ٍَالرئيسية

تحرير سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي له تداعيات كارثيّة.. وهذه أهمّها توحيد سعر الصرف في الموازنة هو المدخل الوحيد الى استعادة الإنضباط المالي أكثر من 45% من استيراد لبنان يذهب الى التهريب.. والدوافع ربحيّة بحت

جاسم عجاقة

الديار

الإنضباط المالي للدولة هو موضوع جوهري في علم الاقتصاد، حيث يُترجم هذا الإنضباط من عدمه في عجز الموازنة وفي الحساب الجاري. وتنصّ المعادلة الحسابية على موازاة الإنفاق مع المدخول أي بمعنى أخر: إصدار سندات خزينة + الضرائب = خدمة الدين العام + الإنفاق العام. فإذا كان الإنفاق أعلى من المدخول يُصبح هناك عجز في الموازنة يتحوّل تلقائيًا إلى دين عام في أخر السنة. وتضع القوانين الإقتصادية شرطًا أساسيًا لفرض الإنضباط المالي للدولة من خلال تسجيل فائض في الميزان الأولي يكون أعلّى من خدمة الدين العام، وهو ما لم يحصل في لبنان منذ عقود.

أمّا على صعيد الحساب الجاري (وبالتالي ميزان المدفوعات)، فإن الإستيراد المُفرط يؤدّي حكمًا إلى عجز في ميزان المدفوعات، وهو ما يؤدّي على المدى البعيد إلى أزمة سعر صرف تفرض خفض قيمة العملة الوطنية لضمان خفض الإستيراد (ارتفاع الأسعار بالعملة المحلّية) ، وبالتالي العودة إلى مستويات يُمكن للإقتصاد تحمّلها.

ونصّت المهام الإقتصادية للحكومات على ثلاث مهام: ضمان التوازن الداخلي (توظيف كامل وإستقرار في الأسعار)، وضمان التوازن مع الخارج (حساب جاري قريب من الصفر)، وسعر صرف عملة يتلاءم مع المهمتين الأولى والثانية. وهذا ما فشلت فيه الحكومات اللبنانية المُتعاقبة التي سجّلت (كلها ومن دون إستثناء) عجز في الموازنة تحول إلى دين عام، وعجز في ميزان المدفوعات تحوّل إلى أزمة عملة، وبالتالي تحوّلت الأزمة الاقتصادية والمالية إلى أزمة عمّلة لا يُمكن حلّها إلا بخفض سعر صرف العملة بشكل مدروس ومُسيطر عليه مع إجراءات تطال فرض السيادة المالية للدولة على أراضيها أو بتحرير كامل لسعر الصرف وتركه للسوق السوداء، وهو ما سيؤدّي إلى كارثة إجتماعية أقل ما يُقال عنها أنها ستكون قضاء على الكيان اللبناني المُتمثّل بشعبه.

لا يُمكن لأي مسؤول حكومي حالي أو سابق التنصّل من مسؤوليته فيما يخص الإنضباط المالي للدولة، إذ من المعروف أن مصير كل دولة تُسجّل عجز مُزمن في الموازنة وعجز مُزمن في ميزان المدفوعات، هو التخلّف عن دفع الإستحقاقات المالية. وما علّة وجود صندوق النقد الدولي، إلا لمُساعدة الحكومات على إستعادة السيطرة على ماليتها العامّة من خلال إقراض الحكومة المعنية أموالًا بهدف القيام بإصلاحات تضمن تحقيق الإنضباط المالي، وبالتالي إستعادة التوازن على فترة القرض.

وهنا تكمن المُشكلة، إذ أن صندوق النقد الدولي يحمل وصفة جاهزة تتضمّن مجموعة من الشروط المُسمّاة إصلاحية والتي يفرضها كشروط بهدف إقراض الحكومة. وكلمة إصلاحية من وجهة نظر صندوق النقد الدولي، تعني بكل بساطة مجموعة إجراءات هيكلية تضمّن إستعادة الإنضباط المالي للحكومة، وضعها الاقتصادي الأميركي جيمس ويليمسون فيما يُعرف بـ «The Washington Consensus» أو «سياسات التكيف الهيكلي»: (1) عجز الموازنة أقل من 1٪ أو 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي، (2) الإنفاق العام الموجه نحو الأنشطة التي تولد عوامل خارجية إيجابية (الصحة والتعليم والبنية التحتية)، (3) إعفاء ضريبي، (4) أسعار الفائدة يحددها السوق، (5) نظام سعر الصرف المرن، (6) إزالة الإجراءات الحمائية، (7) الانفتاح على الاستثمار الأجنبي المباشر، (8) الخصخصة بهدف تقليص عجز الميزانية والثقة بآليات السوق، (9) تحرير السوق، و(10) ضمان حقوق الملكية.

وتهدف هذه التدابير إلى تحقيق ثلاثة أهداف يجب أن تتبع بعضها البعض بمرور الوقت: فتح البلاد أمام التجارة الدولية (تعزيز الصادرات، وانفتاح البلد على الاستثمار الأجنبي المباشر)، وإنشاء سياسة سعر فائدة نقدية (بنك مركزي مستقل وموثوق، ومحاربة التضخم) وأخيراً، استبدال التنظيم العام بتنظيم السوق (الإشارات والحوافز من خلال أسعار السوق والخصخصة).

سياسات التكيف الهيكلي حصدت دعم المؤسسات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، وتمّ تطبيقها بنجاح في العديد من الدول. لكن هذا النموذج من السياسات أعطى نتائج كارثية في العديد من دول أميركا اللاتينية، وتسبّبت بتضخّم مُفرط بهذه الدول من خلال فشلها في تحفيز النمو الاقتصادي وإدخال الشعب في فقر مُدقع. وبالتحديد أدّى تفكيك القطاع العام وخفض الإنفاق العام في هذه الدول – بحسب قواعد الإنتظام المالي – إلى تراجع كبير في التعليم وإرتفاع في نسبة وفاة الأطفال، وإرتفعت خدمة الدين العام ومعها إنخفضت نسبة الموارد المالية المُخصصّة للشق الاجتماعي والإنمائي.

بشكل عام يُمكن القول إن هذه السياسات أعطت نتائج إيجابية في البلدان المُتقدّمة على الصعيد الإنمائي، والتي تتمتّع بمؤسسات إجتماعية وسياسية ثابتة، ولكنها فشلت بدون أدنى شك في البلدان الأقل تقدّمًا لا بل على العكس، كانت كارثية من ناحية إضعاف دولة الرفاهية التي كانت موجودة وبالتالي زيادة الفقر، وتطور مافيات أخذت مكان الدولة في العديد من المجالات… ولكن المُلفت أن الدول التي طبّقت سياسات التكيّف الهيكلي بحذافيرها هي التي تدهور واقعها الاجتماعي والإقتصادي أكثر (Deubel 2008).

على هذا الصعيد، أصبح الاقتصادي الأميركي جوزيف ستيجليتز والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد رأس حربة في إنتقاد المفهوم الليبيرالي «الفريد» للتنمية الذي يتبعه صندوق النقد الدولي، وأعطى هذا المفهوم عبارة «تعصّب السوق» المفترض أنه قابل للتطبيق على كل دول العام بغض النظر عن هياكلها الاجتماعية والإقتصادية. وهو ما دفع ستيجليتز إلى الإستنتاج أن هذا المفهوم محكوم بالفشل. للتذكير أن ستيجليتز كان نائب الرئيس السابق وكبير الاقتصاديين في البنك الدولي وقد إستقال من مصبه في العام 2000 إعتراضًا على السياسات المُتبعة خصوصًا من صندوق النقد الدولي.

الواقع اللبناني الذي يتميّز بضعف مؤسساته الدستورية والإدارية العامة، يقع أكثر في خانة البلدان المرشّحة للفشل، حتى ولو تمّ تطبيق الإصلاحات التي يُطالب بها صندوق النقد الدولي. لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنه لا يجب التوقيع على إتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي أو أنه لا يجب القيام بالإصلاحات!! على العكس، لكن المقصود أنه يتوجّب على الحكومة – التي لا تقوم بما يلزم لأخذ خصوصية الهيكلية الاجتماعية والإقتصادية اللبنانية بعين الإعتبار – أن تكون منتبهة أكثر على طلبات صندوق النقد الدولي، وأن تأخذ بعين الإعتبار التداعيات الكارثية لبعض الإجراءات التي قد تؤدّي إلى وضع أسوأ مما هو عليه اليوم.

على رأس هذه الإجراءات تحرير سعر صرف الليرة اللبنانية مُقابل الدولار، والذي إذا تمّ فرضه من دون أن يكون التعويم موجّه، سيؤدّي إلى ارتفاع مستطرد لسعر دولار السوق السوداء إلى مستويات تفوق المئة ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد، خصوصًا أن الدولة لا تمارس واجبها الرقابي على السوق في ظل وجود إحتكارات وتهريب وتلاعب في سعر دولار السوق السوداء بشكل مفضوح وغياب قوانين المنافسة وغيرها من الإجراءات التي يتوجّب أن ترافق أي عملية تعويم موجّه (وليس كامل) لليرة اللبنانية في المرحلة المُقبلة.

تقديراتنا تُشير إلى أن ما بين 45% إلى 50% من الإستيراد اللبناني يذهب إلى التهريب بهدف الربحية بحكم أن التهريب لا يقتصر على بلد واحد، بل أن البضائع المستوردة تجد طريقها إلى العديد من البلدان المجاورة. وهنا يُطرح السؤال: كيف يُمكن لمصرف لبنان أو الحكومة السيطرة على الكتلة النقدية بالدولار الأميركي، ضمان إستقرار سعر الصرف في ظل هذا الحجم من التهريب؟ المعروف أنه من شبه المستحيل السيطرة على الكتلة النقدية بالدولار الأميركي في ظل التهريب الذي لا يُخالف قواعد اللعبة الإقتصادية فقط، بل يضع لبنان تحت خطر فرض عقوبات أميركية نتيجة مُخالفته قانون قيصر. أيضًا، لا يُمكن لمصرف لبنان أو الحكومة ضمان إستقرار الأسعار في ظل فلتان كلّي في عالم التجارة في لبنان، حيث أن هوامش الربح لدى التجار تخطّت مستويات تاريخية ليس فقط في لبنان، بل في العالم!! المُحاكاة التي قمّنا بها تُشير إلى نسب أرباح تتخطّى المئة بالمئة على بعض السلع وهو ما يجعل هيكلية الأسعار وبالتالي التضخمّ مُصطنع وليس حقيقيا. وهو ما يعني أن أي إجراء ستقوم به الحكومة لا يتضمّن وجود تنافسية كبيرة ومُحاسبة للمخالفين، لن يُعطي مفعوله وسينعكس على الشعب.

من هنا، نرى أن خطورة ما تطرحه الحكومة من ناحية فرض سعر منصّة صيرفة على الإيرادات، على أن يتمّ رفعه إلى سعر السوق السوداء لاحقًا، سيؤدّي حكمًا إلى عملية إنتحارية على صعيد الاقتصاد والمالية العامة والنقد! هذا التحذير موجّه بالدرجة الأولى للحكومة ولفريقها المفاوض إذ لا يُمكنهم تطبيق نظريات لا تنطبق على الواقع اللبناني! أي عملية تصحيح نقدية بهدف إستعادة السيطرة على ميزان المدفوعات من دون أي إجراءات مواكبة هي عملية محكومة بالفشل، والأجدى وقف التهريب الذي سيُقلّل للنصف حجم الإستيراد على أن يتمّ بعدها القيام بعمليات تصحيحية سواء على الصعيد النقدي أو على الصعيد الجمركي بهدف إستعادة السيطرة على المالية العامة.

من هذا المُنطلق، نرى أن المنهجيّة الأصح تنصّ على توحيد سعر الصرف موازنة العام 2022 وذلك في الإيرادات والمدفوعات، على أن يتمّ إتخاذ إجراءات لإستعادة السيادة المالية على الأراضي اللبنانية إجراء إصلاحات. وهنا نعني وقف عمليات التهريب، وتحسين الجباية، ومُكافحة التهرّب الضريبي، ومُحاربة الاقتصاد النقدي، ومُحاربة التطبيقات الإلكترونية لسعر الصرف، وتطبيق قانون التنافسية لتحرير الاقتصاد من قبضة قلّة من التجار، وإقرار قانون الكابيتال كونترول، وقانون إعادة هيكلة المصارف، وتخلّي الحكومة عن خطّتها الجهنّمية لتذويب ديونها على حساب المودعين، وحلّ مُشكلة الكهرباء من خلال الشراكة مع القطاع الخاص، وإلغاء المؤسسات غير المجدية كما نصّ عليه تقرير لجنة المال والموازنة في العام 2019، وإستعادة هيبة مؤسسات الدولة وعلى رأسها الرقابية والإدارة العامة التي من المفترض أن يتمّ مكننتها اليوم قبل الغد. من دون هذه المنهجية التي تفرض قضاءً مستقلًا، نرى أن رفع الدولار الجمركي وغيرها من الإجراءات المجتزأة، لن تسمح للحكومة بوضع لبنان على السكة الصحيحة.

هذه المنهجية يُمكن بحثها والتفاوض بشأنها مع صندوق النقد الدولي الذي سبق وقبل في عدّة بلدان بالحفاظ على سعر صرف ثابت خلال فترة الإصلاحات ونجحت من خلاله هذه الدول من الخروج من أزمتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى