الأخبار-علي حيدر
ويؤكّد هذا التوجّه أن جيش العدو يتصرف على أساس أن هناك احتمالات مرتفعة لتحقّق سيناريو اقتحام مقاومي «قوة الرضوان» في المقاومة الإسلامية لكريات شمونة. وهو ما أكده ضابط أمن بلدية المستوطنة، أريه ديكل، الذي عبَّر عن فهمه لـ«الحاجة العملانية» لهذا التشكيل «في ضوء التطورات من الشمال، ووجود تهديدات بالتسلل إلى مستوطنات واحتلالها».
وقرار تشكيل فصيل من المقاتلين لحماية كريات شمونة، هو جزء من خطة أوسع تشمل عدداً من المستوطنات. ولفتت صحيفة «إسرائيل اليوم» (6/9/2022) إلى أن «الاستنفار مستمر في مدينة كريات شمونة. وقد بدأت مناورة ستستمر أياماً لفحص فصائل الاستنفار في مستوطنات السياج الحدودي مع كتائب فرقة برعام. وتشمل المناورة الاستجابة لسيناريوهات مرتبطة بالحدود الشمالية، بينها حدوث عمليات تسلل إلى مستوطنات».
يعني ذلك أن قادة العدو باتوا يُسلِّمون بحقيقة أن أي معركة تنشب لن تقتصر ردود حزب الله فيها على الصواريخ، بل ستشمل مواجهة مباشرة بين قوات الرضوان وجيش العدو ومستوطنيه على أرض الجليل. مع ذلك، يصعب الفصل بين الإجراءات الحالية وارتفاع مستوى التوتر في ضوء المعادلة التي فرضها حزب الله بخصوص ثروات الغاز والحدود البحرية. وتكشف هذه المعطيات، أيضاً، عن فهم جيش العدو لحجم المخاطر على قواته ومستوطناته في شمال فلسطين المحتلة بفعل ما أعلنه حزب الله من سقوف ومواقف وخيارات، وتمدّدت هذه المخاطر على الحدود البرية البحرية من كاريش إلى كريات شمونة. كما يعني أن هناك قدراً من التسليم بأن وجود جيش العدو على الحدود، مدعّماً بالإجراءات الاعتراضية «الجغرافية»، الطبيعية والاصطناعية، لن يحول دون توغل المقاومين إلى المستوطنات، وأن كل التهديدات الإسرائيلية لن تمنع ذلك إذا ما استوجبت التطورات الميدانية هذا الخيار.
ويبدو أن هذه الحقيقة أصبحت أكثر رسوخاً في وعي القادة والخبراء. وعلى هذه الخلفية، اعتبر رئيس الاستخبارات السابق عاموس يادلين أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن «نصر الله أثبت بأن لكل ردع فترة انتهاء» (معاريف 5/9/2022)، لافتاً إلى تصاعد «تهديدات حزب الله في الفترة الأخيرة» بهدف رفع الحظر والحصار عن الثروات الغازية للبنان باعتباره الخيار الوحيد للخروج من المأزق الذي يعاني منه اقتصادياً ومالياً.
ولا يخفى أن لمثل هذه الإجراءات تداعياتها النفسية السلبية على المستوطنين، إذ تشير ضمناً إلى إقرار الجيش بالعجز عن ردع مقاومي حزب الله. وبعبارة أخرى: إقرار بتآكل صورة الجيش كـ«سور واق» لكيان العدو. ورغم خطورة مثل هذا الإقرار على نظرة الجمهور الإسرائيلي إلى الجيش، إلا أن قيادة العدو ترى نفسها مضطرة للتضحية بهذا البعد المعنوي، من أجل رفع مستوى الجاهزية لمواجهة هذا المستوى من المخاطر.
هكذا، فإن هذا الإجراء، وإن كان تكتيكياً في طبيعته، إلا أنه يختزن مؤشرات تكشف التحول الاستراتيجي في معادلات الصراع وقواعد الاشتباك، وخلاصته أن كيان العدو الذي تطورت قدراته التدميرية والتكنولوجية والعسكرية إلى مستويات غير مسبوقة، تراجعت في الوقت نفسه خياراته العملانية من دولة استندت في عقيدتها العسكرية دائماً إلى مبدأ نقل المعركة إلى أراضي العدو، إلى تبني منظومة دفاعية من ضمنها تشكيل ميليشيات من سكان المستوطنات للدفاع عنها. وبحسب تعبير رئيس بلدية كريات شمونة، أفيحاي شتيرن، فإن دور هذا الفصيل هو الدفاع قبل وصول قوات الجيش الإسرائيلي! إلا أنه بذلك تجاوز الإجابة على السؤال الذي يسكن وعي كل مستوطن حول دور قوة الجيش الإسرائيلي المرابطة على الحدود، والتي يُفترض أنها تحمي هذه المستوطنات من مقاتلي حزب الله.
ويبدو أن هذه الإجراءات أعادت الذاكرة الصهيونية إلى عمليات الفدائيين الفلسطينيين عبر الحدود في سبعينيات القرن الماضي. لكن المتغير النوعي الذي يُميِّز هذه المرحلة، هو تغير قواعد الاشتباك وفشل كثير من الخيارات العملياتية الإسرائيلية، واستنفاد الكثير من الرهانات الاستراتيجية. والمتغير الإضافي الذي يلقي بثقله على صانع القرار السياسي والأمني في كيان العدو هو التحولات التي شهدتها البيئة الإقليمية وتغير طبيعة التهديد وهوية الأعداء، كما يكرر ذلك رؤساء أركان جيش العدو.
تبقى ملاحظة ينبغي التأكيد عليها، وهي أن خيار اقتحام حزب الله للمستوطنات، وإن كان يتسم بطابع تكتيكي هجومي، إلا منطلقاته دفاعية وردعية وتهدف إلى تعزيز معادلة الردع لحماية لبنان. لكنها تؤسِّس أيضاً لخيار عملاني ستترتب على تنفيذه – في حال ارتكب قادة العدو أخطاء فادحة في التقديرات والخيارات – مفاعيل وتداعيات هائلة على حاضر هذا الكيان ومستقبله.