أحمد عياش -أساس ميديا
مرت أمس الذكرى الرابعة والأربعون لتغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين في ليبيا، فيما اندلعت أحداث دامية في العراق احتلّ صدارتها رجل دين بارز من آل الصدر هو السيد مقتدى الصدر.
يحتاج المرء إلى الكثير من الخيال لإيجاد صلة بين الذكرى والأحداث، لو لم تكن هناك عمامتان تنتميان إلى عائلة تشاء الأقدار أن تكون في قلب التطوّرات في بلدَيْن عربيَّين يتميّزان بالكثافة الشيعية بين سكّانهما، فيما يرتبطان بعلاقات معقّدة مع الدولة الشيعية الأبرز في العالم الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
عندما قام الإمام الصدر بالرحلة الأخيرة في نهاية آب عام 1978، كانت الثورة التي قادها الإمام الخميني على وشك الفوز بالسلطة في إيران في شباط 1979. أمّا السيّد مقتدى الصدر فكان له من العمر 4 سنوات فقط عندما سيطر الخميني على الحكم في طهران. واليوم بعد مضيّ أكثر من 4 عقود، يعود إلى واجهة الأحداث نجم آل الصدر.
تقول أوساط شيعية عاصرت صعود الإمام الصدر وغيابه إنّ الزعيم الروحي الشيعي كان في ذروة تحرّكه لكي يلبنن طائفته عندما جرى تغييبه. وعندما أراد زيارة طرابلس الغرب لمقابلة رئيسها معمر القذافي، كان يضع نصب عينيه كيف يمكنه تحييد جنوب لبنان الخارج لتوّه في آذار 1978 من أتون الغزو الإسرائيلي الذي أدّى إلى ولادة قرار مجلس الأمن الشهير الرقم 425 في لحظة اتّفاق دولي نادر.
اللبننة والعرقنة في مواجهة الخارج الإيراني
أمّا في العراق اليوم فبدا الزعيم الصدري وكأنّه في ذروة سعيه إلى عرقنة الشيعة هناك وفق جدول أعمال يقود إلى خروج بلاد ما بين النهرين من دائرة النفوذ الإيراني. ووفق ما أورده موقع “إل.بي.بي” الإلكتروني، فإنّ الصدر هو واحد من بين القلائل من القادة الشيعة العراقيين الذين أبقوا مسافة بينهم وبين إيران، فقد انتقدها في كثير من الأحيان لتدخُّلها في كلّ من سوريا والعراق. بل وزار المملكة العربية السعودية، المنافس الإقليمي لإيران، عام 2017. ودعا الرئيس السوري بشار الأسد حليف إيران إلى “اتخاذ قرار تاريخي بطوليّ” بالتنحّي عن السلطة ليجنّب بلاده المزيد من سفك الدماء.
لم يُكتب للإمام موسى الصدر النجاح في مسعاه قبل 44 عاماً، فبدا وفق ما تقول الأوساط الشيعية ذاتها وكأنّه يسبح عكس التيار الذي كان يدفع إلى أن يكون لبنان الجبهة المتقدّمة في الصراع العربي الإسرائيلي عندما كانت الولايات المتحدة الأميركية على وشك إنجاز اتفاقات كامب ديفيد الشهيرة، التي شقّت العالم العربي إلى محورَيْ الاعتدال والرفض، فكان قدر لبنان أن يكون منصّة رئيسية للمحور الثاني.
مقتدى الصدر بين تياريّن
أمّا السيّد مقتدى الصدر فيبدو وكأنّه يعوم في نقطة تلاقي تيارين: أحدهما مؤاتٍ له يتمثّل في رفض عراقي شعبي عموماً، وشيعي خصوصاً، لتردّي أحوال بلاده بعد تجربة فاشلة في إدارة العراق إثر سقوط نظام الرئيس صدام حسين بفعل الغزو الأميركي. والتيار الآخر يسبح الصدر ضدّه ويتمثّل في “الإطار التنسيقي” الذي يضمّ القوى التابعة لطهران. والفارق بين السيّد اليوم والإمام بالأمس أنّ الأوّل احتكم إلى ميزان قوى داخلي كان راجحاً بقوّة لمصلحته في الانتخابات النيابية الأخيرة. بينما احتكم الثاني لميزان قوى بدأ في دمشق أيام الرئيس حافظ الأسد، وانتهى في طرابلس الغرب بزعامة القذافي، وهو محور وجد في الإمام عقبة تجب إزالتها وليس حليفاً يمكن الاتّكال عليه.
هل يُكتب لمقتدى الصدر الفشل الذي مُني به نسيبه قبل 44 عاماً؟ إنّها مهمّة محفوفة بالمخاطر، كما يرى الزعيم الديني العراقي الشابّ. فهو في تغريدته الشهيرة التي أعلن فيها اعتزاله العمل السياسي، والتي أشعلت العراق، قال: “الكلّ في حِلّ منّي، فإن متُّ أو قُتلت أسألكم الفاتحة والدعاء”.
في اعتقاد الأوساط الشيعية المشار إليها آنفاً أنّ في الوسط الشيعي بلبنان مؤيّدين للسيد مقتدى الصدر ولو بصورة مستترة. ويمكن لهذا التأييد أن يكون له وزن نظراً للعلاقات العميقة بين الشيعة في البلدين. ولو قيّض للصدر أن تكون له كلمة في لبنان، لكان سعى إلى الحدّ من النفوذ الإيراني في هذا البلد. وهي تورد، على سبيل المثال، أنّ الصدر كان في دمشق عندما اندلعت حرب تموز عام 2006 فلم يتمكّن من مواصلة رحلته إلى بيروت فعاد أدراجه إلى بغداد. في المقابل، كان قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني في طريقه إلى لبنان بمواكبة من القائد البارز في حزب الله عماد مغنية.
التوتر يحكم بين الصدر وإيران
لم يعد خافياً أنّ التوتّر يحكم العلاقات بين الصدر وطهران. فبالإضافة إلى ما أورده الزميل إبراهيم ريحان في “أساس” بالأمس عن “اللقاء العاصف” الذي جمع الصدر بخليفة سليماني الجنرال إسماعيل قاآني، فإنّ الأوساط الشيعية في لبنان تفيد أنّ اللقاء كان مقتضباً، ولم يدُم سوى نصف ساعة وجرى إنهاؤه بطلب من الصدر.
إنّها مرحلة جديدة ليس في العراق فحسب، وإنّما في المنطقة عموماً، ولبنان خصوصاً. وعندما تقدم طهران على “غلق حدودها مع العراق وتحثّ مواطنيها على تجنّب السفر إلى هناك”، فذلك يعني أنّ رياحاً غير مؤاتية بدأت تهبّ على الهلال الإيراني الذي تباهت به طهران سابقاً وفي قلبه العراق. والجدير ذكره أنّ ملايين الإيرانيين يسافرون إلى مدينة كربلاء العراقية كلّ عام لحضور طقوس الأربعين، التي تمثّل نهاية فترة حداد على الإمام الحسين، حفيد النبي محمّد، والتي تستمرّ 40 يوماً. ويقع الأربعون في الفترة من 16 إلى 17 أيلول من هذا العام. لكنّ نائب وزير الداخلية الإيراني ماجد ميراح حمادي أبلغ التلفزيون الإيراني الرسمي أنّ “الحدود مع العراق أُغلقت بسبب مخاوف تتعلّق بالسلامة، وأنّ من الضروري أن يمتنع الإيرانيون عن السفر إلى العراق حتى إشعار آخر”.
وقال التلفزيون الرسمي إنّ إيران أوقفت جميع الرحلات الجوّية إلى العراق “حتى إشعار آخر بسبب الاضطرابات المستمرّة”. وأضاف: “نحاول ترتيب رحلة طارئة لإعادة الإيرانيين الموجودين حالياً في مطار بغداد. نأمل إجلاءهم اليوم”، حسبما نقل التلفزيون الرسمي عن هيئة طيران رفيعة المستوى.
في خلاصة تقييمها للمشهد العراقي، تقول الأوساط الشيعية إنّ “العراق كان وسيبقى القبلة المقدّسة للشيعة في العالم عموماً، وفي إيران خصوصاً. لكن ما يجري اليوم هو فصل قداسة المكان عن النفوذ الذي تمتّعت به الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ عام 2003 في العراق بفضل الاحتلال الأميركي. إنّها مهمّة في غاية التعقيد انخرط فيها مقتدى الصدر.