الديار
لم يكن الصراع السياسي مؤذيا للبنان كما هو اليوم حيث تتصارع الأقطاب المارونية فيما بينها للوصول إلى كرسي بعبدا في مشهد سريالي يُذكرنا بالتقاتل على كرسي فيما البلد يعيش في أسوأ وضع إجتماعي منذ إنشاء الكيان اللبناني.
وإذا كان البعض لم يفقد الأمل على الرغم من حظوظه شبه المعدومة، ظهر إلى العلن وجوه أخرى بدأت «تسنّ أسنانها» مُستفيدة من واقع إستحالة إنتخاب رئيس جمهورية من الأسماء التقليدية. والمُلفت أكثر كثرة الحديث عن خروج أو عدم خروج الرئيس ميشال عون من قصر بعبدا في حال لم يتمّ إنتخاب رئيس للجمهورية.
الملف الحكومي إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، هذا أقلّه ما يُمكن إستنتاجه من السجال البرتقالي – الميقاتي الذي وصل إلى الحضيض في لغة التخاطب مع تهم بالفساد وتهم مُضادة بالفساد في ظل تعطيل شبه كامل للسلطة القضائية إلا بأوامر سياسية من مرجعياتها.
الفساد والإفلاس في هذه السلطة وصلا إلى مستويات لم يعرفها التاريخ مع طرح مستشار لأحد الأحزاب فرض ضريبة على الألواح الشمسية بقيمة مئتي ألف ليرة عن كل لوح بمخالفة فاضحة للدستور وخطيرة حيث أنه لا حقوق للدوّلة على الطاقة الآتية من الشمس بل حقوقها على ما تملكه أي الثروة الباطنية وعلى الأرض! وماذا يمنع هذا الحزب أو مستشاره أن يقترح غدًا ضريبة على الهواء الذي يتنفسّه المواطن؟! إنها فعلًا قمّة الوقاحة أن تفرض الدولة ضريبة على الطاقة الشمسية بعد أن إستباحت 50 مليار دولار أميركي من أموال المودعين لشراء فيول للكهرباء! هنيئًا لمن أعطى الشرعية لهذه السلطة من جديد.
الأزمة المعيشية ما زالت مُستمرّة في ظل غياب للحكومة ولملف التشكيل حيث أنه من غير المُتوقّع أن يكون هناك تشكيل لحكومة قبل إنتهاء عهد الرئيس عون والذي تتخوّف مصادر مُعارضة أن يرفض ترك قصر بعبدا وهو ما قد يؤدّي إلى إنقسام شبيه بذلك الذي عاشه لبنان في العام 1988. بالطبع التأكيدات التي تنصّ على أن عون سيترك القصر الجمهوري في 31 تشرين الأول القادم، تمحيها التصريحات التي تخرج من أفواه المعنيين حيث يؤكّد البعض أن الرئيس عون لن يترك السلطة للفراغ. وهو ما يعني الذهاب إلى تصعيد مؤكّد خصوصًا إذا ما دعم هذا الرأي حزب الله الذي تبقى له كلمة وازنة في انتخابات الرئاسة اللبنانية.
مصدر وزاري سابق، قال لصحيفة «الديار» أن مثل هذا السيناريو «يدفع أكثر نحو مؤتمر تأسيسي مع إستحالة الإستمرار على هذا النمط مشدّدًا على أهمّية التقرير الذي نشره البنك الدولي والذي يُحمّل السلطة السياسية – بالأرقام – مسؤولية ما وصل إليه لبنان، ومُستبعدَا أن يكون هناك حلّحلة على الصعيد الحكومي قبل إنقضاء ولاية الرئيس ميشال عون.
أما على صعيد ترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي، فمن المتوقّع أن تتأخر عملية الاتفاق إلى ما بعد نهاية ولاية عون. هذا الأمر يُمكن إستنتاجه من الإشارة الإسرائيلية بتأخير عملية إستخراج الغاز من حقل كريش والتي رأى فيها البعض أنها أتت على خلفية ضغط المقاومة وخوفًا من التنازل للبنان في هذا الملف. من هذا المُنطلق، نرى أن عودة عاموس هوكشتاين إلى لبنان ستكون تقطيعا للوقت في إنتظار تبلور الملفات الإقليمية وعلى رأسها الملف النووي الإيراني.
في هذا الوقت يستمرّ العدوان الإسرائيلي السافر على قطاع غزّة مُسفرًا عن عشرات الضحايا في أبشع تعدّ على حقوق الإنسان وفي ظل صمّت كبير من قبل المجتمع الدولي. فنهار أمس شهد إستمرارًا للتصعيد حيث أطلقت دبابات العدو قذائف باتجاه غزة، متخذة مواقع لها بالقرب من حدود القطاع.
القدرة الصاروخية المُلفتة للمقاومة الفلسطينية (أكثر من 100 صاروخ يوميًا) أجبرت العدو الإسرائيلي على فتح الملاجئ وإخلاء المناطق المجاورة للقطاع في عملية أكثر منها إحترازية، حيث تُشير إلى مخاوف حقيقية من الأذى الذي قدّ ينتجّ عن صواريخ المُقاومة الفلسطينية.
وبالعودة إلى لبنان، برز إلى العلن إضراب المصارف لمدّة ثلاثة أيام بعدما إلتئم أعضاء الجمعية البارحة في اجتماع تم التداول فيه بموضوع «الدعاوى الكيدية التي تتعرّض لها المصارف والتي تصدر فيها بعض الأحكام الاعتباطية والشعبوية عن مرجعيات يتمّ اختيارها مسبقًا من المدّعين لغايات لم تعد خافية على أحد».
تداعيات هذا الإضراب ستكون كارثية على المواطن كما ذكر بعض خبراء الاقتصاد الذين حذّروا من أن القطاع العام لم يتقاض رواتب الشهر الماضي حتى الساعة وبالتالي فإن الإضراب سيؤخّر حكمًا في عملية الدفع في الوقت الذي لا يُمكن للمودعين سحب أموال من المصارف بسبب الإضراب وهو ما قد يؤدّي إلى ردّة فعل على الأرض كبيرة. أيضًا وعلى صعيد الإستيراد من الواضح أن الدور الكبير للقطاع المصرفي في عملية الإستيراد من ناحية فتح الإعتمادات، سيتعطّل حكمًا بسبب الإضراب وسينتج عنه نقص في المواد والسلع الغذائية والمحروقات التي لن يتوارى التجار عن الإستفادة من هذه الفوضى لخلق أرباح غير قانونية سنرى مفاعيلها بدءًا من نهار الإثنين ومُشكلة المحروقات!
ومن التداعيات الأخرى لهذا الإضراب ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء والناتج عن غياب المصارف عن منصة صيرفة وهو ما يعني غياب الوصول إلى هذه المنصة. ففي الإضراب الأخير للمصارف والذي إمتدّ على فترة يومين، إنخفض حجم التداول على منصة صيرفة أكثر من 60% وإرتفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء عدّة ألاف من الليرات. وهو ما سيترك الفرصة للمضاربين والصيارفة من المافيات القيام بعمليات مضاربة شرسة سيدفع ثمنها المواطن تحت أنظار السلطة الحارسة!
بيان الجمعية أوضح سبب الإضراب هو الملاحقات القضائية، وتوقيف رئيس مجلس إدارة بنك الاعتماد المصرفي. أحد القانونيين قال في تصريح لصحيفة «الديار» أن «ممارسات السلطة السياسية على مرّ عقود هي السبب الذي أوصل إلى هذا الوضع. ومن منا لا يتذكرّ حادثة فرونسوا باسيل الذي رفض إقراض المصارف وتمّت ملاحقته قضائيًا؟ وحتى ادمون نعيم حاكم مصرف لبنان أرسلوا له قوى أمنية لجلبه بالقوّة حين رفض إقراض الدولة، وها هو رياض سلامة يتعرّض لنفس المصير نتيجة رفضه المسّ بالإحتياطي الإلزامي!»
الجدير ذكره أن جمعية المصارف كانت قد أصدرت بيانًا قالت فيه أنها «لا تفهم أسباب توقيف رئيس مجلس إدارة بنك الاعتماد المصرفي ش.م.ل، بسبب ورود شكوى جزائية بحقّه أمام النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان من قبل صاحبة أسهم تفضيلية تعيب عليه أنه لم يوزّع لها أرباحًا في وقت لم يحقّق المصرف أرباحًا ليوزعها».
وأضاف البيان «إذا كان القانون قد سعى بهدف تحقيق عدالة واعية، إلى إيلاء النظر بدعاوى تتطلب حدّا أدنى من الإلمام بقوانين خاصة كالقوانين المصرفية والمحاسبية، فإن المصارف تقف باستغراب أمام تجاهل البعض من المكلّفين باحترام القانون ومضمون أحكامه وكأن تطبيق القانون أصبح اختياريًا لهم وليس إلزاميًا.
ويزيد استغرابها عندما تأخذ هذه المرجعيات تدابير جذرية تتناول حرّيات الأشخاص وكراماتهم وتسيء إلى سمعتهم وتعرّض علاقات المصارف المحلية بالمصارف المراسلة، مما يحدث ضررًا بالغًا ليس للقيّمين على المصارف فحسب، بل بصورة أولى للمودعين.
وأضاف «من الأمثلة على ما تقدّم، عدم فهم هذه المرجعيات لمعنى الرأي المخالف الذي أصدره مفوضو المراقبة الجدّيون لا سيّما الدوليون منهم مؤخرًا، لدى مراجعة الحسابات المالية ليس فقط للمصارف، بل ربما لجميع الشركات العاملة في لبنان. وقد سها عن بالهم أن الوضع المصرفي في لبنان كما الوضع الاقتصادي هو ضحية مخاطر نظامية وليس ناتجًا عن تصرفات فردية اتخذتها المصارف أو غيرها من المؤسسات الاقتصادية حتى يتم تحميل المسؤولية لأفراد».
ولعل الأقوى في بيان جمعية المصارف هو الهجوم على بعض القوى السياسية التي أسمّت تصرفاتها بمواقف شعبوية حيث قال البيان «ولو كانت هذه المرجعيات تقرأ أسباب هذا الرأي المخالف، ولو كانت ستفهم هذه الأسباب إن قرأتها، ولو استعانت بخبير محاسبة يوضحها لها قبل اتخاذ قرارها، لكانت علمت أن أسباب الرأي المخالف لا يعود إلى تزوير الحسابات، بل يعود إلى استحالة تطبيق قواعد المحاسبة الدولية بسبب الأوضاع الاقتصادية العامة في البلاد التي هي من مسؤولية الدولة، التي أوصلتنا اليها وليس بسبب المصرف المعني، مثل عدم توحيد سعر صرف أو التضخم المفرط أو سواه. وأن الرأي المخالف لا يعني أن الشركة المعنية أو المصرف المعني يحاول إخفاء الأرباح، بل على العكس، لو كان تطبيق معايير المحاسبة الدولية ممكنًا، لكانت الخسائر زادت ولم تنقص.
إن هذه الأوضاع الشاذة والتي حاولت المصارف قدر الإمكان التعامل معها بمرونة ولو على حسابها، بلغت حدّاً لم يعد مقبولاً، وهي لم تعد تستطع أن تتحمّل المواقف المضرّة والشعبوية على حسابها وحساب الاقتصاد، وهي تجد نفسها مضطرة إلى إصدار إنذار عام يكون دعوة للجميع للتعامل بجدية ومسؤولية مع الأوضاع الراهنة بهدف السير نحو التعافي الحقيقي».
مصدر مصرفي أشار لجريدة «الديار» أن «المقصود في بيان الجمعية معروف وهو الفريق الرئاسي الذي يتخبّط عبر الضغط على من يمتلك عليهم الموّنة على مثال إستقالة مفوّض الحكومة السابقة من منصبها وهي المحسوبة على هذا الفريق». وأضاف «التخبّط الأكبر لدى هذا الفريق سيظهر أكثر حين يبدأ القضاء الفرنسي بدرس الشكوى المُقدّمة من حاكم مصرف لبنان ضدّ مجهول في مدينة ليون الفرنسية والتي ستنسف كل الأسس القانونية التي على أساسها إستندت القاضية غادة عون لملاحقة سلامة».