من وقت إلى آخر، تهاتفني صديقة مهاجرة حريصة على مستقبلي الذي صار ثلاثة أرباعه ورائي، آخذةً على عاتقها إنقاذي من الإحباط المُستدام، الذي يعمّقه حضور سليم عون الراسخ في الحياة الوطنية وتغريدات الطائر الأسطوري الراعد، ناصحةً إياي بالهجرة إلى كندا.
دائماً أرد على النصح بالسؤال: وماذا سأعمل في كندا كي أعيل نفسي وعائلتي؟
هل أفتح مطعم سمك على ضفاف بحيرة ماليني؟
أو أنمّر سيارة أجرة في مونتريال؟
أو أستثمر جاذبيتي في مؤسسة تسويق أدوات مطبخية تسهّل “عيشة” ست البيت؟
أو أراقب التحولات المناخية وأراسل الأب خنيصر في بيروت؟
أو أكرّس وقتي لكلاب تحتاج إلى مرافق لقاء بدل بالدولار الكندي؟
أو أكمل دروس اللغة الإنكليزية التي بدأتها قبل أربعة عقود؟
ليس لي ما أفعله في كندا، مرقد الضجر لمن هم مثلي. وليس لي ما أفعله في الجمهورية المخطوفة سوى مراقبة تعاقب الفصول على الأعضاء الدائمين في هذا النظام اللذيذ.
وليس لدي ما أقوم به في باريس أو لندن أو أمستردام أو القاهرة أو هانوي أو روما او على شاطئ الكوباكابانا، سوى المراقبة والتسجيل ومسح الشوارع كأي مسّاح عالمي محلّف ومكلّف.
لم أفكر يوماً بتأسيس حياة في الخارج. ويوم أصبح الوطن خارج الحياة لم أفكّر سوى بجواز السفر، لا لحاجتي الملحّة إليه، بل لحاجتي إلى وسادة اطمئنان. الباسبور، بلونه الكحلي، ونوعية غلافه، يزيل القلق على المصير وتشنجات الرقبة وأعراض القرحة. “الباسبور أولاً” شعار المرحلة. يشعرك الباسبور أنك قاعد على جناح طائرة، والريح تحتك “توجهها جنوباً أو شمالاً”. وهناك مليون لبناني أحلامهم بين يدي سعادة اللواء ابراهيم، وعين اللواء بصيرة ويده قصيرة.
لن أسافر إلى كندا طوعاً، وباق هنا مكرهاً ومحروماً من “كزدورة” في الطيّارة.
ليس لدي ما أفعله في بلاد الفرص. في أميركا وكندا والبرازيل انتهى موسم اقتناصها.
وليس لدي ما أفعله هنا، سوى تتبّع بعض الظواهر الصوتية، ورصد الببغاوات السياسية النادرة والفريدة، ودراسة أثر الحشيش المضروب على النشاط النيابي للذميين الجدد.
عدا الكتابة ليس لدي ما أفعله في بلدي الثاني لبنان، سوى تطوير مهاراتي الزراعية وتحسين أدائي في حفر الأثلام المستقيمة، بعد محاولات بائسة، وتحسين نسل البطيخ، وزراعة الحمّص كبديل من “زراعة السعادة” على وجوه القرّاء، شعار أتقاسمه مع “سانيتا”.