من هنا، فإن مجرّد القبول بمناقشة مطلب «الجهاد»، المتمثّل في إطلاق سراح الأسيرَين خليل عواودة وبسام السعدي، وبغضّ النظر عن التفاصيل، شكّل، من حيث المبدأ، إرساءً آخر، في غاية الأهمية، لاستراتيجية وحدة الساحات عموماً، وساحتَي المقاومة المسلّحة في قطاع غزة والضفة الغربية خصوصاً، بما يشمل، وسيشمل، لاحقاً، وبأعلى درجات التركيز، مواجهة اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى لاحقاً. إن مجرّد إجبار حكومة الكيان الصهيوني وقيادة جيشه على التفاوض لإطلاق القائدَين عواودة والسعدي، وهما من القادة المقاوِمين في الضفة، شكّل اختراقاً، ما كان مسموحاً به، من قِبَل الاحتلال الصهيوني مباشرة من جهة؛ وتجاهُلاً، بصورة غير مباشرة من جهة أخرى، لموقف سلطة رام الله، صاحبة الولاية (الصُورية) على الضفة.
هذا الاختراق الذي قبِل به العدو الصهيوني، كما قبِل بالوساطة المصرية حوله، ولو مناورةً وخداعاً، يشكّل سابقة مهمّة من جهة؛ كما يشكّل، أو يجب أن يشكّل، من جهة أخرى، مرحلة جديدة في قواعد الاشتباك، ووحدة الساحات. ولكن على أهمّية الاختراق المذكور من حيث علاقته باعتقال قائديْن مجاهديْن، لهما أهميتهما الذاتية والخاصة، إلّا أنه يظلّ جزئياً، وذلك إذا ما قورن بقضية القضايا، وهي القدس، والمسجد الأقصى المبارك، كما ظواهر بروز السلاح في جنين ونابلس…
بكلمة، إن توحيد الساحات، بعد هذه التجربة التي كشفت عزلة الكيان، في المنازلة بالنيران، يستدعي بلورة موقف إزاء ما يجري من تهويد للقدس، ومن اقتحامات للمسجد الأقصى، بما ينذر بحتمية الصدام والحرب الشاملة. لقد أثبتت الوقائع المدعومة بالتصريحات الرسمية، والممارسات العملية، أن هدم مسجد الصخرة المشرَّفة، لبناء الهيكل المزعوم مكانه وسط باحة الأقصى، أصبح على الأجندة الصهيونية. ويكفي لتأكيد ما تَقدّم متابعة ما يجري من تصعيد في الاقتحامات، وفي تفريغ المسجد من مُصلِّيه المسلمين، ولا سيما اقتحامات يوم الأحد الماضي في ذكرى ما يُسمّى «خراب الهيكل»، ما يؤكد أن معركة الأقصى أصبحت وشيكة، وشبه حتمية، ولا مجال للتأجيل والتسويف فيها، أو لانتظار انغراس الفأس في الرأس.
تشمل استراتيجية توحيد الساحات: المقاومة في قطاع غزة، والمقاومة والانتفاضة في الضفة الغربية، والانتفاضة الشبابية في مناطق الـ48، ودعم فلسطينيّي الخارج لمعارك ساحات المقاومة والمواجهة في فلسطين، من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش (فلسطين التاريخية المُراد تحريرها)، فضلاً عن قضايا الأسرى والاعتقالات الإدارية. إن هذه الاستراتيجية يجب أن تتحوّل إلى جزء من تحرير كلّ فلسطين، كما يجب أن تصبح جزءاً من وحدة فصائل المقاومة، وذلك في كلّ مرحلة من مراحل المواجهات، التي تترجمها إلى معارك يومية وتكتيكية، كما إلى حرب شاملة تمتدّ لأيام أو أسابيع. لقد كان من الضروري التركيز على تطوير المقاومة المسلّحة والشعبية والانتفاضة في الضفة، ولا سيما الشكل النضالي الذي أبدعه مخيم جنين في مواجهة الاقتحامات التي استهدفت سلاح المقاومة فيه، وذلك باندفاع الآلاف إلى الشوارع للتصدّي للاقتحام، والوقوف بينه وبين سلاح المقاومة، كجزء من التناغم المطلوب بين الشعب والمقاومة، في أثناء حماية الأخيرة. ولعلّ انتقال مِثل هذا التناغم إلى الدفاع عن المقاومة المسلّحة في المدينة القديمة في نابلس، سوف يقفز بالمشهد إلى مستوى من قواعد الاشتباك قد يفرض على العدو، ليس ابتلاعه فحسب، وإنّما أيضاً الانسحاب غير المشروط من الضفة أو أجزاء منها. إن التناغم المذكور هو الذي سعى الشهيد إبراهيم النابلسي (قائد كتائب شهداء الأقصى) إلى إرسائه، وقد ارتقى في 9/8/2022 شهيداً في أثناء السعي لتثبيته. ولعلّ الوفاء المباشر للنابلسي، القائد المقاوم الفذّ، هو تحويل المدينة القديمة في نابلس إلى قاعدة مسلّحة محتضَنة ومدعومة من الشعب. ويكفي مشهد تشييع إبراهيم والشهيدَين البطلَين إسلام صبوح وحسين طه، لجعل الوفاء ممكناً.
إن المراكمة على ما أنجزته حرب «سيف القدس»، وما أرسته المقاومات في بئر السبع وبني براك، وعملية تل أبيب في شارع دوزينغوف، وبيت إيل وإلعاد، وما ثبّتته المقاومة المسلّحة والانتفاضة في مخيم جنين، وأخيراً وليس آخراً ما حقّقته المواجهة بالنيران ما بين 5 و8 آب 2022، يجب أن تتحوّل إلى نظرية استراتيجية – تكتيكية في المواجهة، تحت مبدأ وحدة الساحات، ثمّ الانتقال إلى التركيز، بصورة خاصة، على حماية سلاح كلٍّ من مخيم جنين ونابلس، مع تبنّي هدف العمل المتدرّج لوضع حدّ لاقتحامات الأقصى وتحريمها، وإلّا فالمواجهة بحربٍ شاملة وانتفاضة كاملة. إن تهيئة الرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي لواقع أن قيادة المقاومة في الغرفة المشتركة، وعلى المستوى الفلسطيني الداخلي، لن تستطيع أن تتحمّل طويلاً ما يجري من اقتحامات وانتهاكات للمسجد المقدّس، إنّما يعني انتقال زمام المبادرة في هذا الموضوع إلى أيدينا، وعدم القبول ببقاء الأقصى في أيدي الكيان الصهيوني، وما يقوم به من استباحة لحُرمته، وما يعدّه له ولمسجد قبّة الصخرة من إعدادات الهدم والمصادرة، وذلك بصورة حثيثة ومواظِبة ومعلَنة بالصوت والصورة.
إن كلّ ما تَقدّم لا يسمح لأحد في فلسطين، والبلدان العربية والإسلامية، وفي العالم، بأن ينكر ما يبيّته المستوطنون وحكومة الكيان والجيش والأحزاب الصهيونية للمسجد الأقصى؛ ومن ثمّ لا يسمح لأحد بألّا يقف وراء عدالة الحزم المُقاوِم لاستعادة حرمة المسجد، والتي أصبحت مستباحة ومنتهَكة يومياً. في الخلاصة، يجب التشديد على هدفَي حماية المقاومة في الضفة الغربية، ومنع اقتحام الأقصى وتحريم الصلاة فيه لغير المسلمين، وبالتحديد على المجرمين الذين ينتهكون حرمته جهاراً نهاراً.