ونحن على أعتاب الذكرى الرابعة والأربعين لتغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه (أعادهم الله سالمين)، والذين اختطفوا على أيدي نظام العقيد الليبي المقبور معمر القذافي، وذلك خلال تلبيتهم لدعوة رسمية لحضور احتفالات الفاتح من سبتمبر – أيلول ذكرى الانقلاب العسكري الذي قاده القذافي في العام 1969 على النظام الملكي في حينه، وما زالت قضية اختطافه جُرحًا مفتوحًا ولغزًا مُحيِّرًا حتى يومنا الحاضر، يبقى هذا الإمام الحاضر أبدًا في الوجدان مُبتدأ حكاية المقاومة وخبرها الجميل وسنوات انتصاراتها المقترنة بفكره وعقله وروحه وجهاده الطويل.
أربعون ربيعًا على الانطلاقة، وما سارت عليه هذه المقاومة في درب التحرير ألهمتها في كثيرٍ من محطاتها المشرقة روح هذا القائد الاستثنائي الذي استشعر خطر الكيان الصهيوني على لبنان وفلسطين والمنطقة منذ أن وطئت قدماه لبنان في خمسينيات القرن الماضي، حيث كان دأبه اليومي شحذ الطاقات والهمم لتكوين مجتمع مقاوم في وجه أطماع “إسرائيل”، ومقولته الشهيرة التي وردت في لقاءٍ صحفي معه في العام 1970 خير دليل حيث قال: “علينا تكوين مجتمع حرب وتجنيد جميع الطاقات العربية والاسلامية في معركتنا مع “إسرائيل””.
كان سماحة الإمام الصدر يعلم علم اليقين أطماع العدو الصهيوني وأن لا سلام واستقرار للبنان من دون جنوبه، لينتهي سماحته بالقول في لقاءٍ وفي مناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف في العام 1973: “ما يجب أن نفكر فيه هو كيف نصنع المجتمع البطل، فقد مضى زمن الرجل البطل، فلنتحول من الأبطال الأفراد إلى البطل المجتمع… فلنفكِّر وندرس ونتأمل”.
كان الإمام المغيَّب يعمل على إعداد المجتمع إعدادًا رساليًّا وجهاديًّا يزرع فيه قيم التضحية والمواجهة بوجه الظلم المتجسِّد في “إسرائيل” الغاصبة، فأسس “هيئة نصرة الجنوب” في العام 1970 داعيًا دومًا إلى تكوين مجتمع حرب، هذا المجتمع للأسف – وفق قوله – لم يكن يراه إلا جزئيًا مقتصرًا على بيئة محددة، لذا واصل ليله بنهاره عاملًا على تهيئة المجتمع اللبناني عامّةً والجنوبي خاصةً ليكون شبابه طليعة الحماة للأرض والمقاومة بوجه المحتل، وكانت ترجمتها – مثالًا وليس حصرًا – المواجهات الملحمية والتصدّي البطولي للعدو الإسرائيلي في شلعبون ورب تلاتين والطيبة وبنت جبيل عام 1977 بقيادة الشهيد الدكتور مصطفى شمران (رض) والسعي الدائم والحثيث لتعزيز صمود الجنوبيين في القرى الأمامية وفي مقدمهم أهالي كفرشوبا والعرقوب ومزارع شبعا، ثم كانت انتفاضة عاشوراء الشعبية في النبطية على إثر الاجتياح عام 1982، وتمرُّد جبشيت الشيخ راغب حرب (رض) – صاحب الكلمات الخالدة: “لقد هزئنا بالاحتلال، الموقف سلاح والمصافحة اعتراف” – على المحتل وعملائه، واعتصام الحلوسيَّة بلدة شيخ المعتقلين الشيخ عباس حرب(رحمه الله) الذي رفض الخضوع للمحتل ولعملائه، وملحمة الزيت المغلي لأهالي بلدة معركة والتصدّي البطولي لأبناء الزرارية وحومين التحتا بوجه الاجتياح الصهيوني في العام 1985 وغيرها من قرى الجنوب اللبناني.
هذه الإستراتيجية التي رسمها العقل الألمعي للإمام الصدر وفكره وروحه التقطت إشاراتها العقائدية والتعبوية والجهادية المقاومة الإسلامية، وتلقفتها منذ الطلقات الأولى في خلدة عام 1982 وعملت على تزخيمها ورفدها بكل المقومات لإنجاح عملها الجهادي، وكانت أيضًا في صلب تجربتها الطويلة في إعدادها للمجتمع المقاوم فكرًا وعقيدةً وتعبئةً وتدريبًا وتسليحًا وصبرًا وبصيرةً، والذي يسطِّرُ أفراده بمجملهم البطولات والانتصارات.
مع مرور السنين تعاظم هذا الحضور الجماهيري في ميادين المواجهات واتَّسعت الحاضنة المجتمعية والشعبية للمقاومين، وتُرجم هذا الحضور في محطات كثيرة من الصراع مع العدو التزامًا بخيار المقاومة والصبر على التضحيات، ظهرت نتائجها في تحقيق المناعة والقوة بوجه الاحتلال وفي تكوين بيئةٍ حاضنةٍ متكافلةٍ تحمي وتبني وتكتب أولى حروف أبجدية النصر والتحرير ودحر العدو في ترجمةٍ عملية لمقولة سيد شهداء المقاومة السيد الشهيد عباس الموسوي (رض) – “إسرائيل” سقطت – ليستكمله سيِّد المقاومة (حفظه الله) موكِّدًا على سقوط مشروعها التوسعي كـ”إسرائيل” الكبرى في احتفال التحرير في بنت جبيل في الخامس والعشرين من أيار من العام 2000 قائلًا: “إسرائيل هذه .. واللهِ هي أوهن من بيت العنكبوت”، هذا النصر والتحرير الذي شارك بتحقيقه الكبير والصغير، النساء والرجال، الشيوخ والشباب من أشرف الناس وأطهرهم وأكرمهم بذلًا للدماء والتضحيات العظيمة، كما جرى في أيام عدوان تموز – آب 2006 حين سقطت مقولة “إسرائيل” العظمى.
إنه مجتمعٌ بطلٌ كما أراده الإمام الصدر على مدى أربعين ربيعًا من عمر هذا الحزب بكل ما لكلمة البطولة من معنى.
في مناسبة “الأربعون ربيعًا” حين نتحدث عن الإمام الصدر (أعاده الله) لا يمكننا أن نغفل أبدًا مدرسة الإمام الخميني الراحل (قده) الثورية والعقائدية والتي شكّلت النور والهداية لطريق هذه المقاومة في لبنان. وما زالت هذه المدرسة – الثورة ومعها الجمهورية الإسلامية في إيران وقائدها الولي الفقيه الخامنئي (حفظه الله) تشكِّلُ هذا الحضن الدافيء للمقاومين والمجاهدين والملجأ لهم ولكل المستضعفين والأحرار في العالم. وقد كان الإمام الصدر أحد أركان هذه الثورة ومناصريها وأحد أعمدتها الأساسية. هذه المقاومة ستبقى مَدينَةً لفكرِ هذا الإمام المغيَّب ولروحه وعقله وجهاده ونهجه وتضحياته، وهو الذي منذ استقراره في لبنان أسس لنواة مجتمع المقاومة وحَمْلِ السلاح بوجه “إسرائيل”، داعيًا إلى تحصين القرى الحدودية وتسليح أبناء الجنوب وتدريبهم للدفاع عن أنفسهم وقراهم. هذا الإمام الوحدوي العابر للطوائف والمناطق، المتعالي فوق المذهبية البغيضة والساعي حتى الرمق الأخير لحفظ التعايش الإسلامي – المسيحي وحمايته – والذي كان يعتقد – أنه ثروة يجب التمسك بها لمعرفته بأهمية هذا التعايش في مواجهة “إسرائيل” وأطماعها، سيبقى فكره المقاوم نبراسًا ومنهاجًا لكل السائرين على خطه ونهجه وهو القائل: ““إسرائيل” شر مطلق، قاتلوا “إسرائيل” بأسنانكم وأظافركم مهما كان سلاحكم وضيعًا”، غادرنا في سفره الطويل وكلُّه أملٌ ورجاء “أن يتحول الجنوب صخرة تتحطم عليها مطامع العدو الصهيوني”، في الأربعين ربيعًا من المقاومة كان له ما أراد، جنوبًا منيعًا بطلًا إن شاء الله.