وُلدت المقاومة الإسلامية من رحم مجتمع يعاني من الاحتلال لتهزم مقولة: «العين لا تقاوم المخرز». كان لا بدّ لهذا المجتمع من أن يحضن المقاومة ويقدّرها ويشعر بمسؤولية تجاهها، ولأنه ليس بإمكان كلّ الأطراف أن تحمل سلاحاً، جاهدت مجموعة من اللبنانيين بطريقة مغايرة. بداية، راحت تدعم المقاومة بشكل فردي وبطريقة شعبية بسيطة قبل أن تقوم «هيئة دعم المقاومة» التي تأسست في عام 1990، أي بعد 8 سنوات من تأسيس المقاومة الإسلامية، بتنظيم هذا الدعم في مشاريع تؤمّن استمراريّته، على يد مجموعة شباب؛ من بينهم: حسين الشامي، منيف أشمر، نبيل مرتضى، قاسم الطويل، إلى جانب جهود عدد من السيدات. وهكذا «كانت أول عملية جهادية تصوّر وتوثّق بفضل هذه الهيئة التي اشترت آلة التصوير»، بحسب باسمة بدر الدين، إحدى مؤسسات الهيئة ومديرة الأنشطة النسائية.
قجة المقاومة
أول مشروع في الهيئة كان استحداث القجّة، و»اختير مجسّم قبة الصخرة للتأكيد على أن البوصلة الأساسية هي تحرير فلسطين». لهذه القجّة رمزية ارتبطت بذاكرة الأجيال بعدما اجتاحت البيوت والمحال وعلقت في أذهان كل أفراد الأسرة. يشدّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله على وجود هذه القجّة في كل منزل «لما تحمله من معان تربوية قبل أن تكون مادية».
مسؤول الأنشطة الإعلامية في الهيئة بلال عبد الساتر يعود بالذاكرة إلى فترة التسعينيات. يروي كيف «كنا نوزّع قجة المقاومة على البيوت عبر السيارات الجوّالة التي تدخل الأحياء والأزقّة في الشمال والجنوب والبقاع وبيروت، والناس يتهافتون للحصول عليها وزرعها في بيوتهم، وكانت مكبّرات الصوت على هذه السيارات تصدح بالدعوات للتبرّع خلال عمليات المقاومة، بعد استشهاد السيد عباس الموسوي، مروراً بالمحطات الأساسية مثل عدوان نيسان 1996 وتموز 1993. كان الناس يركضون للتبرّع بالمال والذهب وغيرهما من التبرعات العينية. كما قدم الناس بيوتهم للمقاومة وللعائلات المنكوبة في الجنوب والبقاع الغربي بعد أيّ عدوان».
توالت المشاريع بين اشتراك شهري وتبرّعات عامة وحقوق شرعية، وصولاً إلى «تجهيز مجاهد». كما استحدثت الهيئة نشاطات كالمؤتمرات والندوات الثقافية والإفطارات الرمضانية وحفلات الزجل والشعر بهدف جمع التبرّعات من جهة، والتعريف بالمقاومة من جهة ثانية. وبعد تحرير الجنوب في عام 2000، نظّمت الهيئة رحلات ترفيهية للقاء المجاهدين والتعرّف إلى طبيعة عملهم وحياتهم، وهذا أوجد علاقة متينة بين الطرفين.
العلاقة مع المقاومة
علاقة بيئة المقاومة بالمقاومة تظهر من خلال السخاء في العطاء وعدم التردّد في دعمها. من القصص التي حصلت أيام حرب عناقيد الغضب، تبرّع سيدة مسيحية بمبلغ 5 آلاف دولار أميركي طالبة شراء صاروخ كاتيوشا للمقاومة، وأخرى دفعت ستة ملايين ليرة «لإجراء عمليات ضد إسرائيل»، وأخريات تقدّمن بأساورهنّ وأقراطهنّ الذهبية.
من لم يملك مالاً لم يبخل بما لديه. هناك من قدّم الألبسة (حاكوا أوشحة وقبعات للمجاهدين لتقيهم الصقيع)، أو المواد الغذائية (وصلت للمجاهدين وجبات ساخنة في الحرب السورية من تبرّعات الناس). في السياق ذاته، تحدّث السيّد نصر الله في إحدى كلماته عمّا حصل في أولى مراحل المقاومة: «بينما كانت الهيئة تجبي التبرعات في منطقة الهرمل، اقتربت سيدة مسنّة تسأل عما نقوم به. شرح لها الإخوان، فطلبت منهم انتظارها للحظة. ثم خرجت تحمل صابونة قدمتها وهي تقول: «لا أملك غير هذا، يمكن أن يستخدمها المجاهدون ليستحموا أو ليغسلوا ثيابهم، فأكون سبباً في راحتهم».
للأطفال أيضاً علاقة قوية مع المقاومة، تدور هيئة الدعم على المدارس لتجمع التبرّعات من الأولاد الذين يكتبون رسائل إلى المجاهدين بعفوية مفرطة، وأكثر من مرة وصلت إلى المجاهدين رسائل من أولادهم.
أما السيدات المسؤولات عن جباية القجة، فهنّ متطوّعات بالدرجة الأولى، ويشكّلن جسراً متيناً بين الناس والمقاومة. هناك سيدة كانت تجبي قجّة الدعم منذ التسعينيات، تاركة ابنها الجريح في المنزل، وظلت تفعل ذلك حتى توفيت عن عمر 72 عاماً، وأوصت ابنتها بأن تكمل مهمة الجباية عنها. وفي صور، لم تعد إحدى السيدات تستطيع استعمال السلالم لأسباب صحية، فطلبت أن تجبي التبرعات من المنازل التي تقع في الطبقات السفلية.
رغم التحدّيات…»باقية»
مع مرور الوقت وتطوّر العمل المقاوم، طرأت تغيّرات على عمل هيئة دعم المقاومة. لم تعد النشاطات مثل تحضير المؤن وحياكة الثياب تُنجز كما في السابق، حتى اللقاءات توقفت بفعل جائحة كورونا. وفرضت العقوبات الأميركية سرّيّة في الدعم من دول الخارج. بحسب المسؤولين في الهيئة، «لم تتراجع التبرّعات نتيجة العقوبات، لأن من يؤمن فعلاً بالمقاومة سيجد ألف طريقة ليبعث إلينا المال».
وشكلت الأزمة الاقتصادية التي تضرب بيئة المقاومة التحدي الأبرز. فتدهور قيمة العملة الوطنية أفقد التبرّعات قيمتها. تجزم الهيئة أن «الدعم مستمر»، لكن بفارق أن البعض انسحب والبعض الآخر لم يعد بإمكانه المساهمة كما في السابق نتيجة تدهور أوضاعه الاقتصادية. رغم ذلك، لا تخاف المقاومة على مصير هيئة الدعم جراء الأزمة الاقتصادية، طالما أن «الهدف بالدرجة الأولى معنوي وليس مادياً»، على حد قول عبد الساتر، الذي يشرح: «المقاومة ليست بحاجة إلى الدعم بالشكل المباشر، والناس يعرفون ذلك من خلال الحديث الدائم عن موازنات ضخمة من إيران، لكنهم يحبّون أن يساعدوا بناءً على ثقافة سائدة وعقيدة لها علاقة بالأجر والثواب».
وعن استمرارية عمل الهيئة، يقول نصر الله: «طالما هناك مقاومة، هناك هيئة دعم المقاومة».
النشاط الإعلامي
أخذت هيئة الدعم على عاتقها العمل التوعوي والإعلاني للتحفيز على الدعم المالي والمعنوي. وبدأ القسم الإعلامي في الهيئة يواكب النشاطات بالوسائل البدائية لتحفيز الناس على الصمود والمواجهة والدعم مستخدماً «الفلاشات» والأناشيد الحماسية والثورية، واستمرّت هيئة الدعم برعاية القصائد والأمسيات والأناشيد لنشر ثقافة المقاومة، مثل قصيدة رجال الله للشاعر السوري عمر الفرا، وأنشودة «نصرك هزّ الدني» و»هيهات يا محتل».
يقول عبد الساتر: «كانت الأناشيد تؤدي دوراً أساسياً في التأثير الإيجابي على الوعي والذاكرة لدى الناس وفي تفاعل مهم من خلال بث الروح الثورية والنضالية».
تعمل الهيئة اليوم على تطوير العمل الإعلامي الدعائي لمواكبة التطورات الحاصلة من خلال الإطلالة في الأشهر المقبلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي كمنصّة أكثر انتشاراً، «لتنشيط الذاكرة عبر الاستفادة من الأرشيف مع تحسين الصورة»، وذلك رغم «معرفتنا المسبقة بأننا سنتعرّض لهجمات سيبرانية ونتوقّع أن يجري حظرنا»، لذا، «سيكون هناك خطط عمل احترازية».
أمّ مهدي: لا مكان للتقاعد
تناهز السيدة باسمة بدر الدين الستين من العمر، يحتل عملها في هيئة دعم المقاومة 32 عاماً منها. تحكي عن تجربتها في الهيئة التي واكبتها منذ تأسيسها عام 1990 بحماسة. لا تتعب ولا تأخذ نفساً. تعدّل عباءتها التي تنزلق باستمرار من دون أن تتوقف عن الشرح.
تضع بدر الدين، إحدى مؤسِّسات الهيئة ومديرة الأنشطة النسائية فيها، بين يديك ثلاثة ألبومات للصور وتشرح: «هنا افتتحنا معرضاً للرسومات، وهنا زرنا عوائل الشهداء، وهنا أقمنا الحفلات الإنشادية». تقع عيناها على صورة تجمع نساء مع مجاهد في أرض قاحلة، فتتذكر قصة مرّت عليها سنوات طويلة: «كنا نقيم نشاطاً في الجنوب نستمع إلى كلمة لمجاهد وإذ بسيدة تُفاجأ بوجود ابنها بين المجاهدين، بينما كانت تظنّه في زيارة دينية». كان المشهد «مضحكاً ومحزناً في آن، فالمجاهد لم يُرد أن يقلق والدته خاصة أنها فقدت ابنها شهيداً».
لا تأخذ بدر الدين، الملقّبة بأم مهدي، وقتاً حتى تتذكر أدق التفاصيل في صور تعود إلى التسعينيات. «أترين هذا القماش؟ كانت ترميه المعامل ونعيد تدويره لنرسل المال إلى المقاومة، وهذه الملوخية وهذا الزيتون كانا يصلان إلى المجاهدين».
لا تعمل أم مهدي بدوام بل «بكلّ الأوقات». دخلت العمل المقاوم منذ كانت في الثامنة عشرة من عمرها. انخرطت في البداية في مؤسسات اجتماعية وفي كشافة الإمام المهدي قبل أن تعمل لصالح هيئة دعم المقاومة. نسألها: «أما آن الأوان لأن تتقاعدي»؟ فتجيب: «لااااا»، ثم تشرد لبرهة وتردّ: عندما تعشقين خطاً تسعين إليه حتى آخر نفس، وطالما أنا قادرة لن أتوقف عن السعي خلف نهج المقاومة». لا تزال مجازر الاحتلال حيث فقدت أقاربَ وأصحاباً، منقوشة في ذاكرتها، ما يعطيها دافعاً قوياً للاستمرار، و»يجعلني أخجل من أن أقول: لقد تعبت».