على رغم عزلتها الاقتصادية شبه الكاملة، تعيش مناطق سيطرة «قسد» أوضاعاً أفضل من تلك الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية، إنْ كان لجهة توفُّر المشتقات النفطيّة المكرّرة محليّاً، أو لجهة تدنّي أسعار السلع الأساسية، وفق ما يورد القادمون من تلك المناطق. وإذ يبدو أن «الإدارة الذاتية» أدركت أن مشروعها لن يحيا اقتصاديّاً، فهي تعتمد على شبكة علاقات وتجار، جعلت من إقليم شمال العراق «ترانزيت» الجزيرة السورية
قد يبدو توفُّر المشتقّات النفطية وانخفاض أسعارها أمراً بديهيّاً في منطقة كانت تستحوذ على 95% من الإنتاج النفطي الوطني قبل سنوات الحرب، وهي تنتج راهناً ما يقرب من 70-80 ألف برميل يوميّاً يُهرَّب بعضها إلى خارج البلاد ليُباع بأسعار متدنّية، والبعض الآخر يُكرَّر في مصافٍ بدائية ليُطرَح في أسواق تلك المناطق للاستهلاك المحلّي. لكن ما ليس بديهياً، أن تتدنّى أسعار السلع في منطقة تعيش رسميّاً في عزلة اقتصادية شبه كاملة، فلا تبادلَ تجارياً معلناً – حتى الآن – مع مناطق سيطرة الحكومة السورية، ولا تركيا التي تتحرّك عسكريّاً بين الفينة والأخرى ضدّ «قسد» تسمح بعبور قوافل تجارية متبادلة، كما هي الحال مع إدلب الواقعة تحت سيطرة الجولاني.
شبكات اقتصادية
منذ البداية، أدركت «قسد» أن مشروعها في المناطق التي تمكّنت من السيطرة عليها بدعم من «التحالف الدولي»، محكوم عليه اقتصادياً بالموت، سورياً، تركياً، وحتى عراقياً. لذلك سعت، تحت غطاء إداراتها المدنيّة، إلى إنشاء شبكات اقتصادية متعدّدة يديرها أشخاص يعملون مع/ أو على صلة بهياكلها العسكرية والحزبية والإدارية، هدفها إدارة العمليات التجارية والاقتصادية في الداخل عبر الاستفادة من الثروات والمواد الطبيعية، أو مع الخارج من خلال استثمار شبكات التهريب الإقليمية الواسعة، والتي نشطت بشكل كبير جداً في ظلّ تطوّر الأوضاع الميدانية في كلٍّ من سوريا والعراق. وتتولّى هذه الشبكات عمليّات تهريب معظم السلع والبضائع المصدَّرة إلى العراق من دول الجوار، وإدخالها إلى مناطق الجزيرة السورية عبر شمال العراق، كما أنها تحتكر عمليّات المتاجرة بالثروات المهمّة كالنفط والغاز. وبحسب صحافي مقيم في محافظة الحسكة، فإن «الغالبية العظمى من السلع والبضائع التي تدخل إلى أسواق (المحافظة) تأتي من شمال العراق، عبر معبر سيمالكا غير الشرعي الواقع تحت سيطرة قسد، والتي تفرض رسوماً جمركيّة على البضائع والسلع». ويضيف، في حديث إلى «الأخبار»، إن ذلك يحدث «في ظلّ عدم وجود أيّ عمليات استيراد وتصدير من محافظة الحسكة إلى دول الجوار عبر المؤسسات الحكومية في المحافظة. كما أن الوارد من المواد والسلع من دمشق وحلب والساحل والمحافظات الأخرى قليل جداً إن لم يكن نادراً، وغالباً ما يقتصر على بعض الخضر والفواكه نتيجة الرسوم التي تُفرَض على المواد المتّجهة نحو محافظة الحسكة، وهذا أمر لم يفهمه أحد حتى الآن»، ما يعني ببساطة أن إقليم شمال العراق تحوّل إلى معبر ترانزيت أساسي للسلع والبضائع التي يشتريها التجار من دول الجوار بغية طرحها في أسواق مناطق الجزيرة السورية.
واللافت، وفقاً لِمَا يتداوله القادمون من تلك المناطق، أن معظم السلع المطروحة في الأسواق ذات منشأ تركي، وبدرجة أقل إيراني، بعضها يدخل من شمال العراق عبر المعبر المذكور، والبعض الآخر، وتحديداً السلع التركية، تهرَّب عبر شبكات يديرها أشخاص مقرّبون من «قسد»، ومن الفصائل المسلّحة الموالية لأنقرة، ومن تجار أتراك أيضاً. وقد يتيح التعرّف إلى حجم التبادل التجاري بين إقليم شمال العراق وكل من تركيا وإيران الوقوف على ماهية وحجم المبادلات التجارية بين الإقليم ومنطقة الجزيرة السورية، والأهم أنه يفسّر جزءاً من أحجية الحضور الاقتصادي لدول على خلاف سياسي عميق مع «الإدارة الذاتية». إذ، بحسب بعض التصريحات الإعلامية لمسؤولين في إقليم شمال العراق، إن قيمة المبادلات التجارية بين الإقليم وكل من إيران والعراق، ارتفع من حوالي 16 مليار دولار في عام 2012، إلى حوالي 19 مليار دولار في عام 2013، وهو ما يجعل السلع التركية والإيرانية تبدو الأكثر حضوراً في أسواق الجزيرة السورية.
وإلى جانب معبر سيمالكا مع شمال العراق، هناك معبران رئيسيّان مع المناطق التي تحتلّها تركيا في الشمال والشرق السوري، وهما معبر منبج ومعبر الباب، اللذان يتّم عبرهما إدخال بعض السلع والمواد، كما أن هناك معابر خاصّة تربط تلك المناطق مع المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، كمعبر الطبقة ومعبر الصالحية في دير الزور. وتتباين الآراء حول كميات السلع التي تدخل من مناطق سيطرة الحكومة إلى مناطق الجزيرة، بين مَن يعتبرها جيّدة، وبين مَن يراها محدودة وقليلة.
… وأسعار أقلّ
أكثر من منشأ السلع والبضائع، يستحوذ على حديث السوريين رخص أسعارها مقارنةً مع أسعار نظيراتها في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، وتحديداً أسعار السلع التي لا تنتجها مناطق الجزيرة، والتي يجري استيرادها عبر إقليم شمال العراق أو عبر المناطق الخاضعة لسيطرة الاحتلال التركي. فمثلاً، في الوقت الذي كان يُباع فيه الكيلوغرام الواحد من مادة السكر في دمشق والمحافظات بحوالي 5500 ليرة، بلغ سعره في القامشلي نحو 3500 ليرة، كذلك الحال بالنسبة إلى جميع السلع المستوردة أو المنتَجة محليّاً. وأخبر أحد المقيمين في مدينة القامشلي، «الأخبار»، أن سعر الأرزّ يبلغ 4 آلاف ليرة، البرغل 3500 ليرة، العدس 5500 ليرة. أما أسعار المشتقّات النفطية، وتحديداً الناتجة من عمليات التكرير في المنطقة، فهي أقلّ بكثير من نظيراتها في مناطق الحكومة؛ فمثلاً هناك ثلاثة أسعار لمادة البنزين هي 210 ليرات، 710 ليرات، و1250 ليرة، في حين يباع المازوت بأربعة أسعار هي: 410 ليرات و1250 ليرة، وللأفران وسيارات النقل بـ 85 ليرة، وللمنازل بحوالي 150 ليرة. والسبب الجوهري يكمن في عدم خضوع مستوردات المنطقة للعقوبات الغربية والتسهيلات الممنوحة للتجار في شمال العراق، علماً أن بعض السلع الغذائية تباع بتكلفتها وأقلّ أحياناً في إطار مبادرة لـ«الإدارة الذاتية» انطلقت في عام 2020، وهدفت إلى تخفيف الضغوط الاقتصادية والمعيشية عن السكّان بغية امتصاص حالات الغضب والنقمة على بعض ممارسات عناصر «قسد». وكما يشير الصحافي المقيم في الحسكة، فإن «الأسعار لا تزال أرخص من المحافظات الأخرى. وهناك وفرة في المواد والسلع في الأسواق». لكن هذا لا يعني أن الناس هناك يعيشون في «بحبوبة»، إذ إن الأجور والرواتب التي تمنحها «قسد» للعاملين في هياكلها الإدارية لا تزال ضعيفة وأقلّ من متوسط إنفاق المطلوب شهرياً لتؤمن الأسرة احتياجاتها، كما أن الضرر الذي لحق بالمساحات الزراعية وبشبكات المياه الحكومية جراء الحرب وتأثيرات موجة الجفاف وتناقص كميات المياه المتدفقة عبر نهر الفرات، ترك تأثيراته على دخل معظم الأُسر المعتمدة على القطاع الزراعي، فضلاً عن ضعف الواقع الخدمي الذي يدفع بكثير من السوريين – مثلاً – إلى طلب العلاج في العاصمة دمشق أو حلب.