد القوات الأوكرانية أو عبر أسلحة الناتو، سيتمّ تفسيره على أنه هجوم ضدّ روسيا». لكن قادة الغرب دانوا الاستفتاءات، وكرّروا دعمهم لمحاولات أوكرانيا استعادة أراضيها، وجدّدوا استعدادهم لتزويدها بسلاح عالي التقنيّة. من هنا، لا يرجّح صاموئيل شاراب، كبير علماء السياسة في مؤسسة «راند»، أن «تؤتي مقامرة روسيا ثمارها»، قائلاً: «لا أعتقد أن بوتين يستوعب بالكامل عواقب ذلك. ماذا يحدث عندما تحتلّ أوكرانيا الأراضي الروسية؟ ثمّ تكون الخطوة التالية هي إعلان الحرب إذا استعادت أوكرانيا السيطرة عليها». يشكّك العديد من المحلّلين أيضاً في أن يكون للتعبئة الجزئية تأثير سريع في ساحة المعركة، ذلك أنها تستغرق عدّة أشهر لتدريب جنود الاحتياط وإنشاء وحدات جديدة. ووفقاً لـ«معهد دراسة الحرب»، يضمّ الاحتياطي الروسي مليونَي مجنّد سابق وجندي متعاقد، لكنّ قلّةً من هؤلاء «على استعداد للقتال»، إذ تُقدّر دراسةٌ لـ«راند» نُشرت في عام 2019، بأن لدى روسيا 4000 إلى 5000 جندي احتياطي «بالمعنى الغربي لتلقّي تدريب شهري وسنوي منتظم». على أن «التعبئة الجزئية تجعل الحرب أقرب إلى الوطن… أعتقد أنه لو كان في مقدور الكرملين تجنّب ذلك، لَفَعَل. لكن للصراع منطقه الخاص، قد يقود أحياناً إلى اتّخاذ قرارات غير شعبية»، وفق دينيس فولكوف، مدير مركز «ليفادا» لاستطلاعات الرأي.