قبل منتصف ليل الـ15 من آب بقليل، أرسلت إيران ردّها على ما أَطلق عليه الاتحاد الأوروبي «النصّ النهائي» للاتفاق المقترح من قِبَله، لإعادة إحياء «خطّة العمل الشاملة المشتركة». لم يأتِ الجواب الإيراني بـ«نعم» كاملة، بيدَ أنه كان «مشجّعاً»، على ما قاله المسؤولون الأوروبيون. في جوابها هذا، سعت طهران إلى الحصول على مزيد من الاستيضاحات في ما يخصّ مسألة الضمانات (الرفع الكامل للعقوبات الاقتصادية، والتأكُّد من أن الصفقة ستبقى ساريةً يوم يغادر الرئيس الحالي جو بايدن منصبَه). وفي انتظار إماطة اللثام عن الردّ الأميركي الذي تسلَّمته إيران يوم أمس، ويُتوقّع أن يكون هو الآخر معلَّقاً بين القبول والرفض، يُحكى في واشنطن عن «أننا اليوم أقرب إلى اتفاق مما كنا عليه قبل أسبوعين». في هذا الوقت، كان وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، يدعو الأميركيين إلى إبداء المرونة لحلّ ثلاث قضايا عالقة، لم تُقدِّم وكالة الأنباء الحكومية، «إرنا»، تفاصيل في شأنها، وإن أشارت إلى أن «الخلافات تدور حول ثلاث قضايا أعربت فيها الولايات المتحدة عن مرونتها اللفظية في اثنتين منها، لكن ينبغي إدراجها في النص. المسألة الثالثة تتعلّق بضمان ديمومة الاتفاق، وذلك يعتمد على الواقعية الأميركية».
الكونغرس منقسم: أيدينا مكبّلة
كما في عام 2015، ومع توارد الأنباء عن قُرب التوصُّل إلى اتفاق يعيد إحياء «خطة العمل الشاملة المشتركة»، يبرز دور الكونغرس الأميركي باعتباره «العقبة الأكبر أمام عودة أميركا إلى الاتفاق»، وفق تقدير جوناثان لورد، مدير برنامج أمن الشرق الأوسط في «مركز الأمن الأميركي الجديد» (CNAS)، والعضو السابق في لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب. تقديرٌ يمكن عزوه إلى موقف أعضاء الكتلة الجمهورية في مجلسَي النواب والشيوخ الرافض للاتفاق، وجلاء الانقسام حياله في صفّ الديموقراطيين.
غذّى الغموض الذي لفّ عمليّة التفاوض، وعدم اليقين حيال «ما تريده طهران أو ما يمكن أن توافق عليه»، الشكوك إزاء احتمال اتفاق الجانبين، وما إذا كان ذلك وشيكاً، وفق المصدر نفسه. وبعيداً من تفاصيل الصفقة التي يجري التفاوض في شأنها، يقول لورد في مقالته المنشورة أخيراً في موقع «ذا هيل» الأميركي، إنه «من الصعب تخيُّل الفائدة المديدة لإيران في حال موافقتها على العودة إلى صفقة أصبحت مسيّسة جداً في الولايات المتحدة، إلى درجة أن أي خليفة جمهوري محتمل لبايدن – الذي تمنحه استطلاعات الرأي نسبة قبول لا تتجاوز الـ40% – يمكن أن يمزّق الاتفاق فور تسلُّمه منصبه». ومع افتراض نجاح المفاوضين في التغلُّب على الشكوك والخلافات، إلا أن القوانين والبيروقراطية السارية في واشنطن، تُعقّد العودة إلى الصفقة. وعلى رغم أن عرقلة التوصّل إلى اتفاق، لا تقع ضمن اختصاص الكونغرس بل السلطة التنفيذية، يمكن الأوّل سنّ تشريعات تعرقل تطبيق بعض بنوده. وليس ما تقدَّم افتراضاً غير واقعي، إذ أقرّ الكونغرس، إبّان التفاوض على الصفقة الأصليّة في عام 2015، «قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيراني» (INARA)، الذي منح هذه الهيئة حقّ الإشراف على «خطّة العمل الشاملة المشتركة». اشترط القانون، على سبيل المثال، إعداد التقارير الدوريّة للتأكُّد من امتثال إيران للاتفاق، وأرغم رأس السلطة التنفيذية على عرض نص أي اتفاق يتمّ إبرامه مع إيران حول برنامجها النووي، على المشرّعين لمراجعته خلال 30 يوماً، وربما إصدار «قرار مشترك بالرفض» (Joint Resolution of Disapproval) حياله، بهدف إبطال قدرة الرئيس على رفع أي عقوبات عن إيران مرتبطة بالصفقة.
في الحالة الراهنة، يتمحور السؤال حول ما الذي سيحدث إذا عادت الولايات المتحدة وإيران إلى الامتثال للاتفاق الأصلي، وإن كان ذلك سيُعتبر «صفقة جديدة» تتطلّب الخضوع للكونغرس؟ من الناحية القانونية، يجيب جوناثان لورد، «هذا ليس واضحاً». أما من الناحية السياسية، فـ«يصعب تخيُّل أن تُقدِم إدارة بايدن على التهرّب من إشراف الكونغرس على مسألة خلافية مثل هذه». ففي أيار الماضي، مثلاً، أكد كبير المفاوضين الأميركيين، روبرت مالي، في شهادته التي أدلى بها أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، أن أي اتفاق ستتوصل إليه إدارته، «سيتمّ عرضه على الكونغرس بموجب قانون آينارا»، لتبدأ من بعدها فترة المراجعة التي تبلغ 30 يوماً، وربما تمرير الكونغرس «قراراً مشتركاً بالرفض»، وتالياً إلغاء الصفقة. في هذه الحالة، يمكن أي عضو في مجلس الشيوخ (سناتور) تقديم «قرار مشترك بالرفض»، علماً أن هذا الإجراء يتطلب 60 صوتاً لتمريره، وهو عدد لم يتمكّن المجلس الذي قاده الجمهوريون في عام 2015، من حشده.
من الناحية النظرية، إذا جرى تمرير الإجراء في مجلس الشيوخ، تبقى موافقة مجلس النواب ضرورية. لكن في عام الانتخابات هذا، حيث العديد من مقاعد «المعتدلين» في مجلس النواب مهدّدة، يمكنه أن يصادق على الإجراء الآنف الذكر، خصوصاً أن 18 نائباً ديموقراطياً وقّعوا، في نيسان الماضي، رسالةً أعربوا فيها عن مخاوفهم إزاء العودة إلى الاتفاق. مع هذا، إذا تمّ تمرير «JRD» في مجلسَي النواب والشيوخ، يمكن الرئيس أن يستخدم حق النقض ضد القرار، والذي يتطلّب تجاوزه غالبية ثلثَي مجلسَي الكونغرس: 67 عضواً في مجلس الشيوخ، و290 نائباً. وفي هذه المرحلة المتقدّمة، يكاد يكون مؤكداً أن الكونغرس لن يحشد الأصوات اللازمة لتجاوز «الفيتو» الرئاسي، ما يمكّن الولايات المتحدة من العودة إلى الصفقة.
لا حلول سحرية
على رغم ارتكاز جانب من حملته الانتخابية على وعد إحياء الاتفاق النووي مع إيران، كجزء من صفقة أوسع تشمل برنامجها الصاروخي و«سلوكها الإقليمي»، إلا أن بايدن استنفد، مع ذلك، ما قال النقّاد إنه وقت ثمين لبدء المفاوضات بعد تولّيه منصبه. وبمجرّد انطلاق المحادثات، رفضت الإدارة قبول اتفاق «العودة المتبادلة إلى الامتثال». ونتيجة لذلك، استمر التفاوض إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في إيران، في حزيران 2021، والتي فاز فيها الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي، ليصبح من بعدها موقف إيران أكثر تشدداً.
المشكلة الأساسية التي يواجهها كلا الجانبين، وفق موقع «ورلد بوليتكس ريفيو»، ذات شقين: الأول، أن المنطق الكامن وراء الصفقة باعتبارها «اتفاق الحد من الأسلحة»، لم يَعُد صالحاً لكلا الجانبين. فبالنسبة إلى الولايات المتحدة، لم يكن الهدف من الصفقة تقييد قدرة إيران على تكديس المواد الانشطارية اللازمة لصنع سلاح نووي فحسب، ولكن أيضاً الحدّ من تقدُّمها التقني في إتقان دورة التخصيب. وحتى إذا وافقت طهران، مجدداً، على شحن مخزونها من اليورانيوم المخصّب خارج البلاد، وإزالة أجهزة الطرد المركزي المتقدّمة، فإن المعرفة التي اكتسبتها، في السنوات الخمس الماضية، لا يمكن تجاهلها. وبالمثل، بالنسبة إلى إيران، لم يكن الهدف من الصفقة إزالة العقوبات فحسب، ولكن أيضاً خلْق بيئة استثمارية مستقرة وآمنة للاقتصاد الإيراني. ثانياً، كان الهدف الأوسع للاتفاق الذي يتجاوز الحد من التسلّح، هو إرساء عنصر الثقة في العلاقات الثنائية، وكذلك في جميع أنحاء المنطقة. وعلى رغم «بَيْع» الصفقة على أساس مزاياها الخاصة باعتبارها «تقيّد برنامج التخصيب الإيراني»، كان الأمل في أن تشكل خطوةً أولى في عملية تدريجية يمكن من خلالها أن تحل الترتيبات الأمنية الإقليمية، محل المشهد الحالي. سيؤدّي إحياء الصفقة – على الأقل للفترة المتبقّية من سريانها – إلى إزالة سبب رئيس للتوتر في المنطقة، ما من شأنه أن يخلق مساحة أكبر لتشجيع «الديبلوماسية الإقليمية»، لا سيما بين إيران وخصومها (السعودية في مقدّمهم). ولكن حتى في حال إحياء «خطة العمل الشاملة المشتركة»، فمن غير المرجح أن تغيّر بشكل هادف طبيعة العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وإيران، أو أن توفر «رصاصة سحرية» للمصالحة الإقليمية، ما يعني أن التعامل مع إيران سيظل يمثل تحدياً لمَن سيخلف بايدن في البيت الأبيض.