حديث عن الانطلاقة الأولى للمقاومة الإسلامية، من معركة خلدة في أول أيام الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، إلى حصار بيروت، ثم القتال داخلها، فنقل المعركة إلى الجنوب، مروراً بالعمليات المفصليّة، حتى أواخر عقد الثمانينات، حين صارت المقاومة تنظيماً علنياً قائماً بذاته، اسمه «حزب الله»، ورايته الصفراء التي نعرفها ويعرفها اللبنانيون والعالم
أربعون عاماً على المقاومة، نحييها – على طريقتنا – بمحاولة تأريخية – صحافية، حاولنا فيها التعرّف إلى وقائع وحقائق، ربّما رُوي بعضها من قبل، وبعضها نأمل في أن نكون قد نجحنا في إخراجه من خزانة أسرار حزب الله الكبيرة والعميقة، على لسان – وبعيون – واحد من القادة الأساسيين في المقاومة الإسلامية، وأحد الذين واكبوا هذه «الظاهرة» منذ يومها الأول، ليس من موقع المراقب، بل المنفّذ والمبادر، حينها، والقائد الأساسي اليوم. حديث عن الانطلاقة الأولى للمقاومة الإسلامية، من معركة خلدة في أول أيام الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، إلى حصار بيروت، ثم القتال داخلها، فنقل المعركة إلى الجنوب، مروراً بالعمليات المفصليّة، حتى أواخر عقد الثمانينات، حين صارت المقاومة تنظيماً علنياً قائماً بذاته، اسمه «حزب الله»، ورايته الصفراء التي نعرفها ويعرفها اللبنانيون والعالم.
من أين جاؤوا؟
لكل من المقاومين الأوائل انطلاقته وظروفه الخاصة به التي هيّأته ليصبح جزءاً من كلٍّ اسمه «مقاومة». يحدّثنا القائد الجهادي عن نشأته وسنوات شبابه الأولى، وهي شبيهة عموماً بسيرة جيل ممن سيصبحون، خلال سنوات قليلة، نواة أساسية للعمل العسكري المقاوم في لبنان، ولاحقاً لحزب الله. نشأ هؤلاء في بيروت، التي كانت حينها مقراً كبيراً لتنظيمات مسلّحة مختلفة ومتناحرة، في ظلّ غياب كامل لأي شكل من أشكال الدولة، وفي ظلّ ظروف صعبة عانوا فيها شظف العيش ومرارة الفقر. يستذكر حادثة مفصلية أثّرت في وعيه وأبناء جيله عندما اغتال فريق «كوماندوس» إسرائيلي عام 1973 ثلاثة قادة فلسطينيين في حركة «فتح» (كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار) في منطقة فردان، وفجّر مقر «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين». حينها، ذهب مع أصدقائه إلى مكان العملية ليلاً. ربما كانت تلك المرّة الأولى التي يشعر فيها أبناء ذلك الجيل بالخطر الإسرائيلي الداهم، وبعدوانية الصهاينة ودمويّتهم. «أثّرت هذه الحادثة في حياتي».
تشكّل وعي أولئك الشبان في ظل حرب أهلية وانقسام اللبنانيين. كان الأقرب إليهم، حينها، التيارات الإسلامية الناشئة والمنظّمات الفلسطينية، ولاحقاً حركة «أمل». في مراحل عدة، حمل ورفاقه السلاح، لكنه لم ينتمِ إلى أي تنظيم وبقيت مشاركاته العسكرية هامشية، بينما عمل شبّان آخرون مع تنظيمات مختلفة، كحركة «أمل» التي كان آخرون من المجموعة الأولى يقاتلون تحت لوائها.
جمعت القائد الجهادي برفاقه الأوائل صفات وقناعات واهتمامات مُشتركة. أبرزها، كما يعدّدها: «الثورية والحماسة، ورفض الذلّ والمهانة، واتّباع الإمام الخميني بما يمثّله من امتداد لنهج الإسلام وأهل بيت النبوّة، والتواجد في المسجد، الذي كان الرابط الأقوى بيننا». في ما بعد، «أتى الاجتياح الذي جمعنا تماماً».
مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، «اتّفقنا، نحن مجموعة من الشباب، على تعريف الناس بالإمام الخميني، وبدأنا بلصق صوره على الجدران في الضاحية الجنوبية». بعد شهور قليلة، عام 1980، أطلق اعتقال السيد محمد باقر الصدر في العراق ثم إعدامه، شرارة النزعة الثورية والرغبة بالقتال في نفوس «شباب المسجد» هؤلاء. وسرعان ما سيقع الاجتياح الإسرائيلي بعد نحو عامين، وسيكون الحدث الذي سيُخرج هؤلاء إلى ميدان المواجهة.
«الخمينيّون» في خلدة
يومي الجمعة والسبت (4 و5 حزيران)، شنّت الطائرات الإسرائيلية غارات جوية على المدينة الرياضية وطريق بئر حسن والرمل العالي ومخيم شاتيلا والنبطية والزهراني، وطاول القصف المدفعي مدينة صور. يوم الأحد، 6 حزيران، بدأ الاجتياح الإسرائيلي البري. منذ اللحظة الأولى، «كنا في حالة ترقّب لأهدافه الحقيقية ومداها، خصوصاً أننا أدركنا حينها أن الحدث لا يشبه ما سبقه. وبالفعل، سرعان ما وصل العدو إلى منطقة الزهراني في اليوم الأوّل». ساد نقاش طويل في لبنان حول جدوى القتال وكلفته، «لكن الإمام الخميني، حسم الأمر وأصدر حكمه بوجوب القتال بكل ما لدينا (…) في اليوم التالي، وصل إلينا الخبر». لم يُطل الشباب التفكير، كان «خيارنا الالتزام بتكليف الإمام الخميني، مع قناعة تامّة بالقتال كخيار وحيد لمواجهة العدو».
لم تكن وسائل التواصل سهلة ولم تكن وسائل الإعلام تمتلك معلومات دقيقة حول تطور الأحداث، فيما كانت تحرّكات العدو سريعة. «في هذا اليوم، اجتمعنا في المسجد. جمعنا أسلحتنا وأعددناها مع كل ما كان بحوزتنا من ذخائر، ولكن أين ومتى نقاتل؟ لم يُحسم الأمر». منذ ذلك الاجتماع، «بدأنا البحث عن طرق للتوجه نحو الجنوب فلم نفلح. كان يوماً طويلاً، عدنا في نهايته إلى المسجد بعد يأسنا من محاولاتنا الفاشلة للوصول إلى تماس مع العدو»… إلى أن كان يوم الأربعاء 9 حزيران. «كنا أمام مسجد الأوزاعي، وكان عددنا نحو ثلاثين أخاً جاهزين للقتال بكامل أسلحتهم، ويتنقّلون بسياراتهم الخاصة (…) شعرنا بحركة غير عادية للآليات العسكرية التابعة لمنظّمات فلسطينية ولبنانية تُسرع باتجاه بيروت. أوقفنا بعضهم وسألناهم عن الأمر، فكان الجواب أن القوات الإسرائيلية أصبحت في خلدة. صرخ أحد الإخوة في وجههم: لماذا تهربون؟ لم يجيبوا». على وقع الأخبار القادمة من خلدة، «جمعنا الشباب في المسجد، وقلنا لهم إن الله فتح لنا باب الجهاد تحت راية الإمام الخميني، وها هو العدو قد وصل إلى خلدة، فمن كان جاهزاً للشهادة، فليحضّر نفسه للتوجّه الآن للقتال». أبدى الحاضرون استعدادهم للمواجهة، وشرعوا بالاستعداد وتجهيز السلاح في السيارات، بينما «توجّهت إلى حيث كانت مجموعة من المقاتلين، وأبلغتهم أننا ذاهبون للقتال هناك. ترددوا في البداية، لكن بعضهم عاد وتجاوب مع الحديث عن الإمام الحسين وضرورة القتال في خلدة كما قاتل الحسين في كربلاء». عاد محدّثنا إلى المسجد في الأوزاعي، وتم توزيع المهام، «12 أخاً إلى خلدة، و12 آخرون ينتشرون من الآثارات إلى أوّل المدرج، و12 ينتشرون عند أوّل منازل الأوزاعي». كان الهدف «تقسيم المعركة إلى عدّة مواجهات على طول الطريق، لإطالة أمد المعركة مع العدو، ليُمنى بأكبر خسائر ممكنة، قبل وصوله إلى الأوزاعي، وهذا ما كان».
وصلت المجموعة إلى مثلث خلدة، وكانت المنطقة مشتعلة بالقصف العنيف، وهدير الطائرات والمدافع يصمّ الآذان. «وصلنا بالسيارات. كَمَن 4 أخوة قرب الجسر لمواجهة العدو حين وصوله، إذ كنا نتوقع أن الباقين الذين سيتقدمون أكثر باتجاه خط الاشتباك لن يعودوا أحياء». على الجهة الغربية، عند الشاطئ، نجح العدو في إنزال سريّة من الدبابات جنوب مدينة الزهراء، والتحرّك باتجاه الطريق، فانهمرت عليه نيران كثيفة حالت بين قوّته البحرية والقوة التي أكملت باتجاه مدينة الزهراء. «أوقفنا السيارات، وترجّلنا وكنا قد وصلنا إلى ما قبل معمل البويا SIPES مقابل فندق دولفين بثلاثمئة متر (مفرق المبرّة حالياً)، وتموضع شابّان منا هناك».
وباتجاه الفندق على جهة البحر، «تقدّمنا، وقد تجاوزت ملّالة (ناقلة جنود) ودبابتان للعدو مدينة الزهراء، بينما بقيت دبابة وملالة جنوب المدينة. في تلك اللحظات، بدأت النيران، خصوصاً القذائف المضادة للدروع (B7)، تنهمر على العدو من كل الجهات، من مدينة الزهراء، حيث كان مقاتلو أمل، ومن جنوبها حيث كان المقاتلون الفلسطينيون، إضافةً إلى نيران المدفعية والصواريخ التي كانت تستهدف الساحل بقوّة. وصلنا إلى نقطة صارت فيها ملالة ودبابة أمامنا مباشرة. أقفلنا أمامهما الطريق بإطلاق النار الكثيف من جهة الشمال، وبذلك وجدت قوات العدو نفسها في كمين محكم بيننا وبين المقاومين في مدينة الزهراء، والمقاومين الموجودين جنوب المدينة، من دون أي تنسيق بيننا. إذ لم نتوقّع، لا نحن ولا العدو، هذا السيناريو». تم تدمير الدبابات المتقدمة كلها، وأصيبت الملالة التي كانت في مقدّمة القوّة، وصارت أمام المقاومين تماماً. «بدأتُ مع إخواني بالاقتراب منها، وكانت المفاجأة عندما ترجّل منها أربعة جنود وبدأوا بالركض بعيداً. نلتُ من أحدهم وقتلته فوراً، بينما توجه الباقون غرباً، أحدهم وقف رافعاً يديه وقد رمى سلاحه أرضاً وهو يبكي قبل أن يُقتل، فيما لاحق الشباب الجنديين الآخريْن إلى الشاطئ وأردوهما. لا تزال الملّالة في مكانها. اقتربتُ منها بحذر فوجدت جثّتين داخلها، فيما تحولت الدبابات الأخرى كتلاً من النار بمن فيها. كان هذا أوّل قتال مباشر لنا مع العدو، كما كانت أكبر مواجهة منذ بدء الاجتياح، وسُجّلت في هذه المعركة أوّل هزيمة موضعية للإسرائيلي في لبنان، حيث دمّرت القوة تماماً، وفشل الهجوم».
بعد انتهاء الاشتباك، وأثناء تجميع جثث الإسرائيليين ووضعها في الملّالة، بدأ المكان يعجّ بالصحافيين والمصوّرين الذين تجمّعوا حول مجموعة المقاومين، وبدأوا بالأسئلة:
«من أنتم وكيف وصلتم إلى هنا بسرعة؟
أجبتهم: أنتم كيف وصلتم بهذه السرعة؟
قالوا: كنا هنا قبل بدء المعركة، وحين بدأت اختبأنا داخل المبنى، وقد شاهدنا المعركة وما جرى فيها (…) من أنتم؟
احترتُ بما أجيبهم، فقلت: نحن الخمينيون!
قال أحدهم: لم نسمع بهذا من قبل.
قلت: من الآن ستسمعون كثيراً».
أصلح المقاومون الملّالة لإخراجها قبل قدوم طائرات العدو ومعاودة القصف، «وضعنا الجثث فيها وتحرّكنا على متنها نحو الأوزاعي، وسرعان ما فوجئنا بعدد كبير من المقاتلين الذين حضروا إلى المكان، وكلهم يريدون اعتلاءها بعد أن كنا قبل قليل وحدنا».
مرة أخرى، عاد المقاومون إلى خلدة، التي «أصبحت محجّة للمجاهدين، وكان عدد منهم قد تجمّعوا في ملجأ قريب تمهيداً للانتشار على خط الدفاع، أو للتوجّه نحو خطوط المواجهة الأمامية. أغارت طائرات العدو على المبنى، وأُصيب عدد كبير من الإخوة، واستشهد عدد منهم». في خلدة، كانت للشهيد القائد مصطفى بدر الدين قصة خاصة، حيث «حضر إلى المنطقة مستطلعاً انتشار القوات الإسرائيلية التي كانت قد وصلت إلى أوّل الناعمة من جهة خلدة، وتوقّفت عند مفرق دوحة الحصّ، واستقرّت في نقاط تأمينية باتجاه خلدة وامتنعت عن التقدم أكثر خشية الوقوع في معركة جديدة. قرّر الشهيد بدر الدين مهاجمتها، «على قاعدة أن لا نبقى في موقع دفاعي، وعلينا المبادرة بالهجوم، وهذا ما حصل، إذ فوجئ العدو الذي لم يكن يتوقّع أن يجرؤ أحد على مهاجمته (…) أصيب السيد مصطفى في الاشتباك، وكذلك أخ آخر، وبقي السيد ذو الفقار يعاني من إصابته حتى شهادته (2016)».
حاول العدو مهاجمة خلدة والعبور منها مراراً، لكنها استعصت عليه لعدة أيام، حتى احتلّ الجبل كلّه، والتفّ على القوات المدافعة على الخط الساحلي، وأتى من جهة بشامون. «وكنا قد اتفقنا مع التنظيمات الموجودة على محور خلدة أن نكون نحن خلف خط الدفاع، وأن نعمل كقوّة هجومية ونسدّ الثغرات في حال تعرّض الخط الدفاعي للاختراق. لذلك استقرّ بنا الأمر خلف محطة البنزين على مفرق بشامون، عند مدخل ما كان يُعرف براديو أورينت، قرب المدخل الجنوبي الشرقي لمدرج المطار». لكن مع الحركة الالتفافية التي نفّذها العدو، ونزوله من جهة بشامون، «وصل مباشرة إلينا، حيث دارت معركة معه بمشاركة القوات السورية، استمرّت 9 ساعات، ودُمّرت فيها عدّة دبابات وملّالات، واستشهد فيها عدد من الإخوة من بينهم الشهيد سمير نور الدين والشهيد أحمد حمود، وجُرح آخرون منهم الشيخ جمال كنعان، إضافة عدد كبير من ضباط وجنود الجيش السوري». يتذكّر القائد كيف أنه «عندما نفد مخزون قذائف B7 منا، كانت الملالات الإسرائيلية تتراجع جرّاء إطلاق النار عليها من الرشاشات فقط». في النهاية، «عند اختراق معمل الزجاج، وانقطاع الطريق، انسحبنا إلى داخل المطار، ولاحقاً تقدّم العدو إلى الشويفات ووصل إلى كليّة العلوم، حيث دارت اشتباكات معه، ووصل إلى المطار، وبدأ حصار بيروت والضاحية».
حصار بيروت والضاحية
مع انكفاء المقاومين إلى داخل ضاحية بيروت، «بدأنا العمل على تنظيم التشكيلات والانتشار على خطّ الدفاع عن بيروت والضاحية الذي أقامته القوات الفلسطينية والجيش السوري مقابل الجيش الإسرائيلي وحلفائه من الأحزاب اليمينية». مع تشكيل هذا الإطار، «احتجنا لوازم لوجستية التي جرى تأمينها عبر مسارين: الأول داخلي ذاتي، أي بما لدينا من قدرات، خصوصاً ما كانت تقدّمه حركة أمل، والثاني عبر التنظيمات الفلسطينية». ولا بدّ هنا من تذكّر دور «الدور الرئيسي للشهيد عماد مغنية في تأمين كافة لوازم المعركة، والتنسيق مع كل القوى على الأرض، خصوصاً على خطوط الدفاع المشتركة».
النشاط الدفاعي في الضاحية، «أسّس لتشكيلات أمر واقع تدير العمليات على الأرض، وأُجبرنا لاحقاً على العمل منفردين وتأسيس تشكيل مستقلّ، وبدأنا التشكيل على قاعدة التنظيم الجديد الذي يقوم أساساً على الخمينيين». المقاومة، إذاً، «أسّست تشكيلاتها القتالية قبل تأسيس التنظيم، ولاحقاً تم تأسيس طابع غير قتالي يخدم العمل العسكري، ساعد فيه الحاج عماد بشكل أساس، من خلال علاقاته». خلال الحصار «تمّ تنظيم التشكيلات في بيروت، فتم أولاً تشكيل بنية عسكرية هرمية من الإخوة الذين قاتلوا في خلدة وبيروت، وثانياً صار لهذه البنية امتداد بكافة الأبعاد، ولوازم للقتال وجب تأمينها، فجرى، مثلاً، تأسيس مستشفى ميداني في بئر العبد، وكذلك تأسيس مطبخ، وغير ذلك، وكان الدعم من حركة أمل وأهل الضاحية والجيش السوري والتنظيمات الفلسطينية».
ومن معالم تلك المرحلة، يذكر القائد الجهادي حادثة تُدلّل على واقع مجموعات المقاومة حينها، إذ إن همّها الوحيد كان القتال، فقد «أسرنا أوّل جندي إسرائيلي وجدناه تائهاً في منطقة الكوكودي. طلب الفلسطينيون أن نسلّمهم إياه لمبادلته بأسرى فلسطينيين، ففعلنا وعدنا إلى مواقعنا كأن شيئاً لم يكن».
نقل المعركة إلى الجنوب
خلال حصار بيروت، «تبين لدينا أن العدو الإسرائيلي مرتاح في الجنوب، وأن جنوده يسبحون بأريحية على شاطئ صور». من هنا، بدأت تتبلور فكرة نقل المعركة إلى الجنوب. «مع حلول آخر حزيران بدأنا نقل السلاح والتجهيزات العسكرية إلى الجنوب، وكنا نطلب من أي شاب بيننا، من الجنوب، أن يحلق لحيته ويتوجّه إلى قريته ناقلاً معه سلاحاً ومتفجّرات». في المرحلة الأولى، كان الاعتماد على الأفراد وأقاربهم ومعارفهم، «وكان الأخ من بيننا يتابع الأفراد الذين يأتي بهم بناء على صداقة أو قرابة». هكذا، سريعاً، أصبح للتشكيلات الأولى للمقاومة موطئ قدم في الجنوب والبقاع الغربي، «وعلى سبيل المثال، أصبحت طيردبا، بفضل الحاج عماد، مركزاً أساسياً، وكذلك اللويزة بفضل الحاج أبو علي فرحات (2020)، والشرقية بفضل الشهيد أحمد شعيب (1987)، والنبطية بفضل الشهيد إبراهيم خضرا (1983)، والبقاع الغربي بفضل الشهيد أبو حسن بجيجي (1988)، ومناطق وبلدات أخرى بفضل آخرين ممّن استشهدوا أو لا يزالون على قيد الحياة».
مع تطوّر الأوضاع في الجنوب، وتلبيةً لهدف ضرب العدو في العمق المحتلّ، «أصبح من الضروري مواكبة الشباب». في تلك الفترة، نتيجة لتوسّع التشكيلات وتباعدها، «بدأت تأخذ طابع مجموعات منفصلة، ومسؤولي مجموعات، وكان هناك شباب لا يمتلكون خبرة قتالية، فجرى إطلاق دورات تدريبية في الضاحية الجنوبية. كان هذا قبل قدوم تشكيلات الحرس الثوري وانتقال الدورات إلى البقاع». ويذكر القائد من ضمن المتدرّبين في تلك المرحلة: «الاستشهادي أحمد قصير (1982) والشهيد عبد المنعم قصير (1983) والشهيد رضا حريري (1986) وعدد كبير من الشهداء. بعض القرى أرسلت إلى بيروت مجموعات كبيرة من المتدرّبين». هذا الحراك عبّر عنه نائب وزير الأمن في كيان العدو حينها، أفراييم سنيه، بالقول لاحقاً في مذكّراته، إنه «اشتمّ رائحة نشاطٍ معادٍ في الجنوب»، وأنذر رؤساءه «للتحرك وقتل هذا النشاط في مرحلته الأولى حتى لا نقع في ورطة كبيرة في ما بعد (…) وهذا ما حدث فعلاً». وهو ما حصل في عملية الاستشهادي أحمد قصير التي استهدفت مقرّ الحاكم العسكري (مبنى عزمي) في صور (11 تشرين الأول 1982)، إذ أن «المواد التي استُخدمت في تفخيخ السيارة، نُقلت من الضاحية إلى الجنوب خلال حصار الضاحية، وبعضها تمّ نقله إلى الشهيد أحمد علي شعيب في بلدة الشرقية كمحطة أولى».
نشأتان للمقاومة
يمكن القول إن لـ«المقاومة الإسلامية» نشأتين، الأولى تتألف من مرحلتين: 1) عسكرية تلقائية في بيروت بناءً على وقوع الاحتلال وفتوى الإمام الخميني، و2) تأسيس نواة العمل العسكري المقاوم في الجنوب انطلاقاً من الضاحية. أما النشأة الثانية، فكانت عبارة عن ولادة تنظيمية لمساندة المقاومة وتنظيم الدورات ومواكبة الأفراد، وكانت هذه في البقاع بشكل أساسي، مع قدوم ضبّاط الحرس الثوري الإيراني في الشهور الأولى بعد الاجتياح. كان «الشباب يذهبون من بيروت إلى البقاع للتدرّب، ويعودون إلى بيروت لإرسالهم إلى الجنوب للقتال». وفي كل من هذه الساحات، كانت الحاجيات والمتطلّبات مختلفة، «في بيروت، مثلاً، لم نكن بحاجة إلى مدفعية وراجمات صواريخ بسبب وجودها لدى الجيش السوري والفلسطينيين. كنا بحاجة إلى سلاح فردي من رشاشات وقواذف مضادة للدروع». أما في الجنوب، «فقد اختلفت الحاجيات، فكنا بحاجة لعبوات وأجهزة تفجير وقنابل. كنا نرسل اللغم كما هو إلى الجنوب، وهناك يتمّ العمل عليه ليصبح جاهزاً للاستخدام». لم تكن في بيروت مشكلة تسليح وتجهيز، «كنا ندخل إلى مخازن الأسلحة التابعة للتنظيمات المختلفة، من دون أي قيود، ونأخذ ما نريد، ونرسله إلى الجنوب». مع مرور الوقت، «بدأت العلاقة مع الحرس في البقاع تتوطّد وتتنظم، والعلاقة مع المجموعات في الجنوب تقوى، إلى أن انسحب الجيش السوري من بيروت، وغادرت المنظّمات الفلسطينية في أيلول».
يقول القائد: «كنا نرجّح بأن ما يحدث خديعة، وأن الإسرائيلي يريد الدخول إلى بيروت بأي شكل». في الأيام القليلة التي تلت، «كنا نجمع السلاح الذي نحتاجه من مخازن المنظّمات الفلسطينية». ومع حلول أيلول 1982، «كان لدينا 3 أنواع من التشكيلات، الأول تشكيل في بيروت والضاحية، وهو تشكيل قتاليّ محض، والثاني تشكيل الجنوب، وهو تشكيل سرّي أمنيّ محض، والثالث هو تشكيل البقاع الذي كان له طابع شعبي علني وواسع».
القتال داخل بيروت والضاحية
يتابع القائد الجهادي الكبير روايته لمرحلة ما بعد اقتحام قوات الاحتلال بيروت وأطرافها. ويقول: «أخبرتنا امرأة من الأوزاعي بأن هناك إسرائيليين على مدرج المطار يبدو أنهم رفيعو المستوى». استعدّ الشباب على الفور، و«كانوا ثمانية، من بينهم الشهيد سمير مطوط (1986)، وتوجّهوا الى المطار. كان يفصل بينهم وبين الإسرائيليين نحو 5 دقائق، لكنهم غادروا قبل أن يصل الشباب». لاحقاً، «عرفنا من نشرات الأخبار أن أرييل شارون كان على مدرج المطار. ولو وصل هؤلاء الشباب إلى هناك، ربما لم يكونوا ليعودوا أحياء، لكننا كنا نأخذ قراراً سريعاً ونتصرّف على أساسه».
تحرّكت أرتال العدو من محيط المطار باتجاه بيروت، وسلكت طريق الأوزاعي إلى مستديرة السفارة الكويتية. «ذهبتُ مع الحاج عماد مغنية وبعض الشباب لملاقاتهم عندما يلتفّون للدخول إلى الضاحية، لكنهم لم يفعلوا، فلاحقناهم الى منطقة مار الياس. هناك علمنا أن الإسرائيليين صاروا على جسر المطار، فلاقيناهم قرب منطقة صبرا، واشتبكنا معهم، وأُصيب الحاج عماد في رجله. كان ذلك في 9 أيلول 1982». ويضيف: «بعد هذا الاشتباك، عدّلت القوات الإسرائيلية مسارها. ذهبوا باتجاه بئر حسن وسوق الحسبة، وبدل أن يدخلوا إلى صبرا، دخلوا من شارع محسن سليم. كنا مجموعة من الشباب في انتظارهم للاشتباك معهم، إلا أننا لم نفعل لوجود عدد كبير من المدنيين. التففنا من قرب حسينية أبو رياض الخنسا بالاتجاه الآخر، واشتبكنا مع القوة، ورمى أحد الشباب قذيفة على آلية إسرائيلية فقُتل من فيها، وقام الإسرائيليون لاحقاً بوساطات لسحب جثث جنودهم». في حادثة أخرى، «وصل عن طريق الخطأ جيب ويلّيس إسرائيلي إلى ساحة الغبيري. لم يكن الإسرائيليون يعرفون المنطقة جيداً، فلاقاهم الإخوة واشتبكوا مع الدورية، واستشهد شابان، وقُتل الجنود واحترقت الآلية». وفي إحدى المرات، تموضعت دبابة إسرائيلية تحت جسر المطار، «توجّهنا باتجاهها في سيارة بيك آب، من جهة حارة حريك، وحين وصلنا إلى نقطة قريبة، وقف أحد الإخوة الذي كان مستلقياً في الخلف، وعاجلها بقذيفة فاحترقت، وأكملنا طريقنا». لم يستطع العدو البقاء في الضاحية أكثر بعدما شكّلت عقدة أمام تقدّمه، وقُتل له فيها عدد كبير من الجنود، فانكفأ عنها. وحتى في طريق الانكفاء، «توسّط العدو للانسحاب من الغبيري باتجاه السفارة الكويتية بعد اشتباك حول مستشفى الساحل وداخله». في تلك الفترة، «ما كان يعنينا هو اشتباك اللحظة، وليس الاشتباك الطويل، بسبب قلّة العدد، ولتقديرنا بأن المعركة ستطول، وأي خسارة في الأرواح تشكّل فارقاً. لذلك كان المطلوب عمليات سريعة ذات تأثير معنوي على الصديق والعدو».
العمليات في بيروت الغربية
بعد دخول القوات الإسرائيلية إلى بيروت، وقعت في «الغربية» مواجهتان، الأولى أثناء اقتحامها، والثانية أثناء تواجد الإسرائيليين فيها. في الأولى «كانت المعارك قائمة على أكثر من جبهة، وبمشاركة أكثر من فصيل». يروي القائد الجهادي أن «مجموعات الخمينيين خاضت، إلى جانب مجموعات أخرى، مواجهات في البسطة وزقاق البلاط والمصيطبة والخندق الغميق وفتح الله وغيرها. أهم هذه المواجهات كانت في برج أبو حيدر، حيث دُمّرت سبع آليات في محيط جسر سليم سلام، ووقع عدد منها من على الجسر، وكذلك المواجهات على المتحف حيث فشل العدو بالتقدّم نحو البربير أكثر من مرة، بالإضافة إلى جبهة المرفأ حيث دمّر المقاومون عدّة آليات إسرائيلية أثناء تقدمها». يضيف: «شارك في هذه الاشتباكات العديد من شبابنا إلى جانب مقاومين من تنظيمات وجهات أخرى (…) والجميع يتذكّر كيف اضطرب العدو بشدّة، إثر عمليات نالت من جنوده في المزرعة والحمرا وقرب محطة أيوب وصيدلية بسترس. ولم يتمكّن من البقاء في بيروت أكثر من 6 أيام». خلال هذه الفترة القصيرة «توجّهنا من الضاحية باتجاه مرفأ بيروت، وكنا قد جهّزنا آلية محمّلة بأكثر من طنين من الموادّ المتفجرة، والهدف تفجير هنغار كبير يتجمّع فيه أكثر من 300 جندي وضابط إسرائيلي. قبل لحظات من وصول الآلية إلى المكان، أغلق جنود الجيش اللبناني المدخل وطوّقوه بالملّالات والعناصر، ولم نكن لنخاطر بمواجهة الجيش اللبناني، فتراجعنا عن تنفيذ العملية. ولولا هذا المتغيّر المفاجئ، لكانت مجزرة كبيرة أصابت الصهاينة في بيروت».
بعد انسحاب العدو من بيروت ومحيط الضاحية باتجاه صيدا، وانفكاك الحصار عن بيروت، انتقل قسم من المقاومين إلى الجنوب، وبقي قسم في بيروت التي صارت مركزاً أساسياً لقيادة المقاومة وتوجيهها وتجهيزها، فضلاً عن حماية العاصمة وضاحيتها من أي تهديد، خصوصاً عند قدوم القوات المتعدّدة الجنسيات التي تموضعت على شواطئ بيروت، ثم طُردت بالحديد والنار (تشرين الأول 1983)، وتكبّدت خسائر غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، ولم تفقها أي خسائر بشرية أميركية في ضربة واحدة، حتى اليوم.
عملية أسر لم تكتمل
يذكر القائد الجهادي حادثة وقعت بعدما اعتقل العدو شبّاناً كانوا يطلقون صواريخ 107 ملم على تجمّعات القوات الإسرائيلية، وآخرين كانوا ينقلون السلاح من بيروت إلى الجنوب، حينها «حضرت، للمرة الأولى، فكرة أسر جنود إسرائيليين لمبادلتهم بأسرى لبنانيين. بدأنا التخطيط لعملية أسر، وجهّزنا سيارة تشبه سيارات قوى الأمن الداخلي حينها، ولبسنا لباس عناصر قوى الأمن، وكان معنا الحاج مصطفى شحادة (توفّي عام 2014). توجّهنا إلى منطقة الجية، وأقمنا حاجزاً يُفترض أنه يتبع لقوى الأمن الرسمية، وكانت حينها مرحلة تفاهم بين أجهزة الدولة وجيش العدو. كانت شاحنات العدو تسلك طريق الجية باتجاه الجنوب أو بيروت (…) وصلت شاحنة وقود وتوقّفت بالقرب منّا قبل أن نقيم حاجزنا، فتقدّمتُ إلى الشاحنة، وفتحتُ الباب مباشرة، وأمسكت بالسائق. كان ضخم البنية. خشي أحد الاخوة من أن يتمكّن من الهرب، فأطلق النار على ساقه، في اللحظة التي كنت أسقطه فيها على الأرض، فأصابه في صدره (…) وضعناه في السيارة، وعدنا باتجاه بيروت. كان العدو يقيم حاجز تفتيش في خلدة، وكان الجندي في السيارة ينزف، ودماؤه في كل مكان، وكان صعباً مرورنا على الحاجز من دون انكشاف أمرنا، فرميناه من السيارة، بعدما لاقى حتفه، وابتعدنا. كانت هذه محاولة الأسر الأولى… بعدها صارت فكرة أسر الجنود في صلب تخطيطنا».
إلى الجنوب دُر… مع أحمد قصير
يتابع القائد الجهادي: «في تلك المرحلة، اتخذت المجموعات قراراً بتكثيف تجهيز البنية التحتية العسكرية للمقاومة في الجنوب، حيث التّماس الأكبر مع القوات الإسرائيلية. ذهبنا مع الحاج عماد بهدف البحث عن مكان لتنفيذ ضربة قاسية تهزّ الكيان الإسرائيلي وتحفر في وعيه، وتُعطي دفعاً معنوياً كبيراً للمقاومين، وتشكل الانطلاقة الكبرى للمقاومة في الجنوب. لم يطل البحث عن الهدف، إذ أن الشهيد أحمد قصير اقترح مهاجمة مبنى الحاكم العسكري، ووافقه في ذلك الشهيدان عبد المنعم قصير ورضا حريري. بعد حسم القرار، رصدنا المكان، ولم يكن ذلك صعباً، إذ لم يكن الإسرائيلي يشعر بالخطر ولا يشدّد الإجراءات (…) وبدأنا التخطيط». يضيف القيادي: «تمّ وضع الكثير من الفرضيات. كنا نعرف أن أي ضربة كبيرة ننفّذها ستصعّب علينا العمل لاحقاً نتيجة الإجراءات التي سيتّخذها العدو، لذا كان علينا فضلاً عن الإعداد للعملية، أن ندفع بالمزيد من السلاح والتجهيزات إلى الجنوب». بعد اتخاذ القرار، والحصول على «الإجازة الشرعية» من مكتب الإمام الخميني، «تولّيتُ أنا والحاج عماد مراقبة المبنى من نقطة غير بعيدة. كان الاستطلاع يفيد بأن على المهاجم انتظار لحظة فتح جنود الاحتلال البوابة أمام الآليات أثناء عمليات التبديل. لكن توفيقاً إلهياً حصل في تلك العملية. انهمر المطر بغزارة كبيرة في تلك الليلة ما دفع بسرية من جنود الاحتلال كانوا يتموضعون في خيم قريبة من المكان، ومهمّتهم حماية المقرّ، للدخول اليه احتماءً من غزارة المطر. والتوفيق الأكبر، كان أن جندي الحراسة الذي يفتح الحاجز الحديدي للآليات ويعمد إلى إغلاقه بعد ذلك، أسرع بالعودة إلى دشمته بسبب المطر، بعدما فتح الحاجز لآليات دخلت المبنى، وتركه مفتوحاً، فكانت اللحظة المناسبة ليعبر الشهيد أحمد إلى داخل المبنى، من دون أيّ عناء، وكأن ثمّة من مهّد له الأمر ليركن السيارة تحت المبنى الذي هوى فوق جثث من فيه من جنود وضباط إسرائيليين».
مدرسة الشجرة
أما عملية صور الثانية، التي عُرفت بعملية «مدرسة الشجرة»، ولا يزال اسم منفّذها الاستشهادي مجهولاً إلى اليوم، فقد كانت أشدّ على العدو من الناحية الأمنية. «كانت العملية مقرّرة يوم الثلاثاء (25 تشرين الأول 1983)، لكن العدو قرّر تغيير الإجراءات الأمنية حول مبنى المدرسة، بعد تفجير مبنى المارينز يوم الأحد السابق، واستبدال السواتر الترابية والحواجز الحديدية المحيطة ببلوكات خرسانية كبيرة». وبالفعل، بدأت القوات الإسرائيلية بـ«إزالة السواتر والعوائق القديمة يوم الثلاثاء، وفي اليوم التالي كان محيط المدرسة فارغاً. يوم الخميس وصلت البلوكات الجديدة، وكان مقرّراً أن يتمّ تثبيتها الجمعة». يضيف القائد الجهادي أنه «في ظلّ الرصد المستمرّ للمبنى، تبيّن لنا أن الطريق إلى داخل المدرسة، يوم الخميس، كان مفتوحاً تماماً، ولا يوجد سوى بضعة حرّاس من دون موانع، خلافاً لما كنّا نتوقعه». قبل ذلك، كان قد «تمّ تجهيز شاحنة بشادر كاكي تشبه الشاحنات الإسرائيلية، ويصعب تمييزها عن بعد. كما ارتدى الاستشهادي بزّة عسكرية وخوذة، ليبدو شبيهاً بالجنود الإسرائيليين (…) جُهّزت الشاحنة المفخّخة بعدة مستويات من صواعق التفجير: صاعق زمني أوّل يتفعّل بسحبه من جيب باب الشاحنة وينفجر بعد وقت محدّد، وصاعق زمني ثانٍ يُفترض بالاستشهادي سحبه حين يتجاوز الحاجز، ولديه فترة زمنية مختلفة، وفي المستوى الثالث والأخير، زرّ التفجير الذي يفجّر العبوات على الفور. اقترب الاستشهادي بالشاحنة، ولم يميّزه الحارس حتى أصبح بموازاته، «حينها شرع الحارس في إطلاق الرصاص في الهواء، وبدأ الحارس المقابل له يطلق النار برشّاش 500 على الشاحنة، ما أدى إلى استشهاد الأخ السائق، قبل أن يضغط على زرّ التفجير الأخير، لكنه كان قد فعّل الصاعقين الأول والثاني، انفجرت الشاحنة لدى وصولها إلى المبنى، وأوقعت نحو 40 قتيلاً. اعتقد العدو حينها أننا كنا نعرف بتغيير الإجراءات مُسبقاً، وقرّرنا العملية بناء على ذلك، بينما الحقيقة هي أن الأمر كان توفيقاً وتسديداً من الله». وهذه، بحسب القائد في المقاومة، «ليست سوى أمثلة قليلة، إذ لا توجد عملية في مسار المقاومة، إلا ورأينا فيها تسديداً ورعاية من الله، وهذا ما حصل معنا لاحقاً في عملية الأسر الأولى 1986، وعملية عبوة شيحين 1998، وغيرها الكثير من العمليات».
اجتياح الأيام الستّة
يروي القائد الجهادي أنه بعد عملية الأسر الأولى في كونين (عملية شيخ الشهداء) في 17 شباط 1986، والتي تقرّرت بعد أسر العدو للبنانيين وأخذهم معه عند انسحابه في 1985 نحو الشريط الحدودي، شنّ العدو الإسرائيلي حملة واسعة لإعادة الجنود الذين كانوا قد صاروا خارج منطقة العمليات. تقدّم العدو بدباباته وقواته، وبدأ تنفيذ ما يعرف اليوم بـ«اجتياح الستة أيام». في تلك الفترة، «لم تكن المقاومة في القرى المتاخمة للشريط الحدودي تملك القدرة على صدّ اجتياح إسرائيلي واسع ومتعدّد المحاور، لذلك نجح العدو بداية بالتوغّل داخل القرى. لكن، مع وصول قواته إلى محور صريفا، وقبل أن تتمكّن من دخول البلدة، اندلعت معارك شديدة، بعدما تحصّن المقاومون في تلك المنطقة، وتصدّوا للهجوم الإسرائيلي، ومنعوه بقتال عنيف ومستمر. تحقّق التصدّي للتقدم الإسرائيلي، وكانت معركة حقيقية. تصدّى هؤلاء للهجوم الإسرائيلي المدعوم بالدبابات والملالات والمروحيات، وسقط لنا شهداء وجرحى، لكن الثبات لم يتأثر». ويضيف: «للحقيقة وللتاريخ، فإن أهم عامل صمود كان مؤثّراً في مواجهات صريفا، هو حضور سماحة السيد الشهيد عباس الموسوي إلى البلدة، وتنقّله بين المقاومين، وتشديده على الثبات والتصدّي ومنع العدو من التقدم أكثر». ورغم المخاطر الكبرى على حياته، «لم يكن يقبل إلا أن يكون في الصفوف الأمامية، ورفض مغادرة البلدة رغم احتدام القتال وتزايد الخطر». شكّل موقف السيد عباس «حقيقة وجوهر القيادة»، إذ «لا يمكن للمقاومين التراجع، عندما يرون قائدهم في الصف الأمامي، ويتقدّم إلى الخطر أمامهم. ما أدّى إلى إفشال خطة التقدم المقرّرة من قبل قوات الاحتلال».
صعود المقاومة وتراجع العدو
يعود القائد الجهادي إلى تلك المرحلة من العمل، ليشرح «خطة تصاعد التطبيق الميداني العملي، الذي أعطى مصداقية متزايدة لسلامة النهج وجدواه». في الأيام الأولى، «حين سلكنا هذا المسار، كانت النقطة الأساسية لدينا هي أن نبدأ بالقتال. يعني القتال هو أصل المهمة». لذلك، كانت المهمة الأولى أن «نقاتل العدو لنثبت أن هذا العدو يُقاتل، وقابل لأن يُهزم». في ذلك الوقت، «ونحن نقاتل إسرائيل، اجتمع العالم كله علينا، من أميركا والقوات المتعدّدة الجنسيات إلى آخرين، كما تخلّى كل العالم العربي والإسلامي عنا، باستثناء إيران وسوريا. حتى السلطة اللبنانية حينها، وقفت ضدنا».
ومع الشهور الأولى من العمل المقاوم، كانت قد تبلورت 5 مسارات أساسية، شكلت الخط العريض لمسيرة حزب الله لسنوات لاحقة، وهي، بحسب القائد:
1- مسار الصعود العسكري.
2- مسار الصعود البنيوي – الهيكلي (اللوازم الرديفة للعمل العسكري).
3- مسار البناء الأمني (انطلق بعيداً من الواجهة بسبب المخاطر المبكّرة. وكان واجباً علينا حماية أهلنا وأنفسنا، إذ أنه مثلاً، منذ العام 1982، أرسل العدو الإسرائيلي سيارات مفخّخة إلى قلب الضاحية، فبدأنا بنشر حواجز للتفتيش، وصرنا نتابع التهديدات الأمنية).
4- مسار بيئة المقاومة (الوثوق بأهل المقاومة وقدرتهم على الصمود والتضحية، وكذلك دعمهم وتثبيتهم في أرضهم المحتلّة والمحرّرة، على مختلف المستويات).
5- مسار الصعود السياسي (وهذا المسار كان الأبطأ، إذ لم يكن هناك استثمار سياسي ذاتي لجهود المقاومة، لكن هذا تبدّل لاحقاً).
وفي مقابل مسارات المقاومة المتصاعدة بسرعة، خلال الأعوام القليلة الأولى بعد الاجتياح، مرّت إسرائيل بانتكاسات تدريجية أساسية، توزّعت على 3 محطّات مفصلية، بحسب القائد أيضاً:
1- عدم قدرة العدو على البقاء في بيروت أكثر من 6 أيام. وكانت بيروت لتكون مقبرة للإسرائيليين لو بقوا فيها، وهم كانوا أذكياء وجبناء في آن عندما أدركوا خطر البقاء في بيروت، وانسحبوا منها سريعاً.
2- خروج العدو من طريق الساحل في 1983.
3- الانسحاب الثالث عام 1985، والعودة إلى الشريط الحدودي المحتل.