إن الحديث عن مفهوم “بيئة النزاع” سواء في تشكيله أو في إدارة وتوجيه النزاع من خلال بيئته العامة وعناصره الأساسية قد يطابق السياسة الأميركية في العديد من دول منطقة غرب آسيا في الوقت الحالي. ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة انكفائها العام من المنطقة وتراجع تدخلها المباشر في الساحة العراقية، فإن إدارتها –سواء بنفسها أو عبر البريطاني- سوف يأخذ طابعًا مغايرًا عن الحضور والفاعلية المباشرة. ذلك أن الانكفاء النسبي ليس سببه تراجع الاهتمام أو أهمية بعض الساحات، بقدر ما للكلفة والأثمان الباهظة من حضوره المباشر. من هنا يمكن القول إننا أمام نوعٍ جديد من استراتيجيات السياسة الأمريكية وهو تشكيل أو التأثير في “بيئة النزاع” الداخلية من أجل منع بعض أطراف محور المقاومة من إحداث تحول في البيئة الداخلية.
المبادئ العامة:
إن إدارة بيئة النزاع مرحلة يبذل فيها المؤثر الأساسي الجهود للمحافظة على مرحلة وسطية، بمعنى يمنع طرح الحلول الجذرية، كما يمنع تطور النزاع من الوصول إلى مواجهة مباشرة أو صدام بين الأطراف. أما إيجابيات هذه السياسة فهي تتجلى بـالتالي: كلفة أقل، عدم وجود بصمة مباشرة، خسائر أقل. ولهذا النهج مبادئ أساسية، تحكم كل الخطوات والسياسات التي يمكن أن يقوم بها الفاعل، هذه المبادئ هي:
-أولاً لا يتدخل “المُشكّل” في النزاع القائم مباشرةً ولا في عناصره ومشكّلاته المباشرة.
-ثانيًا لابد من التمييز بين الذين لديهم القدرة على تشكيل وصياغة بيئة النزاع، وبين الذين يتفاعلون فيها ويؤثرون بها.
-ثالثًا من الضروري تحديد نطاق التأثير التي يمكن أن تحدثه تشكيل بيئة النزاع وإدارتها في نفس النزاع.
الإجراءات الأساسية:
أما الإجراءات الأساسية في تشكيل وإدارة بيئة النزاع التي يمكن أن تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة غرب آسيا، فهي:
1-تحفيز بيئة النزاعات:
إن إبقاء بيئة النزاع متوترة وغير مستقرة أمر أساسي للحيلولة دون حصول أي استقرار أو حل للمشكلة. ولتحقيق هذا الأمر فإن إثارة مخاوف الأطراف تجاه بعضها البعض، وتصوير الخصم السياسي كعدو يبقي حالة اللاستقرار والتنافس حاضرة. وتدخل الوسائل الإعلامية والمواقع الإخبارية والبحثية عامل أساس في تحقيق هذا الهدف، خصوصًا مع ترسيخ بعض المفاهيم والسرديات في الحياة السياسية.
2-الدعاية السلبية والتحريض:
لن تكون الدعاية السلبية والتحريض بشكل مباشر في الساحات المعقّدة كالساحة العراقية، بل تأتي من خلال ما قد يسميه البعض بـ “صياغة العقل العام” للمجتمع المُستهدف، وذلك من خلال السيطرة على المفاهيم الخاصة فيه، وإثارة الانشقاقات فيه.
في هذه الوسيلة يعمل المُشكّل على توجيه الأحزاب السياسية من خلال استثارة عواطف وغرائز جماهير هذا الحزب أو ذاك.
3-تعديل التمثيل والأحجام:
إن طبيعة الأنظمة الديمقراطية، وبعض قوانين الانتخابات لا تعبر بالضرورة وبشكل صحيح عن الوزن الفعلي لهذا التوجه أو ذاك (نسبة المشاركة في الانتخابات، نسبة التزوير، كسر حاصل الأصوات بسبب الدوائر…)، الأمر الذي يثير الكثير من اللغط حول موازين القوة الفعلية للأحزاب والتيارات التي دخلت إلى البرلمان والسلطة. من هنا يمكن إثارة الكثير من اللغط والإشكاليات التي تعقّد العملية السياسية، وتفتح مجالًا لاعتبار كل طرف – في النقاش السياسي- على أنه له الأغلبية البرلمانية، أو الشعبية وغيرها التي لا تؤدي إلى استقرار العملية السياسية.
4-تحفيز تضخم الطموحات:
يسعى الفاعل المُشكّل للبيئة إلى تغيير التصور الذاتي للجهات السياسية حول حجمها ومشروعيتها وتأثيرها، عبر إيهام الأطراف السياسية المناسبة أن النموذج الذي يسعون إليه هو الأصح والأفضل وترجيح إمكانية تحقق تلك الطموحات وسيادة النموذج الخاص بها. يُصاحب هذا الأمر بتثبيت فكرة “اللوم-المسؤولية” على الأطراف الباقية، الأمر الذي قد يؤدي إلى تراجع فكرة المشاركة في الحكم والعملية السياسية، وارتفاع مساعي إلغاء الطروحات الأخرى.
5-تعطيل عمليات بناء الثقة:
تبرز هذه الخطوة على أنها خطوة تعطيلية، بمعنى أنها تعطّل أي مسار من الممكن أن يؤدي إلى الخروج من النزاع إلى الحل. تقوم هذه الخطوة على منع تبلور البيئة التي يمكن أن تؤدي إلى بناء الثقة (حدث أمني، تسريبات صوتية، نبش الماضي…)، أو تعطيل أي مساعٍ مباشرة للخروج من الأزمة.
6-التحكم بالوساطات والوسطاء:
قد يعمل المُشكّل على تسويق على أنه الوسيط الدائم في حل النزاعات الداخلية والأزمات بين الأطراف السياسية، في حين يستغل موقعيته هذه لإطالة أمد الأزمة والتحكم بمسارها عبر زعزعة الثقة بين الأطراف وتصوير الأزمة على أنها أزمة بنيوية ومعقّدة وبالتالي يصعب احتوائها.
موقعية الوسيط في حل الأزمة يعطي المُشكّل جهة إشراف على الأطراف وسلطة معنوية عليهم، وبالتالي على صياغة المناخ العام لمسار المفاوضات.
7-تشكيل البنية القانونية والمؤسساتية:
تأتي هذه الخطوة في سياق إما تشكيل النظام بأكمله – كما حصل في العراق عام 2003- فتأتي الفرصة في صياغة البنية القانونية والمؤسساتية لجعل النظام السياسي ولاّد للأزمات ولإطالة الأزمات التي تحصل فيه؛ وإما للتأثير في بعض المحطات المفصلية التي تُنتج واقعًا سياسيًا معقدًا كما يحصل غالبًا في سن قانون الانتخابات لدول منطقتنا.
8-توظيف الوكلاء في إدامة النزاع:
يمكن الحديث عن نوعين من الوكلاء، الأول هم الوكلاء المباشرين الذين يسعون إلى تأزيم الخلافات، ومنع أي مساعٍ للتقارب والحوار بين الأطراف الداخلية في الساحات. أما النوع الثاني، والذي يمكن القول إنه برز مؤخرًا في ساحات مثل العراق ولبنان، والذي يمكن تسميتهم بالـ “وسطيين”، فهم يتميزون بالقدرة على تحقيق التوازنات في داخل اللعبة السياسية، لذا عمل الأمريكي خصوصًا في الانتخابات الأخيرة في العراق ولبنان على إدخال مجموعة من الأشخاص “تغيريين” في مقابل أحزاب السلطة. هذه المجموعة لا تحوز الأكثرية، لكنها تمتلك قدرة تحقيق التوازنات في النظامين السابقين. هذا الأمر يعطي إمكانية توظيف هذه المجموعة وغيرها من الوكلاء على لعب دور في إدامة النزاع، أولاً عبر التمنع عن تبني رأي أو توجه سياسي بين الطرفين الأساسيين. ثانيًا في المرونة التي يمتلكوها للانتقال بين الأطراف.
سياسات عملية:
المحافظة (سواء من قبل الطرف الذي يدير بيئة النزاع أم أطراف النزاع) على اتصال مع مختلف الأطراف، وعدم تحويل أي خصم إلى عدو مباشر. إذ إن المحافظة على اتصال مع الجميع يمنع من تدهور النزاع ووصوله إلى الصدام المباشر. (هذا الأمر يمنع الجهة التي تدير بيئة النزاع من أن تتحول إلى طرف مباشر في النزاع)
تشخيص الأسباب الجوهرية للمشكلة، وفصلها عن تداعيتها وآثارها. وتوجيه أطراف النزاع للعمل على معالجة الآثار والتداعيات دون الأسباب الجوهرية للمشكلة، وذلك باستخدام وسائل وطرق عديدة منها (تضخيم الأسباب والكلفة الباهظة في معالجتها وغيرها)
امتلاك أوراق ضغط على مختلف الأطراف منعًا من أي خطوة تصعيدية يمكن أن يقوم بها هذا الطرف، على ألا يتم توظيف هذه الأوراق بشكل دائم، تجنبًا من سعي الطرف المقابل لتطوير أساليب ردع أو تفريغ لأوراق الضغط التي كان يمتلكها مشكّل بيئة النزاع.
كثير من الإجراءات التي سبق ذكرها إنما يجب ومن الأساس أن تكون بطريقة غير مباشرة، ذلك أن من أساسيات إدارة وتشكيل بيئة النزاع هو ألا يكون هذه الجهة طرفًا مباشرًا في النزاع ذلك أنها ستفقد خاصية أساسية في نجاح الخطوات.
الحالة العراقية:
تحديد رئيس الوزراء (دوره وعلاقاته): تحاول الولايات المتحدة الأمريكية دفع الكُتل المحسوبة عليها لاختيار رئيس وزراء يحقق سياساتها، أو لا أقل لا يعاديها. هذا بسبب الدور الموكل لرئيس الحكومة في النظام العراقي.
دور المكونات الكردية والسنية: سعت الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيس النظام السياسي إلى إقحام وكيلها الكردي في بنية هذا النظام، ليقوم بكل ما يخدم السياسة الأمريكية، ويشكل بيئة حاضنة للتواجد الإسرائيلي والأميركي فيه.
الدور البريطاني: تبرز سمة للدور البريطاني تاريخيًا بأنه يؤدي سياساته بمرونة عالية وخفاء ومن دون صخب، هذا الأمر يميز الدور البريطاني في الداخل العراقي الذي يعمل على تشكيل منظمات غير حكومية تعمل على جمع معلومات، وضخ مفاهيم، وتنشئة نخب تحقق سياستها على المدى البعيد. ما يمكن توصيفه بشكل أوضح عن الدور البريطاني، أنها تؤسس البنية التحتية للتدخلات الغربية.
قانون الانتخابات: تؤيد الولايات المتحدة الأمريكية قوانين الانتخابات التي لا تعطي التمثيل الحقيقي للقوى الشيعية المناوئة لها (القانون النسبي ذو الدائرة الواحدة). وتؤيد القانون الذي يعقّد التوازنات في المشهد السياسي الذي يلي الانتخابات، الأمر الذي قد يعطي المشروعية للتدخلات الخارجية في العراق.
دور المستشارين: تسعى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا إلى تدريب مجموعة من المستشارين وتأهيلهم على المدى الطويل، كي يبرزوا كنخب مهمة في المجتمع العراقي. هذا الأمر يؤدي إلى جذبهم لدوائر صنع القرار، وتأثيرهم لاحقًا على صياغة التوجهات والقرارات في الساحة العراقية.
التوجيه من خلال عمليات التأثير الإعلامي: تشكل قنوات إعلامية عديدة (الحدث، العربية، سكاي نيوز)، وغيرها من البرامج (البشير شو)، نموذج لتأزيم الشارع العراقي. بل حقيقة الأزمة إلى مواضع أخرى، وتأطيرها بمفاهيم تغاير الحقيقة.
قوانين بريمر: شكّلت قوانين بريمر والسياسات الأمريكية عقب إسقاط النظام البعثي الحجر الأساس في تشكيل هوية وبنية النظام العراقي على المستوى الدستوري والسياسي والبُنى الاجتماعي، الأمر الذي جعل من النظام العراقي “نظام ولّاد للأزمات”، وفيه كوابح ذاتية لأي مساعي للتعايش والحلحلة.
المصدر: مركز دراسات غرب آسيا