تُتابع مؤسّسات القرار في كيان العدو، بقلق وحذر كبيرَين، الردّ الإيراني على «الاقتراح النهائي» للاتحاد الأوروبي بشأن العودة إلى الاتفاق النووي، والذي أتى وفق صيغة «لا إيجابية تامّة، ولا سلبية تامّة». وهو موقفٌ ترى إسرائيل أنه يستهدف مضاعفة الضغط والابتزاز المسلّطَين على الطرفَين الأميركي والأوروبي، وتُعرب عن خشيتها من مآلاته. وتنبع هذه الخشية من المخاطر التي ترى القيادة الإسرائيلية أنها أصبحت ملازمة لكلّ السيناريوات التي يمكن أن تؤول إليها المفاوضات، والمتراوحة بين التوصّل إلى اتّفاق، أو الإعلان عن فشل المحادثات، أو حتى مواصلتها وفق القواعد والتقديرات والرهانات نفسها.
في الحالة الأولى، أصبح واضحاً أن إيران متمسّكة بمجموعة ثوابت لم يَعُد في ضوئها من الممكن تكرار التجربة الماضية التي التزمت بموجبها الحكومة الإيرانية بمقتضيات الاتفاق، بينما تنصّل الطرف الغربي من التزامه برفع العقوبات عنها. وهو تمسّكٌ شدّد عليه، غير مرّة، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، وتبنّته حكومة إبراهيم رئيسي بحذافيره.
ومع استنفاد الخيارات البديلة التي كان الرهان الأميركي – الإسرائيلي عليها في أن تؤدّي إلى إخضاع النظام الإيراني أو إسقاطه أو على الأقلّ ردعه عن مواصلة تطوير برنامجه النووي، فإن النتيجة الطبيعية للمسار المتقدّم هي أن أيّ صيغة سيتمّ التوصّل إليها ستلبّي بالضرورة الشروط الإيرانية في ما يتعلّق برفع العقوبات والضمانات، وغيرها، الأمر الذي يستبطن خطورة بالغة بالنسبة للكثير من أجهزة التقدير في الكيان العبري، وتحديداً «الموساد»، الذي يحذّر من تداعياته على معادلات القوّة الإقليمية في مواجهة إسرائيل. ذلك أن أيّ اتفاق من النوع المذكور سيمنح إيران المشروعية الدولية التي ستَفتح الطريق أمام الكثير من الدول لتطوير علاقاتها معها، مع ما سيترتّب على هذا من انعكاسات اقتصادية وسياسية واستراتيجية، على رأسها تعزيز منطق النظام داخلياً وخارجياً، في ظلّ حكومة يرى الغرب أنها الأكثر تشدّداً وخطراً على المصالح الغربية في المنطقة. وتعود المخاوف الإسرائيلية، بشكل رئيس، إلى قناعة تل أبيب بأن إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، والاتحاد الأوروبي، حريصان على تفادي تداعيات فشل المفاوضات، وهو ما يثير قلقاً من إمكانية أن تفاجئ واشنطن، تل أبيب، بانعطافة «تنازلية» كبيرة.
أمّا في حالة فشل المفاوضات، فإن الصورة لا تبدو أفضل بالنسبة إلى إسرائيل. إذ إن ما كانت تُراهن عليه من إمكانية التدحرج نحو مواجهة عسكرية مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران في هذه الحالة، أصبح أكثر استبعاداً ممّا كان عليه في أيّ مرحلة سابقة، بسبب تغيّر اتّجاه معادلات القوة في المنطقة، وتَركّز أولويات الولايات المتحدة على مواجهة روسيا والصين، وهو ما يمثّل متغيّراً نوعياً يُتوقّع أن يُسهم في تعزيز موقع إيران في الصراعات الدولية، نتيجة التقاطع بينها وبين موسكو وبكين في مواجهة الهيمنة الأميركية، إضافة إلى كونه يمنحها هامشاً أوسع في أكثر من مجال اقتصادي واستراتيجي. ومن هنا، تخشى تل أبيب من أن يؤدّي فشل المفاوضات إلى إطلاق عنان إيران في مواصلة تطوير برنامجها النووي من دون كوابح، بالتالي نقْلها من تموضعها على مسافة صفر من «دولة عتبة نووية» – بحسب رئيس الاستخبارات الإسرائيلي السابق اللواء تامير هايمن – إلى «دولة عتبة» فعلية بالمعنى الكامل، في ما سيشكّل خطراً على الأمن القومي الإسرائيلي، لا يستطيع الكيان تجاهله، ولا معالجته بمفرده بشكل جذري.
لكن ماذا لو تواصلت المفاوضات وبقِيت الأطراف تراهن على إمكانية التوصّل إلى اتفاق؟ يبدي العدو خشيته من هذا السيناريو أيضاً، انطلاقاً من حقيقة أن إيران ستُواصل، في هذه الحالة، تطوير برنامجها النووي تحت غطاء المحادثات التي ستشكّل كابحاً سياسياً لأيّ خطوة مفترضة ضدّها اقتصادياً أو سياسياً، أو حتى عسكرياً، فيما أيّ تطور علمي أو تكنولوجي ستُحقّقه هي سيتحوّل إلى واقع لا يمكن التراجع عنه، وهو ما حدث فعلاً بعد رفعها درجات التخصيب وتطوير أجهزة الطرد المركزي، فضلاً عن أن طهران ترفض تدمير الأجهزة التي تُطوّرها. وبالاستناد إلى ذلك، تتردّد على ألسنة الأطراف الغربية مقولة أنه «في مرحلةٍ ما، قد يصبح الاتفاق غير ذي صلة»، وأن المهلة للتوصّل إلى تسوية غير مفتوحة، وهي توشك على الانتهاء. وفي النقطة الأخيرة بالذات، يبدو أن الغرب يحاول التهويل على إيران، عبر الإيحاء بأن عدم إبرام اتفاق يعني الذهاب إلى خيارات بديلة ستكون أكثر دراماتيكية، اقتصادياً وربّما عسكرياً، على أمل أن يسهم ذلك في دفعها إلى التنازل، أو على الأقلّ كبح تقدّمها النووي، وهو تكتيك كان له أثره على بعض القيادات الإيرانية التي اعتبرت أن البديل من الاتفاق هو الحرب. لكن هذا التقدير تراجع كثيراً بعدما نجحت إيران في تجاوز الكثير من الخطوط الحمراء، من دون أيّ تداعيات دراماتيكية، فضلاً عن أن التطوّرات العالمية المستجدّة جاءت لتدعّم مسارها.
أمام هذا الواقع، تصبح مفهومة خلفية الانقسام في التقدير والموقف داخل المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية. وليس مبالَغاً فيه القول إن إسرائيل حائرة ومنقسمة وقلقة، في الوقت الذي تُجمع فيه على أن العامل الإيراني بشكل عام، والنووي والعسكري والإقليمي بشكل خاص، يشكّل متغيراً نوعياً تصاعدياً وخطيراً على الأمن القومي الإسرائيلي. وفي السياق نفسه، تتضّح خلفيات الأصداء التي تركها «الاقتراح النهائي» للاتحاد الأوروبي على الواقع الإسرائيلي، كونه تضمّن، بحسب التقارير الإعلامية، المزيد من التراجع الغربي في مقابل إيران. ولم يكن مفاجئاً، والحال هذه، في تل أبيب، أن الردّ الإيراني شكّل امتداداً لسياسة «نعم ولكن»، التي تخشى إسرائيل من نتائجها، كونها ستؤدّي إلى سيناريو من اثنين: إمّا مزيد من «التنازلات» الغربية؛ أو كسب إيران المزيد من الوقت في تطوير برنامجها النووي، مع مشروعية دولية بحُكم استمرار المفاوضات. وفي ظلّ التقديرات القاتمة، أتى إجراء رئيس «مجلس الأمن القومي الإسرائيلي» إيال حولاتا، محادثات مع نظيره الأميركي جيك سوليفان، حول الملفّ، فيما يجري حوار مستمر ومكثَّف بين جهات سياسية وأمنية إسرائيلية وأميركية، بهدف الحؤول دون تقديم المزيد من «التنازلات» الأميركية في «الملفّات المفتوحة»، والتي تتضمّن، بحسب بعض الخبراء، التحقيقات التي تُجريها «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، والتي تطالب إيران بإغلاقها.
بالنتيجة، لعلّ حقيقة الأجواء السائدة في كيان العدو، نقلتها صحيفة «يديعوت أحرونوت»، حيث قالت إنه «داخل الغرف المغلقة، تسود خيبة أمل إسرائيلية من الأداء الأميركي، وهناك شعور في تل أبيب بأن الأميركيين خدعوا إسرائيل، وجعلوها تعتقد بأنه لن تكون هناك عودة إلى الاتفاق». ويمكن التقدير أيضاً، أن هذه «الخيبة» ستُلازم القيادة الإسرائيلية حتى لو لم يتمّ التوصّل إلى اتفاق، على خلفية أن الخيارات الأميركية البديلة لن ترتقي، بحال من الأحوال، إلى مستوى ما تطمح إليه تل أبيب.