دعوا الأبالسة يحلمون
في آخر أيام عهد فخامة المقاوم اميل لحود، علت أصوات كثيرة ضدّ عهده بسبب تمسّكه بالخيارات الشريفة الحريصة على المقاومة، ولا سيّما خلال حرب تمّوز، حيث كان مطلوبًا من رئاسة الجمهورية في لبنان أن تسير في الرّكب الأميركي.
صحيح أنّ تلك الأصوات كانت تدّعي حججًا مختلفة في هجومها على الرئيس لحود، إلّا أنّ الأعمى في السياسة أمكنه أن يبصر السبب الحقيقي الذي دفع بالمتأمركين إلى رفع شعار “فِلْ” مشيرين إلى لحود.
المشهد اليوم ليس مختلفًا إلا في بعض التفاصيل التي فرضها الواقع. فالهجوم المتواصل على الرئيس ميشال عون ليس متعلقًا بالحجج التي يُرفق بها، لا سيّما في شقّ الحجج المتعلّقة بالوضع المعيشي المتأزّم وبالانهيار الاقتصادي الجهنّمي الذي لا يمكن لعاقل أو لمن يحترم عقول الآخرين أن يحمّل مسؤوليته الكارثية التي يعيشها لبنان للعهد الرئاسي الحاليّ والذي تعرّض منذ لحظاته الأولى لحصار خفيّ تكشّف يومًا بعد يوم، ولهجمات متتالية سعت إلى تعطيل أي إمكانية لإيجاد الحلول قبل الانهيار أو لوضع خطط الطوارئ بعد حدوثه.
بالأمس، ارتفع صوت سمير جعجع، حامل الحقد العتيق ضدّ الجنرال عون، في هجوم مركّز ضدّ العهد، متّبعًا قاعدة المغالاة في الفصاحة عند المحاضرة بالعفّة. هذه المغالاة تظهر بشكل فجّ حين يتحدّث كائن كسمير جعجع عن الحرص على حقوق المسيحيين، متهمًا عون بإهمال تحصيلها.
يصدق جعجع حين يقول إنّه يريد “رئيسًا قادرًا على تغيير كلّ ما عشناه في هذا العهد”، وبالطبع ما عاشه يتلخص بشعوره المتزايد بالعجز عن تحقيق حلمه بالجلوس على كرسي الرئاسة الأولى، وبكونه شهد على عدم إمكانية ولا واقعية مشروع “لبنان” كصديق لـ”إسرائيل”. نعم، لا يريد “الحكيم” أن يرى في السنوات الستّ القادمة المزيد من مؤشرات إحباط مشروعه، بعبارة أدقّ، مؤشرات احباط المشروع الذي يشكّل هو بكلّ جعجعته أداة صغيرة فيه.
في ما تبقى من هجماته الكلامية الهزيلة وبشكل خاص فيما يتعلق مباشرة أو مواربة بالمقاومة، أمكن للسامعين مشاهدة شخصية بينوكيو في الخلفية، يتحسّس المدى الذي يحتله أنفه طولًا مع كلّ كذبة.
في زمن الرئيس لحود، حافظ المتأمركون على قناع الخجل بغالبيتهم فلم يجاهروا بالسبب الحقيقي الكامن خلف كراهيتهم الواضحة للعهد الذي احتضن تحرير عام ٢٠٠٠ والنصر الالهي عام ٢٠٠٦. أما في زمننا هذا، فالوقاحة غلبت، إذ يعاني المتأمركون أنفسهم من أزمة إفلاس شعاراتيّ دفعتهم للمجاهرة بسبب كراهيتهم للعهد: تحالفه مع حزب الله. وعلى هذه المجاهرة بنوا كلّ سردياتهم الركيكة في تحميله مسؤولية ما يجري على لبنان. وللأمانة تفوّق من بينهم جعجع، ليس فقط لوضوحه المشهود في معاداة كلّ مشروع يعادي الصهاينة، بل أيضًا دفاعًا عن حلمه القديم الجديد بالحصول على لفظ “الفخامة” قبل اسمه.
يحق للمرء أن يحلم، ومن المنطقي أن يحاول تحقيق أحلامه حتى تلك الأقرب إلى الهلوسات من فرط استحالتها، ومن المدهش دائمًا إصرار جعجع على السعي رغم انعدام المؤشرات الموضوعية. لا بأس، ابليس يحلم بالجنة أيضًا، دعوا الأبالسة يحلمون.