ولأوّل مرّة منذ الحرب العالمية الثانية، أمر بوتين بإعلان التعبئة الجزئية في البلاد، وهو القرار الذي كان من الضروري اتّخاذه بحسبه، لأنه «مناسب تماماً للتهديدات التي نواجهها، أي حماية وطننا الأم وسيادته وسلامته الإقليمية، وضمان أمن شعبنا وشعبنا المحرَّر». وأوضح أن إجراءات التعبئة ستبدأ من 21 أيلول، مبيّناً «(أننا) نتحدّث عن التعبئة الجزئية، أي أن المواطنين الموجودين حالياً في الاحتياط، وقبل كلّ شيء أولئك الذين خدموا في القوات المسلّحة، ولديهم تخصّصات عسكرية معيّنة وخبرة ذات صلة، سيخضعون للخدمة العسكرية. أولئك الذين تمّ استدعاؤهم للخدمة العسكرية سيخضعون لتدريب عسكري إضافي، مع مراعاة تجربة العملية العسكرية الخاصة، قبل إرسالهم إلى الوحدات». ولفت بوتين إلى أن القوات الروسية تعمل على خطّ تماس يتجاوز ألف كيلومتر، مشيراً إلى أنها لا تواجه فقط تشكيلات «النازيين الجدد» في أوكرانيا، بل «في الواقع الآلة العسكرية الجماعية للغرب». وتحدّث الرئيس الروسي، لأوّل مرّة، عن مسار المفاوضات مع أوكرانيا، كاشفاً أن «كييف وافقت على كلّ المقترحات الروسية المتعلّقة بالدرجة الأولى بضمان أمن روسيا ومصالحها، إلّا أن الغرب أوعز إليها بتعطيل جميع الاتفاقات المتوصّل إليها». وتابع أنه «بعد ذلك، بدأ ضخّ المزيد من الأسلحة، إضافة إلى مجموعات جديدة من المرتزقة والقوميين الأجانب، ووحدات عسكرية مدرَّبة وفقاً لمعايير الناتو، وتحت القيادة الفعلية للمستشارين الغربيين». وبشأن قرار مناطق لوغانسك ودونيتسك وزابوروجيا وخيرسون إجراء استفتاءات للانضمام إلى روسيا، أكد بوتين تأييده لقرار سكّان هذه المناطق.
كذلك، تطرّق الرئيس الروسي إلى إجراءات إضافية يتضمّنها مرسوم التعبئة الجزئية، موضحاً أن «رؤساء مؤسّسات الصناعة الدفاعية مسؤولون بشكل مباشر عن مهام زيادة إنتاج الأسلحة والمعدّات العسكرية، ونشْر قدرات إنتاجية إضافية»، كما أن على الحكومة «أن تحلّ فوراً جميع المسائل المتعلّقة بالمواد والموارد والدعم المالي لمؤسسّات الدفاع». وحذّر بوتين من أن «الغرب تجاوَز كلّ الخطوط في سياسته العدوانية المناهضة لروسيا»، مبيّناً أن الأمر «لم يَعُد مجرّد سماع مسؤولين غربيين مستهترين بشأن إمداد أوكرانيا بأسلحة هجومية بعيدة المدى، وإنّما بدأت القوات الأوكرانية بالفعل بقصف حدود مدننا في القرم وبيلغورود وكورسك». وأضاف إن «واشنطن ولندن وبروكسل تدفع كييف مباشرة إلى نقل العمليات العسكرية إلى أراضينا»، متابعاً أن هذه الأطراف تقول صراحة إنه «يجب هزيمة روسيا بكلّ الوسائل في ساحة المعركة، مع ما يترتّب على ذلك من حرمان سياسي واقتصادي وثقافي، وبوجه عام، من أيّ سيادة، مع نهب كامل لبلدنا». إضافة إلى ما تَقدّم، تحدّث بوتين عمّا سمّاه «الابتزاز النووي» الحاصل، ليس لناحية قصف محطّة الطاقة النووية في زابوروجيا، والذي يشجّعه الغرب ويهدّد بكارثة نووية كما قال، فحسب، وإنّما أيضاً في «تصريحات بعض كبار ممثّلي دول الناتو حول إمكانية استخدام أسلحة الدمار الشامل ضدّ روسيا». وتَوجّه إلى «مَن يطلق مِثل هذه التصريحات» بالقول: «أودّ تذكيرهم بأن بلادنا كذلك تملك أسلحة دمار شامل، وفي بعض أجزائها أكثر تطوّراً من نظيراتها لدى دول الناتو»، منبّهاً الغرب إلى أنه لا يخادع عندما يقول إنه مستعدّ لاستخدام الأسلحة النووية «أمام أيّ تهديدات لوحدة أراضينا أو سيادتنا»، مخاطِباً المواطنين الروس بأنه يمكنهم التأكّد «من ضمان سلامة أراضي وطننا الأم واستقلالنا وحريتنا، وأؤكد ذلك مرّة أخرى، بكلّ الوسائل المُتاحة لنا».
وعلى إثر خطاب بوتين، أعلن وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، أنه سيتمّ استدعاء 300 ألف جندي احتياطي في إطار التعبئة الجزئية. وقال شويغو، في مقابلة مع قناة «روسيا 24»، إن «لدينا موارد تعبئة ضخمة لأولئك الذين خدموا، أولئك الذين لديهم خبرة قتالية، تخصّص عسكري. لدينا ما يقرب من 25 مليوناً منهم. وبالتالي، يمكن أن نفهم أن هذه التعبئة هي تعبئة جزئية، 1% أو أكثر بقليل، 1.1% من إجمالي موارد التعبئة». وأوضح أن «التعبئة الجزئية ضرورية في المقام الأوّل للسيطرة على خطّ التماس بطول 1000 كيلومتر والأراضي المحرَّرة»، لافتاً إلى أن «روسيا لم تَعُد تحارب أوكرانيا فقط وإنّما تحارب الغرب ككلّ»، مضيفاً إن «الغرب يدعم أوكرانيا بـ 70 قمراً صناعياً عسكرياً، و200 قمر صناعي للأغراض المدنية»، إضافة إلى أن نحو 150 مستشاراً عسكرياً من «الناتو» يشاركون في قيادة الجيش الأوكراني.
ويُجمع الخبراء الروس على أن التعبئة الجزئية ضرورية في ظلّ الأوضاع العسكرية القائمة، و«أكثر منطقية» من التعبئة العامة. وفي هذا الإطار، يرى مدير «معهد المشكلات الإقليمية»، ديمتري زورافليف، أن «روسيا ليس لديها خيار آخر»، معرباً عن اعتقاده بأن القرار لم يُتّخذ اليوم، بل إن «تفعيل القوات المسلّحة الأوكرانية جعل الأمر أكثر إلحاحاً… إضافة إلى أننا لم نحلّ الموقف عن طريق الجنود المتعاقدين». ويضيف زورافليف إنه «من وجهة نظر سياسية، يجب أن ننتصر، ليس لدينا خيار آخر»، ويشير إلى أن «العالم كلّه يراقب الوضع، ما إذا كُنّا سننتصر أو لا، وخاصة أن الجبهة التي تقاتل فيها روسيا كبيرة جدّاً»، مقرّاً بأنه في المرحلة الماضية «لم تنجح روسيا في تحقيق نصر سريع، والصعوبات تزيد على الجبهات، لذلك نحتاج إلى استعادة زمام المبادرة، واحتواء الجبهات التي لا نهاجم فيها». ويلفت إلى أنه «بعد الاستفتاءات في لوغانسك ودونيتسك وزابوروجيا وخيرسون، ستصبح هذه الأراضي أراضي روسية، وهذا يعني أن على روسيا أن تتحمّل مسؤولية أمنها بنسبة 100%».
بدوره، يقول رئيس قسم العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة الاقتصاد، أندريه كوشكين، إن «هيئة الأركان العامة، واستجابة للتهديدات والتحدّيات التي ظهرت الآن، رأت أن هناك حاجة إلى 300 ألف شخص»، موضحاً أن «التعبئة ستشمل في المقام الأول أصحاب التخصّصات العسكرية ذات الأولوية». وترى رئيسة «اتحاد المهاجرين السياسيين والسجناء السياسيين في أوكرانيا»، لاريسا شيسلر، من جهتها، أن «التعبئة الجزئية باتت ضرورة ملحّة في الآونة الأخيرة التي أصبحت فيها أوكرانيا تتمتّع بميزة واضحة في حجم القوات المسلّحة، بينما في ظلّ عدد الوحدات الروسية الموجودة حالياً، لن يكون من السهل تحقيق جميع الأهداف التي وضعتها روسيا، وهذا يشكّل تهديدات خطيرة». وترى شيسلر أن «حشد 300 ألف شخص سيغيّر ميزان القوى في المواجهة مع الناتو»، مضيفة إنه «بعد ذلك، سيكون لدينا أمل في تحقيق تقدّم جادّ نحو نيكولاييف وأوديسا وترانسنيستريا ومنطقة خاركوف. وهذه الأراضي يسكنها أيضاً الروس الحالمون بأن يصبحوا جزءاً من روسيا الكبرى».
من جانبه، رأى النائب في مجلس الدوما، أوليغ ماتفيتشيف، أن قرار إجراء الاستفتاءات «وضع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في موقف غير مريح، وهو مفاجأة غير سارّة للغرب»، محذّراً من أنه في حال «هجوم القوات المسلّحة الأوكرانية وقوات الناتو على الأراضي التي أصبحت جزءاً من روسيا، فستغيّر موسكو وضع العملية الخاصة إلى «شنّ حرب»، وستكون هذه كارثة لأوكرانيا». وأكد ماتفيتشيف «(أننا) سنستخدم كلّ قدرات قوّاتنا المسلحة، وسيكون ذلك شيئاً لم تصادفه كييف ولا الغرب على الإطلاق». وفي هذا الإطار، يوضح الأستاذ المشارك في «معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية»، إيليا راشكوف، أنه «إذا تمّ قبول الأراضي الجديدة في روسيا، فإن أيّ هجوم عليها سيُعدّ عدواناً، وسيمنح السلطات الروسية الحقّ في الردّ بشكل مناسب». ويبيّن راشكوف أن «العقيدة العسكرية الروسية تنصّ على أنه في حالات العدوان على روسيا، وعندما يكون وجود الدولة ذاته مهدَّداً، يحقّ لروسيا استخدام الأسلحة النووية». ويضيف إن «موسكو هي التي تحدّد ما الذي يُعتبر مِن مِثل هذا التهديد»، ورأى أنه من الناحية النظرية «يمكن القول الآن إن هكذا تهديد، على سبيل المثال، يتمثّل في الصواريخ التي سقطت على أراضي كورسك».