جاءت عمليّة القدس بمثابة ردّ موجع على عدوان غزة واغتيالات نابلس، لتربك حسابات العدو الذي يتحسّب موجة عمليات مقبلة لن يكون في مقدور أجهزته الأمنية والاستخبارية التكهّن بتوقيتها ولا بمكان وقوعها. لهذا، تقلق الإسرائيليين «عدوى» يُحتمل أن تنتشر في أوساط الفلسطينيين، وتعيد إلى الواجهة العمليات الفدائية الفردية. من هنا، جاء إيعاز رئيس الحكومة الإسرائيلية، يائير لابيد، بتعزيز انتشار القوات الأمنية في القدس، لمنع وقوع هجمات مماثلة لن يكون العدو بمنأى عنها
رام الله | لم يتأخّر الردّ الفلسطيني على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، واغتيال الشهداء إبراهيم النابلسي وإسلام صبوح وحسين طه في مدينة نابلس؛ فجاءت عمليّة القدس لتُشكّل صفعةً لكلّ الإجراءات الأمنية، ولتكون بداية لسلسلة عمليّات مشابهة قد تحصل، إذ تتوقّع سلطات العدو وقوع مزيد من العمليات، وهو ما تمظهر في إيعاز رئيس الحكومة الإسرائيلية، يائير لابيد، بتعزيز انتشار القوات الأمنية في القدس اعتباراً من الليلة، لمنع وقوع هجمات أخرى، فيما وصف وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس، عملية القدس بـ«الهجوم الصعب». وبعد فشل قوات الاحتلال في اعتقال منفّذ العملية، الشاب أمير صيداوي (26 سنة) من بلدة سلوان في القدس، اضطرّ هذا الأخير لتسليم نفسه لشرطة الاحتلال.
ووقعت العملية التي تدحرجت في ثلاثة مواقع، في ساعات الفجر الأولى، وبدأت بإطلاق النار على حافلة تقلّ مستوطنين قرب حائط البراق، لينتقل بعدها المنفّذ إلى مكان قريب، حيث أطلق النار تجاه سيارة للمستوطنين، وانتهت العملية بإطلاق النار على مستوطنين في شارع «معاليه هشالوم»، وهو ما تسبّب بإصابة ثمانية بجروح، حالة اثنين منهم خطيرة، فيما أشارت مصادر عبرية إلى أن العملية نفّذها مسلّح واحد أطلق 10 رصاصات خلال 10-15 ثانية فقط.
وتعيش الأراضي الفلسطينية حالة غليان وغضب جرّاء تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية، الأمر الذي رجّح تنفيذ مثل هذه العمليّة. ومن شأن ثلاثة أحداث وقعت، في الأسابيع الماضية، أن ترسم مساراً جديداً لعودة العمليات الفدائية: أوّلها، العدوان الأخير على قطاع غزة والذي استمرّ ثلاثة أيّام واستشهد فيه 49 شخصاً؛ وثانيها: عمليات الاغتيال والاقتحامات التي شهدتها نابلس في الشهر الأخير، وأسفرت عن استشهاد خمسة مقاومين، آخرهم النابلسي وصبوح وطه، وقبلهما محمد العزيري، وعبد الرحمن صبح؛ وثالثها: إعطاء حكومة الاحتلال الضوء الأخضر للمستوطنين لاقتحام المسجد الأقصى وممارسة الطقوس التلمودية، على غرار ما حدث في ذكرى ما يسمّى بـ«خراب الهيكل» الذي تزامن مع الحرب على غزة.
وتحمل عملية القدس دلالات عدة، أبرزها أنها جاءت في «المعقل الأمني» لسلطات الاحتلال، أي مدينة القدس، وفي وقتٍ كان تأهُّب سلطات الاحتلال على أعلى مستوياته، في ظلّ التصعيد الخطير في غزة والضفة الغربية. بهذا المعنى، استطاع المنفّذ ضرْب المنظومة الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية، ليتأكد، مرّة جديدة، أن جيش الاحتلال لم يستطع، على رغم كل محاولاته، القضاء على فكرة المقاومة. كذلك، جاءت عملية القدس لتثبت فشل كل الإجراءات الاستخبارية الإسرائيلية في مواجهة العمليات الفدائية، وعدم القدرة على منعها أو التكّهن بمكان حصولها وتوقيته، ما يعني أنه ليس على السلطات الإسرائيلية سوى انتظار العملية المقبلة، في ظلّ الاستراتيجية الجديدة التي يتبعها المنفّذون، والتي تعتمد على قرار شخصي من دون تنسيق مع أحد أو الإفصاح عن أيّ معلومة. كما جاءت العملية لتُبدّد نشوة إسرائيل في الأيام الماضية، بما ادّعت أنه «إنجازات» حقّقتها في غزة ونابلس.
وتعليقاً على الحدث المقدسي، قال الخبير العسكري، واصف عريقات، في حديث إلى «الأخبار»، إن «منفّذ عمليّة القدس استطاع أن يخطّط وينفّذ عمليّته بهدوء وشجاعة مطلقَين، كما استطاع تحقيق خرق في المنظومة الأمنية الإسرائيلية، من دون أن تتمكّن أجهزة الاحتلال من كشفه أولاً ومن ثم ملاحقته. بل على العكس، سجّل نقطة على الأجهزة حين قام بتسليم نفسه من أجل إنقاذ عائلته». وأكد أن العمليّة «ناجحة بامتياز»، ما يعني «فشلاً وإخفاقاً للأجهزة الأمنية، وانتصاراً للحقّ الفلسطيني، ورداً على العدوان الإسرائيلي على غزة ونابلس»، مشيراً إلى أن استخدام مسدّس في العمليّة سيُقلق أجهزة الاحتلال. وبحسب عريقات، فإن منفّذ العملية جعل 25 ألف جندي يستنفرون في البحث عنه، من دون أن يتمكّنوا من اعتقاله، وهو ما يلقي بتداعياته على معنويات عناصر الشرطة والجيش وأجهزته الأمنية والاستخبارية، في حين سيصعد الاحتلال من اعتداءاته وهجماته على الفلسطينيين.
وأعادت العملية في القدس، الذاكرة إلى سلسلة العمليات الفردية التي ينفّذها فلسطينيون، والتي بدأت منذ عام 2015، وأثبت فشل الاحتلال في ملاحقتها أو منعها والحدّ منها. وأُطلقت على موجة العمليات تلك، التي بدأها الشهيد مهند الحلبي في القدس المحتلّة خلال هبّة القدس، وامتازت بأنماط محدّدة، هي الطعن والدهس وبعض عمليات إطلاق النار. ومع مرور الوقت، تطوّر شكل العمليات الفردية، حيث باتت تعتمد على استخدام الأسلحة النارية على رغم ندرتها، فيما لجأ المنفّذون إلى استخدام الأسلحة المصنّعة محليّاً، والتي تعرف بـ«الكارلو»، وهو ما زاد من خسائر الاحتلال البشرية.
وتتصاعد العمليات الفردية وتخفت بين حين وآخر؛ لكن العام الجاري شهد موجة عمليات نوعية أوجعت العدو، بخاصّة أنها وقعت في قلْب مدن الداخل الفلسطيني المحتل، وبدأت في آذار، حين نفّذ الشهيد محمد أبو القيعان عمليّةً أدّت إلى مقتل أربعة مستوطنين وإصابة آخرين في مدينة بئر السبع، تبعها عملية في الخضيرة نفّذها شابان من أم الفحم وقتل فيها عنصران من الشرطة وأصيب أربعة آخرون. وتوالت العمليات في ما بعد قبيل شهر رمضان، وكان أبرزها عملية الشهيد ضياء حمارشة، الذي خرج من بلدة يعبد في محافظة جنين ونفّذ عملية إطلاق في «بني براك» في تل أبيب أسفرت عن مقتل خمسة مستوطنين، ومن ثم جاءت عملية ديزنغوف التي نفّذها الشهيد رعد حازم، وعمليتا إسرائيل التي قتل فيهما حارس أمن، وعملية مستوطنة «إلعاد».
ووفق المختصّ في الإعلام العبري، عصمت منصور، فإن أهمّ ما في عملية القدس، هو توقيتها، كونها جاءت بعد أيام من العدوان على غزة، واغتيالات نابلس، لتؤكد وحدة الساحات الفلسطينية. ولفت، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن العملية جاءت في ظلّ نشوة النصر والإنجاز الذي يعيشه قادة الاحتلال، لتؤكد أن هذه الاغتيالات لن تنهي الجولة، وأن الردّ الفلسطيني يأتي دائماً ليحوّل «الإنجاز» إلى وبال، ويربك حسابات الاحتلال. وأشار منصور إلى أن العملية أثبتت أنه لا يوجد سيطرة للاحتلال ولا سيادة مهما فرض من إجراءات وحصار وتضييق وملاحقات واعتقالات، بخاصّة وسط حالة الاحتقان السائدة، وفشل العدو في مواجهة العمليات الفردية، معتبراً أن العمليات الناجحة كما عملية القدس، تفتح المجال وتشجّع على تنفيذ عمليات أخرى.