منذ خروج الجيش السوري من لبنان، وتولّي اللبنانيين وحدهم شؤون الحكم، بدأت معالم الخلل في النظام تتظهّر شيئًا فشيئًا. بان هذا جليًا في معظم الإستحقاقات الدستورية ما بعد العام 2005، من تشكيل الحكومات إلى إجراء الإنتخابات النيابية في موعدها وصولًا إلى إنتخابات رئاسة الجمهورية.
ضاعفت الأزمة الإقتصادية أزمة الحكم، وعمّقت من حالة الشلل في نظام تكشّفت ثغراته من السياسة إلى الإقتصاد إلى الدستور والقوانين ومفهوم الديمقراطية التوافقية فيه. بات كل هذا الأمر بحاجة لعلاج يؤمّن استمرارية الكيان، دون المسّ بالثوابت التي قام عليها لبنان في فترة ما بعد الحرب الأهلية. هذا الإشتراط الأساسي دفع بكثر منذ العام 2016 إلى الإعتراض على مسألة المناداة بضرورة قيام مؤتمر تأسيسي يعيد صياغة الحياة السياسية من جديد، على اعتبار أنّ أي تأسيس جديد سيذهب بالبلاد نحو إلغاء الطائفية السياسية بالمطلق، ما يعني إلغاء المناصفة بشكل غير مباشر.
من هنا كانت فكرة البحث عن نقاط تطويرية للنظام، دون المسّ بأساسيات تقضي على الطائف ومعه العقدين السياسي والإجتماعي الذي قام عليهما لبنان منذ التسعينيات وحتى اليوم.
رهان كبير حملته معها الإنتخابات النيابية الأخيرة، حيث انتظر البعض تمكّن المجلس النيابي من القيام بسلسلة تشريعات تعبر بالبلاد نحو مرحلة مختلفة. أتت نتائج الإنتخابات دون فرز أكثرية واضحة ومتجانسة تجاه مختلف العناوين الرئيسية التي تشكّل عائقًا أمام استمرار الحياة السياسية.
اليوم تطلّ الإنتخابات الرئاسية برأسها حاملة معها تهويل بالفراغ. فراغ اعتادت عليه المؤسسات كلما غرقت الأكثرية التوافقية في بحر الخلافات، وبات تأمين نصابها من سابع المستحيلات ما لم تلتقِ الإشارات الخارجية مع التوافق المحلي.
فكرة خرجت أخيرًا لمحاولة إيجاد صيغة تطوّر من شكل النظام، وتُخرج لبنان من تفاصيل أرهقت نظامه طوال سنوات. فتتدارس بعض الدول الداعمة فكرة الدعوة لمؤتمر يحمل الصفة التطويرية للنظام اللبناني، وذلك في دولة لا تشكّل أي استفزاز لمختلف القوى السياسية، وقد تكون مصر أحد أبرز الخيارات.
هذا المؤتمر هذه المرة، تدير دولة أوروبية صديقة فكرة التحضير له بتواصل مع مختلف الأطراف، عبر «الوقوف على خاطر مشاركاتهم»، أي من خلال الإستماع إلى شروط طمأنتهم وذلك بغية إنجاح المؤتمر.
وبعيدًا من التفاصيل وعلى صعيد المثال لا الحصر، سيعمل المؤتمر على تحضير اتفاق بين القوى السياسية على أكثر من نقطة لم تنجح السلطة التشريعية بفرضها، كتحديد مهلة لتكليف رئيس الحكومة وتحديد مهلة لانتخاب الرئيس، وكذلك عدد من القضايا الإقتصادية الخلافية التي في حال الاتفاق على مخرج واحد لها ستطال بإيجابياتها كل اللبنانيين. بالطبع ليس بتحسين نظام الحكم وحده يحيا لبنان، وإنّما سيبحث المؤتمر، في حال حدوثه، مسألة معالجة أزمة النازحين السوريين، التي تبدو اليوم عميقة وأحد أكبر أزمات البلد.
إمكانية حصول المؤتمر من عدمها تحدّدها الفترة المقبلة، إذ إنّ مستوجبات عديدة يجب أن تحصل كي تمهّد للوصول إلى قناعة تامة بضرورة الحفاظ على النظام لا تطييره في البدء، ومن ثمّ من أجل العمل على تطويره فتثبيته. مسألة الإتفاق على الغاز وضمان الإستخراج قد يكون العامل الأهم في اقناع القوى السياسية أنّ الإستقرار حاجة ملحّة ومصلحة مشتركة لجميع الأطراف، وعليه لن يبدأ الحديث بشكل جدّي حول المؤتمر قبل أن يرتسم مشهد الغاز برمّته.
هذا المشهد، يعيدنا بوضوح إلى 17 تشرين 2019، حين رمى البعض، وبدعم خارجي، البلاد في وادي التهلكة، حين سرّع من الانهيار لأسباب سياسية باتت معلومة. فشل 17 تشرين يدفع اليوم بالمجتمع الدولي إلى إعادة هيكلة النظرة إلى لبنان. فبالإضافة إلى دخول عامل الغاز، باتت الحاجة لإستقرار لبنان «أربح» من نظرية نشر الفوضى الخلّاقة فيه!