لم يكتفِ الاحتلال بشنّ عدوان عسكري على قطاع غزّة وحركة الجهاد الإسلامي لإدراكه حجم القدرات العسكرية لسرايا القدس القادرة على التصدي وبل إحداث الضرر في جبهته الداخلية، فتحوّل الى طرق أخرى ملتوية عبر بثّ دعايته وادعاءاته من خلال الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لتضليل الجمهور الفلسطيني وتأليبه على المقاومة وزرع الفتن في الشارع الفلسطيني من جهة، كما للتعتيم على خسائره المادية والبشرية وتعويض صورة “الردع” المتآكلة لديه من جهة أخرى.
ويستخدم الاحتلال لهذه الأهداف ما يسمى “نظام الهسبراه” الذي يُعرّف بأنه جهاز “دعاية إسرائيلية” تديره حكومة الاحتلال بشكل مباشر، ويتشكّل من مئات الصفحات الناشطة والموجهة بالعديد من لغات العالم، بالإضافة الى جيوش أو ما يسمى “بالذباب” الالكتروني التي تعمل على تداول منشورات “مضادة” للرواية الفلسطينية والعربية “وداعمة” لوجهة النظر التضليلية الإسرائيلية.
فكيف استغلّ الاحتلال “الهسبراه” في شنّ العمليات النفسية ضد حركة الجهاد الإسلامي في العدوان الأخير في 5 آب / أغسطس 2022؟
في المنطقة الواقعة بين المدنيّين وساحة المعركة، تقع الحرب النّفسيّة ، لتشمل استخدام الدّعاية ضدّ العدوّ جنبًا إلى جنب مع التّدابير العملياتيّة الأخرى ذات الطّبيعة العسكريّة أو الاقتصادية أو السّياسيّة، الّتي قد تكون مطلوبة لتكملة الدّعاية، ومن خلال استقراء العمليات النّفسيّة الجارية خلال الحرب، يمكن معرفة التّوجّهات السّياسيّة، وتتبّع كيفيّة تحقّق الأهداف المعلنة، والأهم، هي القيمة المضافة الّتي تقدّمها العمليات الاستقرائية للحروب النّفسيّة، والّتي يمكنها أن تخبر الكثير عن الأهداف غير المعلنة أيضًا.
منذ تأسيس الكيان الإسرائيليّ، كان الهدف الأوّل في العمليات النّفسيّة لطمس الهويّة الفلسطينيّة هو العبث في سلّم الأولويات واغتيال إرادة المواطن الفلسطينيّ، وقد حضرت جنبًا إلى جنب مع سياسة المجازر في البدايات، وبعدها حضرت سياسة الاغتيالات الّتي بدأت منذ عهد غولدا مائير عام 1972، بالإضافة إلى سياسة الاعتقالات والتّحقيق بأثر التّخريب النّفسي إلى ذلك حضرت التّشريعات القانونية ، وسياسة هدم المنازل، وسياسة الإذلال على الحواجز، والسياسة التّعليميّة حسب الأجندة اليهودية الّتي تطبّق على الفلسطينيين منذ العام 1948 ، وتشجيع تسرّب الأطفال الفلسطينيين من المدارس وفتح سوق العمل الإسرائيليّ أمامهم ، وتمويل الظواهر السلبية والعمل على تنميتها ، بالإضافة إلى تدمير الاقتصاد الفلسطينيّ ودمجه مع الاقتصاد الإسرائيلي . كلّ ذلك كان في البنية التّحتيّة للعمليات النفسيّة الإسرائيلية.
أمّا على صعيد البنية الفوقيّة، فتظهر العمليّات الإعلاميّة بهدف التّهويل على النّاس وتضليلهم، وتعميق الانقسامات الدّاخليّة الفلسطينيّة، لغرس أفكار مفادها أنّ الكيان قوّة لا تقهر، ولا جدوى من مقاومتها، وضرب الإرادة الشّعبية من خلال المنشورات، مكبّرات الصّوت، والتلفاز، والعسكرة الرقميّة، والمتحدثون باسم جيش الاحتلال. ولعلّ أخطر وسائل الحرب النّفسية الإسرائيلية هي ما تعلّق بالجواسيس والعملاء، سواء اتّخذ واحدهم صفة المنسّق، أو المراسل النّاطق باللغة العربية، أو المخبر. ويعتمدهم الكيان لبثّ الإشاعات داخل المعتقلات وخارجها، وإثارة الفتن. إلى ذلك فإنّ انتشار العملاء والجواسيس وكثرتهم، يضرب في العمق، حالة التّلاحم والثّقة بين النّاس داخل المجتمعات.
الإطار النّظريّ
على عمق آخر من مستويات التّحليل، يمكن للباحث أن يجد رسالة حرب نفسيّة في كلّ شيء تقريبًا. يمكن من خلال استخدام المقاربة البنائية تطوير تفسيرات جديدة للعمليّات النّفسيّة من خلال وصف الأحداث والظّروف الحقيقية التي تمكّن من تتبّع الأنماط والروابط مع العمليات السياسية والعسكرية، إذ يمكن لهذه الروابط أن تُظهر ما يُحاك في العمق. في هذه الورقة سيتمّ تحليل بنية عمل الدعاية الإسرائيلية على المستوى التقني، ومن ثم دراسة رسائل الاستهداف للمجموعات الرّئيسية لدعم الرّواية الإسرائيلية، من خلال استخدام تصنيف العمليات النّفسية بحسب مارتين ليبيكي ، كنموذج في الإطار النّظري، والذي يأتي ضمن أربع مستويات: 1- عمليات ضد الإرادة الوطنية، 2-عمليات ضدّ القادة المعارضين، 3- عمليات ضد القوات، 4- عمليات الصّراع الثقافي . يهدف البحث إلى توسيع هذا الإطار العام ضمن مجموعة مستويات تركّز على المتغيّرات المتداخلة واستقراء الآلية السّببيّة (السبب والتأثير) مع المتغيّر الجديد الّذي جرى خلال العملية العسكرية التي حصلت على غزة وأسماها العدو الإسرائيلي “الفجر الصادق”، في حين أطلق عليها الجهاد الإسلامي، وهو الفصيل الفلسطيني الذي أُعلنت الحرب عليه، “وحدة الساحات”.
المتغيّر الموضوعي
على مدى 74 عامًا منذ الاستيطان الإحلالي لفلسطين، طوّر العدوّ الإسرائيلي جيشًا منظّمًا ومؤسسات داعمة ونافذة للعمليات النفسية، وهي بدورها تطوّر التجارب وتبني عليها قرارات واستراتيجيات بحسب المعطيات الميدانية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية. استمرت العمليات السارية في البنية التحتية النفسية، وقد نجحت بمقدار لم يرقَ إلى مستوى لجم الشعب الفلسطيني عن الانتفاضات والعمليات الفردية والعمليات العسكرية للمقاومة على فترات زمنية طويلة. على أنها فشلت فشلًا موصوفًا في عملية سيف القدس عام 2021، تحدّثت عنه الدراسات والمقالات المتعددة. إلا أنّ العملية البنائيّة التي راكمتها عادت بقوة في معركة وحدة السّاحات التي جرت بينها وبين الجهاد الإسلامي. وعلى الرغم من التصريحات المتضامنة، خاضت سرايا القدس هذه المعركة من دون تدخّلٍ من كتائب القسّام.
الكلمات المفتاحية: الحرب النفسية، الجهاد الإسلامي، الفجر الصادق، الهاسبراه، الدّعاية الإسرائيلية.
تفعيل “نظام الهسباراه” للتأثير على الفلسطينيين
بعد حرب إسرائيل على لبنان في العام 2006 قررت لجنة فينوغراد التي تولت التحقيق في إخفاق إسرائيل في الحرب، إقامة هيئة تتولى مهمة إدارة “الهسباراه” (الدعاية الإسرائيلية) ، وتم ذلك في العام 2007 عبر إنشاء “إدارة المعلومات الوطنية”، لكن مكاتب هذه الإدارة لم تكن تعمل في السنتين الأخيرتين، ولو كانت تعمل فإن ذلك لم يكن ليحل مشكلة الصلاحيات والمسؤولية التي باتت مقسّمة بين عدد كبير من الوزارات الإسرائيلية. كما أنّ إسرائيل لم تكن تستغل كل إمكانات الوسائل التكنولوجية الأساسية في جمع ونشر المعلومات.
وفي إطار الحديث عن إخفاق الكيان إعلاميًّا في حربه على غزة خلال معركة سيف القدس، أوضح المتحدث السابق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي رونين مانيليس خطة تتمثل في إنشاء مئات الآلاف من الحسابات على مواقع التّواصل الاجتماعي، مع عدم وجود أيّ إشارة عليها أنّها تتبع لإسرائيليين؛ مهمّتها نشر معلومات ورواية تكرّس شعور الهزيمة لدى الفلسطينيين، والنصر لدى الإسرائيليين. وأوصى بتنشيط دور الهيئات العاملة في مجال الدعاية والإعلام، وعلى رأسها نظام الهسبراه الوطني.
وبالإضافة إلى توصيات مجموعة دراسات أمنية، عقد نظام “الهسبراه” اجتماعًا في 28 ديسمبر 2021، لأوّل مرة منذ سنوات طويلة، وتم الاتفاق على تفعيل نشاطه من جديد، كجزء من استخلاص العبر بعد الإخفاقات الإعلامية والدعائية في سيف القدس. وفي العدوان الأخير على قطاع غزة في أغسطس 2022 فعّلت حكومة الاحتلال بشكل منهجي غير مسبوق “نظام الهسباراه” مع التركيز الشديد على وسائل التواصل الاجتماعي وتمرير الرسائل بواسطة وسائل إعلامية كبرى على اتصال بهذا النظام، وأيضا من خلال عدد كبير من الحسابات الوهمية.
آلية عمل “”نظام الهاسباراه” للتأثير على الفلسطينيين خلال العدوان الأخير
1/ التّنسيق بين جميع مصادر المعلومات وإصدار رسائل موحدة لجميع ممثلي الإعلام في إسرائيل
في مقابلة صحفية مع إسرائيل هيوم، يروي رئيس جهاز المعلومات يور حييت كيف جرت معركة المعلومات خلال المواجهة القصيرة، إذ يؤكد على أهمية نظام المعلومات الوطني الذي تأسس عام 2007 كأحد الدروس المستفادة من حرب لبنان الثانية. والغرض منه هو التنسيق بين جميع مصادر المعلومات الرسمية وغير الرسمية في إسرائيل – من وزارة الخارجية والمتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي، من خلال الوزراء والمسؤولين الآخرين، إلى صانعي الرأي العام على الشبكات الاجتماعية – وإنشاء سجلّ سريع للشّكل الموحد والمتماسك والقوي للخطاب. وبذلك سيصدر عن هذا التشبيك رسالة موثوقة، ستجعل سرد الدولة في مقدمة الخطاب في وسائل الإعلام والجمهور، إذ يتم الاجتماع بينهم ويقدم كلّ منهم صورة محدّثة لما كان يحدث، ثم يسفر الاجتماع عن ورقة رسائل موحدة لجميع ممثلي الإعلام في الكيان من وزراء ورؤساء تنفيذيين للوزارات الحكومية، والسفراء في الخارج، وبالطبع المتحدثون الرسميون.
2/ استغلال الاستجابة الكبيرة لوسائل الإعلام العربية
ظهر المتحدثون العبريون والمحللون على وسائل إعلام خليجية واستطاعوا تمرير الرسائل بكثافة، ومن خلال رصد قناة الجزيرة وسكاي نيوز ومجموعة من المنصّات والمواقع الإلكترونية التابعة لإعلام محور التطبيع الذي يعمل داخل وخارج فلسطين، يمكن ملاحظة شدة التشابه في الرسائل التي كانت تبثّ على الوسائط الإسرائيلية والعربية بنفس المضمون والزخم، وكان التركيز على اثنتيْن: الأولى أنّ وقف إطلاق النار في ملعب الفلسطينيين الذين يمكن أن يشكلوا ورقة ضغط على الجهاد للتوقف، والثانية كما عبّر عنها قائد لواء فرقة غزة في الجيش الإسرائيلي نمرود ألوني، أن “قمة الحكمة في عدم مشاركة حماس”. اللافت أن مفردة “حكمة” تمّ تداولها في الإعلام العربي وخاصة في المنصات الإلكترونية . واللافت أيضًا أن إعلام المحور الممانع بدأ بتفكيك وتفنيد مسألة “الحكمة” في عدم المشاركة، منعًا لتوسيع الشرخ بين الفصيلين.
3/ فبركة التغطية الصحفية المباشرة من الميدان
ساهمت بعض مقاطع الفيديو التي بثّت مباشرة عبر فضائيات عربية وعبرية في تطوير خطاب موجّه للفلسطينيين هدفه تكريس فكرة أن الصّواريخ الفلسطينية، كما تسببت بالضرر للإسرائيليين، فإنها تسبّبت بالضّرر للفلسطينيين أيضًا، كما أنّ الصور التي تخرج من الميدان سريعًا عبر مواقع التواصل، منحت نظام الهاسبراه استجابة إعلامية ودعائية للأحداث مبينة على تقدير موقف سريع من قبل المتحدّثين والمراسلين بأنهم كانوا شهود عيان على ما جرى. ومن المعروف أنّ هذه التقنية استخدمها الفلسطينيون في معركة سيف القدس حيث ربحت الرواية الفلسطينية المعركة الإعلامية كما لم تربحها من قبل.
كمثال على ذلك، تحدّث رئيس جهاز المعلومات يائيير حييت في مقابلته مع إسرائيل هيوم بتاريخ 11/8/2022، عن حالة الطوارئ التي كانت لتتحوّل إلى كارثة إعلاميّة بحسب قوله لولا ما أسماه عملية “إغلاق سريع” لنشر أنّ “إسرائيل ليست مسؤولة عن قتل خمسة أطفال في مقبرة جباليا وتقديم الدليل أن الجهاد الإسلامي هو المسؤول” . قدم حييت إحداثيات مفبركة عبر البثّ المباشر وهي عبارة عن مقاطع فيديو ورسوم بيانية لعملية إطلاق فاشلة قامت بها الجهاد، ليثبت في وسائل الإعلام والرأي العام أن الجهاد الإسلامي كان يطلق النار على المواطنين الفلسطينيين. وبسبب السرعة في التنسيق مع المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي والقنوات التي تحدثنا عنها في الفقرة أعلاه، “جعلنا حقيقة أن الجهاد يضر بالمواطنين الفلسطينيين إحدى رسائلنا الرئيسية”، يقول حييت.
4/ تشديد الرقابة على نشر الخسائر في مواقع التواصل
كشفت صحيفة معاريف العبرية عن إجمالي الأضرار الناتجة عن المواجهة الأخيرة مع المقاومة في قطاع غزة. وبينت أنّ اللجنة المالية في كنيست الاحتلال ناقشت الأضرار وأوضحت أنّ قيمتها بلغت نحو 300 مليون شيكل أي ما يوازي 92 مليون دولار. وأوضحت أنه تم تسجيل 222 حالة ضرر مباشر، منها 84 في عسقلان، و66 في سديروت، و72 حالة في مدن أخرى. وبينت أنه من بين الحالات 114 حالة أضرار لحقت بالمباني، و97 لأضرار لحقت بمركبات، في حين أن الصور والفيديوهات المنشورة لا تتجاوز الـ 10.
5/ التشبيك مع الأجهزة الأخرى لتأليب الرأي العام
قامت سلطات الاحتلال بإغلاق معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد جنوب القطاع قبل أربعة أيام من العملية العسكرية، وأعلنت أن إغلاق المعبر جاء في إطار الخشية من ردّ الفعل على اعتقال القيادي في الجهاد الإسلامي بسام السعدي، ثمّ انفجرت مجموعة من الأزمات بوجه الجهاد الإسلامي. في اليوم الأول من أيام التصعيد بدأت وسائل الإعلام العبرية والعربية، ببث الأخبار عن انقطاع الطاقة لمدة 20 ساعة في النهار، وتمّ الإعلان عن انخفاض المياه، وعدم قدرة المستشفيات على استقبال الحالات الصحية ، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار وأزمة على المخابز في صباح اليوم الثاني من التصعيد، حيث أفاد أحد المعلقين أنها بدت وكأن القطاع “ذاهب إلى مجاعة”. وبالاستعانة بالإغراق والتهويل الإعلامي، خدمت هذه المعطيات في تحريض الناس من خلال إظهار الحركة بأنها أدخلت المجتمع في أزمة غذاء واحتياجات، وأنها تعمل ضدّ مصلحة سكان غزة. وقد نجح هذا التحريض بمستويات مختلفة حسب قربها أو بعدها عن تنظيم الجهاد الاسلامي، تمّت ملاحظة ذلك من خلال مراقبة الخطابات السارية على مواقع التواصل الاجتماعي ومقالات الرأي المكتوبة في المنصات الرقمية، في الفترة الواقعة بين يوم الجمعة 5 آب أغسطس حتى يوم الأحد 28 آب.
رسائل استهداف المجموعات الرئيسية
يتم تعريف الواقع المعرفي للحرب النفسية في الأساليب، من خلال حساب شعور العدو. يمكن أن يكون لسوء التقدير عواقب وخيمة. من خلال تحديد المفاهيم الأخلاقية والمفاهيم المسبقة للعدو، يتم التفكير حول السلوك المحتمل عند التعرض إلى الحرب النفسية، تحديد جانب التأثير وتغيير العقل والسلوك المستهدفين . تتضمن العمليات النفسية اليوم إلى حد كبير استهداف المجموعات الرئيسية لدعم الرواية الخاصة بالمستهدِف ، تبعاً لمقاربة إروين مانسدورف الذي يتبنى منظور ليبيكي.
العمليات ضد الإرادة الوطنية
يتم تقديم العمليات ضد الإرادة الوطنية على أنها إما “تقبلنا بوصفنا ودودين” أو كنهج “وإلا”. يقدّم هذان الخياران مع دعوة وديّة أو التهديد بالعنف والتلويح بالعواقب. وبشكل بديهي تتولى وسائل الإعلام الدور الأساسي في الشحذ المنهجي للمعلومات المستخدمة في الحرب النفسية الموجهة تجاه الدولة أو المجموعة . في كتابه “سرديّات الحرب والإرادة الوطنية الأمريكية في الحرب”، يعرّف جيفري كيوباك الإرادة الوطنية بالنظر إلى الأمريكيين فيقول: ” “الإرادة الوطنية في الحرب هي الاستدامة السياسية لسياسة أمريكية تسعى إلى تلبية أهداف السياسة الخارجية في الغالب من خلال استخدام القوة العسكرية” . يستخدم ليبيكي مثالاً، عندما بثّت المعارضة مشاهد الجنود الأمريكيين القتلى الذين يتم جرهم في الصومال، أدى ذلك إلى انسحاب القوات الأمريكية، وهكذا نجحت المعارضة بإخراج الجنود الأمريكيين من الصومال بالضغط على الإرادة الوطنية. ركزّت الدعاية الإسرائيلية على مجموعة من الرسائل لكسر الإرادة الوطنية من خلال بث معلومات وفي بعض الأحيان مشاهد عن عدد الغزاويين الذين قتلوا بصواريخ الجهاد .
ومن عمليات كسر الإرادة الوطنية أيضًا، الحديث عما سمي “الزاوية الإيرانية في عملية الفجر”، التي توصي بأنّ إيران قدّمت منحًا بملايين الدولارات مقابل كل هجوم ضدّ الكيان ، ما يعني أن هذه الحرب هي حرب الإيرانيين وليست حربًا وطنيًّةً خاصّة بالفلسطينيين.
العمليات ضد القوات
العمليات ضدّ القوات المعارضة هنا هي استخدام أساليب نفسية للتأثير على أعضاء الجهاد الإسلامي، يتم ذلك من خلال خلق استياء وأزمة ثقة بين المقاتلين. ولتحقيق هذا الاستهداف يتم جمع المعلومات عن الأفراد في التنظيم ومعرفة إحداثياتهم وكل ما هو مفيد من حيث التأثير حتى لو كان يستغرق وقتًا طويلًا يتم بثّ المعلومات التي تهدّد أمن ووجود القوات المعارضة، أو تحرّض عليها. ولتحقيق هدف خلق الخوف وعدم اليقين، تمّ استهداف اثنين من القادة، ولم تكن المرة الأولى، هما تيسير الجعبري وخالد منصور، ومعرفة إحداثيات قادة بهذا المستوى يحدث صدمة لناحية الانكشاف الأمني لدى المقاتلين.
العمليات ضدّ القادة العسكريين
يعتمد الكيان سياسية الاغتيالات ويسميها في أدبياته “الإجراءات المضادة المستهدفة” ضد القادة الفلسطينيين، تستخدم هذه السياسة في الحرب النفسية أيضًا. الرئيس السابق لقسم الأبحاث الاستراتيجية والسياسات في الجيش الإسرائيلي بنحاس يحزقيلي يرى أن الدول تلجأ إلى الإجراءات المضادة المستهدفة” ضد جهات تعتبرها (إرهابية) لتحقيق عدة أهداف تتراوح بين أغراض عسكرية بحتة مثل الردع ومنع تنفيذ عملية وشيكة أو ما يوصف إسرائيليًا بالقنبلة الموقوتة، وصولًا إلى أغراض معنوية مثل ضرب معنويات العدو ورفع معنويات الجمهور والانتقام والرد على عملية موجعة.
في حالة الجهاد الإسلامي، يرى يحزقيلي في فاعلية “الإجراءات المضادة المستهدفة” كما يسميها وفقًا لنظرية الشبكة، وهي أن اغتيال القائد فتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، كان في تلك الفترة مركز القوة الوحيد، والقضاء عليه يخلق فجوة كبيرة لا يمكن سدّها بالكامل في كثير من الحالات. واستطاع بذلك إخراج الجهاد من اللعبة عدة سنوات، من خلال إدخالها في حالة من الفوضى لفترة من الزمن، وصلت إلى درجة أن جهاد اليوم في الواقع هو تنظيم جديد إذ تحوّل إلى شبكة لامركزية، وهي الشبكة التي يصف بها حماس أيضًا، فيعمد إلى اغتيال قادتها العسكريين بهدف إدخالها في حالة شلل وحاجتها إلى فترة انتعاش قبل استعادة الأجزاء المتضررة إلى الفعالية. تمّ افتتاح العملية العسكرية بتنفيذ اغتيال، ولم تكن المرة الأولى التي يفتتح فيها الكيان حربًا بالاغتيالات، بدأت الحرب على غزة عام 2012 باغتيال القائد في كتائب عز الدين القسام أحمد الجعبري الرجل الثاني في حماس بعد القائد محمد الضيف، وبدأت عملية عسكرية عام 2019 باغتيال القائد في سرايا القدس بهاء أبو العطا، وصولًا إلى الاغتيال الأخير للقائد تيسير الجعبري خليفة القائد أبو العطا. بهدف إضعاف الجبهة معنويًا ومحاولة شلّها للحصول على نتائج أكبر للعملية العسكرية.
العمليات ضد القادة السياسيين
تصدّرت علاقة أمين عام حركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة مع إيران وسوريا وحزب الله، باعتباره رجلًا يرجّح مصالح إيران على مصالح الفلسطينيين، خاصة أنه مقيم خارج الأراضي الفلسطينية وتحديدًا في دمشق. وعلى كافة الوسائط الإعلامية التقليدية والحديثة، يمكن ملاحظة كثافة التركيز على وجوده في طهران ومن هناك يقود الحملة في الأراضي المحتلة، وذلك في استكمال لسردية أن الجهاد الإسلامي هو ذراع إيرانية تخوض حربًا بالوكالة ضد الكيان من الداخل، وأمينه العام ليس قائدًا وطنيًا، ومن ثمّ تسليط الضوء على الخسائر الفلسطينية وضعف سرايا القدس في إطلاق الصواريخ وعدم قدرتها على إصابة المستوطنين بهدف حصول استجابة عاطفية لدى الجمهور بأن هذا القائد ليس ما تظنونه، بدليل أنه اتخذ قرارًا خاطئًا وليس لمصلحة الناس.
الصراع الثقافي / الأيديولوجي
1/ الصراع الثقافي على المشروعية
في التقليد الغربي، يتم كسر الشعوب استعدادًا لاستعمارها من خلال “الإبادة الثقافية”، وهي عملية ممنهجة ومعقدة تهدف إلى إعادة خلق الخصم من داخله وإعادة رسم تصوراته عن نفسه وعن عدوّه، وبالتالي تغيير حقيقة الخصم من داخله، وهي عمليه تعديل جيني فكري بحيث تحتفظ به جسديًا وتعدل برمجته بالكامل لخلق ظروف مؤاتية لكي يقوم بعملية التدمير الذاتي تريح الخصم من عبء محاربته.
العمليات النفسية الإسرائيلية في كيّ الوعي الفلسطيني والتحقير الأخلاقي والثقافي للشعب المهزوم بدأت منذ العام 1948، تسمى هذه العملية “الإسقاط والتشهير” وهي حملة اتهامية تطهّر المحتلّ من صفاته وتلصقها بالخصم، عملية التحقير هذه ستؤدي إلى شعب فارغ من الفكرة الوطنية وغير قابل للدفاع عنها. يمكن ملاحظة عملية الإسقاط والتشهير من خلال ترويج الاحتلال على أنه الطرف الذي يدافع عن نفسه في عملية استباقية خوفًا من ردة فعل الجهاد الإسلامي على اعتقال أحد قادته في الضفة باعتباره الطرف الأساسي بوجوده الطبيعي على الأرض، الأمر الذي يعطيه المشروعية.
2/ استغلال الحساسيات بين فصائل المقاومة
نجحت قاعدة “فرق تسد” إلى حدٍّ كبير في العمليات النفسية منذ بداية التاريخ وحتى اليوم. الانتصار الأكبر في العمليات النفسية الذي سجلته الدعاية الإسرائيلية كان في الأخذ والردّ الذي سجّل في الفضاء الالكتروني بين النخب والقواعد الشعبية لحماس والجهاد الإسلامي. يمكن رصد مجموعة كبيرة من المنشورات والتغريدات والمقالات التي تبنّت الجو الإعلامي والنفسي الذي مارسه جيش الاحتلال والهسباراه. انتهت العملية العسكرية على الجهاد الإسلامي بانسحاب الجهاد من “غرفة العمليات المشتركة” . سارع الإعلام العبري إلى نشر المعلومة على أنها احتجاج على “غدر حماس” التي أرادت تحجيم الجهاد الإسلامي أمام السكان في القطاع إلى جانب إظهار فشل زياد النخالة في قيادة جولة بدون حماس. أدركت الفصائل الفلسطينية هذا الاختراق وقامت بعدد من الإجراءات عادت بفعلها غرفة العمليات المشتركة إلى العمل.
خاتمة
يمكن ملاحظة محاولة الحصول على سردية إسرائيلية ناجحة ومدروسة قائمة على الدروس المستفادة من نجاح السردية الفلسطينية خلال معركة سيف القدس، من خلال المسارعة إلى تفنيد الوقائع لصالح الرواية الإسرائيلية، والمساندة الإعلامية لكافة العمليات اللوجستية التي استهدفت الإرادة الوطنية ومعنويات المقاتلين الفلسطينيين، والقادة العسكريين والسياسيين، وغذّت الصراع الأيديولوجي لتثبيت نفسها، وإذكاء الصراع بين الفصائل.
الكاتب: زينب عقيل-الخنادق