الأخبار- ابراهيم الأمين
على مقربة من كومة حجارة تغزوها الأعشاب البرية، كان علي يغط في نوم عميق. قطة أيقظته عندما هربت من صراخ جنود كانوا يقتربون من بعضهم البعض، ويتلهون بأغنية وضحكات، ولم يكن بينهم من يعتقد أن هناك خطراً على حياته، أو على آلياتهم. لم ينتظر علي كثيراً حتى أعاد تجميع جسده، مستلقياً في وضعية قناص، وضع إلى جانبه قنبلتين وأخرج سكيناً من علاقة في حزامه الأسود. ثم أخرج مماشط ورتب أغراضه كمن يعد المائدة لعشاء خاص.
دقيقة أو أكثر بقليل، يظهر ضابط ومساعد له يتقدمان صوبه من الكوع الذي يقع تماماً تحت مرماه. تمتم بآيات قبل أن يتوقف عن الحديث. ثم يطلق رشقته الأولى. أصابهما من دون قتلهما. ساد الصمت لثوان قبل أن يرتفع صراخهما. توقف علي عن إطلاق النار. انتظر أقل من نصف دقيقة، حتى اقترب أربعة جنود. اثنان يتفحصان المكان ويطلقان النار على كل الاتجاهات، والآخران يركضان صوب الجنديين الجريحين. انتظر علي الجنديين – المسعفين – حتى رتبا سلاحهما خلف ظهريهما للانشغال في سحب الجريحين، ليعاود إطلاق النار عليهما. لا أحد يعرف إن كان هو قرر ذلك أم أنها لحظة الإرباك قد عادت إليه، لكنه أيضاً لم يتسبب بقتلهما، وصار صراخ الأربعة يختلط بالرسائل عبر أجهزة اللاسلكي، بينما تراجع الجنديان الآخران وهما يطلقان النار إلى أمتار بعيدة من الكوع.
بقي علي في مكانه، وعلى الأرض قبالته، يصرخ أربعة جنود مصابين. وما هي إلا دقيقة أخرى، حتى تقدمت ملالة ببطء، وعلى ظهرها جندي يطلق النار بعشوائية من رشاش متوسط، وإلى جانب الملالة سار جنود يتفحصون التلال المقابلة لتحديد مصدر إطلاق النار. لكن علي، وضع رشاشه جانباً، وأخذ قنبلة يدوية ورماها صوب الملالة فلم يصبها، لكن انفجارها جعلها تتوقف في مكانها، وانتشر الجنود في وضعية القتال أيضاً، بينما ابتلعت الملالة الجندي وبقي الرشاش وحده صامتاً. بينما صراخ الجرحى يرتفع في المكان.
لم يتحرك علي من مكانه، صار يتلفت من حوله وينظر إلى السماء. فكر بأن طائرة سوف تقترب من المكان، وأن جنوداً سوف يتحركون من حول المنطقة لأجل محاصرة مصدر النيران. لكنه ليس في وضع يمكنه من التحرك بعيداً. حسبها وقرر البقاء مكانه. إلى أن يرى مجموعة من الجنود يتقدمون صوب الجرحى دفعة واحدة، حيث أنجزوا حلقة من النار من حول آخرين استعدوا لسحب الجنود من الأرض نحو ملالة أخرى اقتربت وفتح بابها الخلفي.
انتظر علي دقيقة أو أكثر، حتى اقترب الحشد من باب الملالة ليرى أكواماً من اللحم تجر أكواماً أخرى، عاد إلى إطلاق رشقات قوية مباشرة نحو المجموعة التي لم تقدر على القيام بشيء. وصار إطلاق النار يغطي كل المكان، قبل أن يلاحظ علي أن هناك من حدد مكانه، فصارت الرصاصات «تنعف» الرمل من حوله. كان عليه اتخاذ القرار: إما المغامرة بانسحاب عشوائي إلى الخلف مقدراً الخطر بنسبة عالية، وإما الصمت وانتظار تقدم الجنود إليه. لكن وجد أن الأفضل له، هو الهجوم المباشر على المجموعة التي لا تزال تحت مرمى نظره.
اضطر علي لأن يعدل في وضعيته، وصار يطلق النار بغزارة ويبدل الأمشاط في رشاشه. لم يكن يشعر بشيء، ولا يرى أمامه سوى الجنود يلتصقون بعضهم ببعض حتى صاروا على هيئة كومة من لحم ودخان وصراخ. قبل أن يتوقف رشاشه عن العمل، ويختفي من المكان.
مرت سنوات ولم يعرف أحد ما الذي حل بعلي، هل هو حي أم لا. ولم يكن أحد يعرف لعلي اسم، ولا هوية ولا عائلة أو بيت أو مكان. لم يعرف أحد من هو هذا الذي وصل إلى هذا المكان، وفعل ما فعله، واختفى من دون ضجيج.
بعد سنوات طويلة، وفي مكان بعيد، كانت امرأة ستينية، تصلي وتبكي وحدها. كانت هي فقط تعرف علي. لكنها التزمت وصيته، بأن يبقى مصيره مجهولاً، كان يقول لها:
أنا ابنك الذي تعرفين حسبي ونسبي. وأنا ابنك الذي تعرف إلى الله على يديك، وأنا الولد الذي حفظ منك ذات يوم، أن التضحية الكاملة ليست في الاستشهاد فقط من أجل قضية أوصى الله بها، بل في عدم انتظار الثناء والشكر، ولا حتى على شكل صورة معلقة على جدار أو في ملصق.
مثل علي، آلاف المجهولين، الشهداء منهم والأحياء، الذين تعرفوا إلى الوجوه الآمنة من حولهم، وعلى الأرض تروى من دون خوف، وعلى الأمل بكل ما هو أفضل، وهؤلاء، ليسوا قلة برغم كثرة الضجيج القائم من حولهم، وهم ينجزون النصر تلو النصر، ولأنهم كذلك، سيكون من الصعب محو ذكرهم وأثرهم مهما طال الزمان.