نفض العراق أخيرًا عنه غبار المعارك الدامية الأخيرة. فمن بغداد إلى البصرة، غطت الدماء المشهد العراقي لأيام، قبل عودة الهدوء مع استكمال قوات الأمن انتشارها في أكثر من نقطة توتر، لا سيما في “المنطقة الخضراء” داخل العاصمة العراقية، في أعقاب أعنف الاشتباكات المسلحة بين أنصار “التيار الصدري”، وعناصر أمنية. تطور ميداني لم يفاجئ كثيرين، وقد اقترن بآخر سياسي سبقه، وتمثّل في إعلان زعيم “التيار الصدري” مقتدى الصدر اعتزاله الحياة السياسية.
وفي مطلق الأحوال، لا يمكن الفصل بين مستجدّات المشهد الأمني المتوتر في العراق، وبين الأزمة السياسية التي تراوح مكانها منذ الانتخابات البرلمانية في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2021. فالانتخابات لم تتمخّض عن أكثرية نيابية واضحة المعالم، سواء لناحية نشوء تكتلات برلمانية منسجمة تمهّد لاختيار رئيس جديد للبلاد، أو في تشكيل إجماع سياسي بشأن هوية الحكومة العتيدة، وشكلها، وتركيبتها، بحيث بقيت مطالب الكتل البرلمانية في البرلمان الجديد، تراوح بين مطلب “الصدريين” بـ “حكومة أغلبية”، وبين تمسّك قوى تكتل “الإطار التنسيقي” بـ “حكومة جامعة” دون نجاح أي من المساعي في التوفيق بين الطرفين.
ومع ذلك، يُحسب للصدر، أن لوائحه حصدت مقاعد نيابية أكثر من أي كتلة أخرى خلال الانتخابات البرلمانية، بما نسبته 22 في المئة من مقاعد مجلس النواب الـ 329.
دبلوماسي أميركي: نريد نظامًا جديدًا في العراق!
وبحسب محللين غربيين، فقد كان يُنتظر من أن تشكّل الانتخابات الأخيرة بداية جديدة للبلاد، بعد ما عُرف بـ “انتفاضة تشرين”، ضد الفساد وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للعراقيين، إضافة إلى تردّي البنى التحتية والخدمات الأساسية، وإذ بها تحيل واقع البلاد نحو انسداد سياسي مستحكم، يبدو جليًا من خلال إخفاق الحكومة الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي في معالجة الملفات الاقتصادية الضاغطة، وفي إقرار الموازنة العامة.
وعلى الرغم من أن الاضطرابات السياسية والاحتجاجات الشعبية تعد حالة شائعة في العراق، يرى هؤلاء أن الجولة الأخيرة من العنف في الشارع العراقي كشفت عن مخاطر وقوع البلاد تحت وطأة الشلل السياسي، وتحلّل مؤسسات الدولة، بالتزامن مع تصاعد حدّة التنافس بين فصائل وأحزاب مسلّحة، محسوبة على المكون الشيعي، تحمل نظرة متفاوتة حيال إيران، رغم الاتفاق فيما بينها على القضايا المتصلة بضرورة تسريع انسحاب القوات الأميركية من العراق، ورفض موجة “التطبيع” مع “إسرائيل”.
وفيما يخص النقطة الأخيرة، تهمس دوائر دبلوماسية أميركية بأن طريق الخلاص من الأزمات المعيشية والأمنية المتلاحقة للعراق تكمن في التحاقه بركب “مسار التطبيع”. وتقترح تلك الدوائر “النموذج الخليجي” على هذا الصعيد، وبخاصة في نسخته الإماراتية، للتدليل على “الثمار” الاستثمارية والاقتصادية المترتبة عنه، معتبرة أن هذا المسار جعل ما يمكن وصفه بـ “معسكر التطبيع”، بمثابة مركز الثقل الجديد في الشرق الأوسط.
وعلى نحو أكثر وضوحًا، يكشف الدبلوماسي الأميركي السابق، روبرت فورد، حقيقة ما تسعى إليه واشنطن على “أرض الرافدين”، معربًا عن استنكاره لواقع نفوذ إيران هناك، والحضور السياسي والميداني القوي لـ “حلفائها الشيعة” العراقيين. ويزعم فورد، الذي شغل مناصب دبلوماسية في العراق وسوريا، أن الولايات المتحدة أرادت بعد غزو بغداد، ترسيخ نظام سياسي “عابر للانقسامات الطائفية والقومية” داخله، ملمحًا إلى اخفاق تلك المساعي الرامية إلى تحويل البلاد إلى “مركز ثقل شيعي”، مناوئ لإيران، وأكثر ميلًا إلى الغرب. ولا يخفي الباحث في Middle East Institute للدراسات، رهانه على الفرصة التي توفرها الأحداث الأخيرة لتغيير الوضع القائم على الساحة العراقية مشدّدًا على “أننا نشهد بداية نهاية النظام السياسي” المتشكّل منذ العام 2003. ومن هذا المنطلق، يتخوف بعض المحللين من وجود نوايا أميركية للدفع نحو “اقتتال شيعي- شيعي”، يخلط الأوراق من جديد، ويمهّد في فترة لاحقة لإعادة بناء التوازنات ضمن النظام السياسي العراقي بما يلائم تطلعات واشنطن، وبعض حلفائها الإقليميين. في المقابل، فمن المؤكد أن هذا النوع من الصدام المسلّح هو آخر ما ترغب به طهران على حدودها الغربية، في وقت تبدو فيه منهمكة في “دوزنة” تعاملها مع الواقع المستجد على حدودها الشرقية، وتحديدًا في أفغانستان ذات البيئة الأمنية الهشّة.
الخليج للصدر: العنف ممكن
في هذا الصدد، تشير صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن الصراع بين “القوى الشيعية”، لا سيما بين تكتل “الإطار التنسيقي”، وكتلة “سائرون” التابعة لـ “التيار الصدري”، بات في الآونة الأخيرة المحرك الأساسي لحالة عدم الاستقرار السياسي في العراق. فبعد انتخابات العام 2021، التي أفضت إلى فوز الصدر بكتلة نيابية مؤلفة من 73 نائبًا، خاض الأخير على مدى أشهر، محاولات حثيثة من أجل تشكيل حكومة، وانتخاب رئيس، بالتعاون مع شركاء آخرين، من المكونين السني، والكردي، ولكن دون جدوى في ظل رفض خصومه حضور جلسات الانتخاب لتعطيل النصاب القانوني اللازم لها وسط نقاش دستوري حاد في هذا الشأن. وتأسيسًا على ما سبق، فإن إحباط الرجل من جدوى مواصلة تلك المحاولات، دفعه إلى دعوة النواب التابعين له للاستقالة من البرلمان، وحث أتباعه على النزول إلى الشوارع لمنع خصومه من تشكيل حكومة جديدة. في الغالب، تُصنّف توجهات الرجل، على أنها “وطنية” أو “قومية شعبوية” على خلفية مواقفه المعروفة من التدخلات الخارجية، وهي مواقف تُبعده من حيث المبدأ عن واشنطن وطهران في آن معًا. ومع ذلك، تشير مصادر دبلوماسية أوروبية إلى وجود محرّك خارجي لتحركات الصدر في الأيام الماضية، مشيرة إلى أن بعض العواصم الغربية، إلى جانب دول خليجية فاعلة، أعربت عن دعمها لمشروع الصدر باعتباره “ثقلًا موازيًا للنفوذ الإيراني” على الساحة العراقية. وحذّرت تلك المصادر من خطورة هذا النهج الداعم للصدر، مبدية خشيتها من أن تكون تلك الجهات قد لعبت دورها “المريع” في رعاية تصلّب مواقفه في فترة ما قبل الاشتباكات، وفي الإيحاء بوجود ضوء أخضر إقليمي ودولي لمشروعه، مما أسهم في تحفيزه لاستخدام القوة ضد خصومه في “الإطار التنسيقي”، وبعض فصائل “الحشد الشعبي”.
وبالحديث عن دوافع “الصدريين” لتنظيم تظاهرات احتجاجية واقتحام مقار رسمية، من ضمنها القصر الجمهوري، ومقر الحكومة، في مرحلة أولى، ومن ثم للحضور المسلّح على الأرض والصدام مع عناصر الأمن العراقي في مرحلة ثانية، تعتبر مجلة “ذي إيكونوميست” أن قرار الصدر بالانسحاب من الحياة السياسية كان بمثابة “دعوة صريحة لمناصريه للنزول إلى الشارع”، للرد على ما يعده البعض “انقلابًا قضائيًا” ضده، على خلفية تلكؤ مجلس القضاء الأعلى في بت دعوى حل البرلمان، وحسم مسألة النصاب القانوني في انتخابات الرئاسة في غير صالح “الصدريين”. من جهته، يعتبر الباحث المتخصص في الشأن العراقي لدى مؤسسة Atlantic Council للدراسات السياسية، عبّاس كاظم، أن انسحاب الصدر ينطوي على لعبة خطرة يرمي من خلالها إلى الحفاظ على نفوذه السياسي، واستنهاض قاعدته الشعبية واستثارة مشاعرها. ومع استقالة نوابه في البرلمان، يشدّد كاظم على أن زعيم التيار الصدري لم يعد يستحوذ على نفوذ يُذكر في المشهد السياسي العراقي، معتبرًا أن الصدر بدا وكأنه يناشد أنصاره من أجل إعادته إلى هذا المشهد “مهما كلّف الأمر”. أما الخبير المتخصص في الشأن العراقي، والأستاذ في جامعة كوبنهاجن، فنار حداد، فقد لفت إلى أن التطورات الأمنية برهنت عن قدرة الصدر على حشد المناصرين بإشارة من اصبعه، وأن باستطاعته “هدم المعبد (النظام السياسي) على رؤوس الجميع، أو إبقائه”. بدورها، ترى مجلة “فورين بوليسي” الأميركية أن “الهدف النهائي للصدر، يتمثّل بتحريك المياه الراكدة في الواقع العراقي، واستدرار العطف الشعبي حتى يصبح الرجل الأقوى في العراق”، ليس على مستوى المكون الشيعي وحسب، بل على المستوى الوطني العراقي ككل، موضحة أن إصرار الأخير على تأخير مساعي خصومه لتشكيل حكومة جديدة، وتعقيد الأزمة السياسية، إضافة إلى تصعيد مؤيديه لوتيرة احتجاجاتهم في أكثر من مناسبة، كما شهدنا مؤخرًا، تنذر بقدرة الصدر على دفع البلاد نحو الأسوأ. جانب الخطورة هذا، توجزه مصادر غربية بالقول إن طموحات الصدر “تتجاوز حدود نفوذه السياسي والديني على حد سواء”.
اعتزال الصدر: صفقة أم مناورة؟
الثابت أنها ليست المرة الأولى التي يعلن فيها رجل الدين الشيعي الأقوى في النادي السياسي العراقي الاعتزال. وفي حال التزام الصدر بتعهداته، فقد يمّهد ذلك الطريق أمام خصومه في “الإطار التنسيقي” لتشكيل حكومة جديدة، بالنظر إلى تحوله إلى أكبر تكتل مع وراثته لمقاعد “الكتلة الصدرية”. هنا، تُثار التكهنات بشأن حصول مقايضة ما بين “التيار” و “الإطار”، فيما ترجّح جهات سياسية أن يكون الطرفان بصدد التحضير للمواجهة المقبلة.
بالتوازي، تشير تقارير غربية إلى أن الصدر برهن عن قدرته على حشد مئات الآلاف من أتباعه في جميع أنحاء العراق، ما يعني أن في إمكانه تنظيم احتجاجات من شأنها أن تهدد أي حكومة مقبلة إذا ما رغب في ذلك مستقبلًا، في ظل توقعات بإمكانية العودة إلى مسار التصعيد من جانب الصدر في أي لحظة. وفي الإطار نفسه، يشكك الباحث في مؤسسة “Century Foundation” للبحوث، سجاد جياد، بجدية تعهدات زعيم “التيار الصدري”، معتبرًا أنه “لطالما ردّد بأنه لن يكون جزءًا من العملية السياسية قبل أن يتراجع عن تعهداته ليعود إليها حتمًا”، في إشارة إلى وجود تساؤلات بشأن انسحاب الصدر من الحياة السياسية، واعتبارها مواقف تكتيكية لتعزيز وضعه التفاوضي مع خصومه في “التنسيقي”. واعتبر أن مسألة الإعلان عن اعتزال الصدر “قد توفر سبيلًا لجميع الأطراف لالتقاط الأنفاس”، موضحًا أن الأخير لا يزال يعتبر نفسه الشخصية الأكثر تمثيلًا للمكون الشيعي في العراق.
بدوره، رأى السفير العراقي السابق لدى واشنطن رند الرحيم، أن الصدر أراد من خلال الأحداث الأخيرة إيصال رسالة مفادها أنه “إذا لم يتم السماح للآليات الديمقراطية بالعمل من تلقاء نفسها فإن الرد في المقابل سيكون عبر تفجير ثورة”.
صحيفة “ذي إندبندنت”، رأت بدورها أن اعتزال الصدر العمل السياسي يطرح علامات استفهام كثيرة بشأن مصير القضايا الخلافية العالقة بينه وبين “الإطار التنسيقي”، مثل موضوع حل البرلمان، ومسألة اللجوء إلى الانتخابات المبكرة.
في المحصّلة، يجزم المتابعون للشأن العراقي أن خوف الصدر، وخصومه على حد سواء من الانجرار نحو “اقتتال شيعي- شيعي”، كان عنصرًا مهدئًا للنزاع الأخير. ويبقى القول إن الاشتباكات الدموية التي شهدها العراق مؤخرًا، ستختبر ولاء الجيش، الذي يضم أعدادًا كبيرة من أتباع الصدر في صفوفه، خلال الفترة اللاحقة، ما يعني أن الساحة العراقية قد تكون معرّضة لاهتزازات أمنية أخرى إذا ما عاد خلاف “التيار” و”الإطار” حول ملف الانتخابات والحكومة إلى صدارة المشهد هناك، في ظل عودة مؤشرات تصاعد الحرب الكلامية بينهما. ومن منظور صحيفة “الغارديان”، فإن المدى الذي ستبلغه المواجهة بين “التيار” و”الإطار” تتعلق في المقام الأول بمدى صلابة محاولات الصدر لإسقاط النظام السياسي الحالي، وهو المعروف بمواقفه المتقلبة وقناعاته السياسية القابلة للتغير بسهولة.