كتّاب الديار
فجأة، وبعيداً عن قرع الطبول في الشرق الأوروبي، وعن قرع الطناجر في الشرق الآسيوي (كم بدا رد الفعل الصيني كاريكاتورياً، وبهلوانياً، على زيارة نانسي بيلوسي لتايوان !!)، عاد الأميركيون والايرانيون تسللاً الى فيينا .
ما الذي حدث في الأروقة الديبلوماسية الخلفية، وفي الجبهات الاستراتيجية الأمامية ، ليعود التفاؤل الى قصر كوبورغ، وعلى ايقاع سنفونية «الدانوب الأزرق» لشتراوس، لا على ايقاع الكونشرتو الجنائزي لموزارت؟
الآن، صراع النفط والغاز . جو بايدن الذي لاحظ أن الأمير محمد بن سلمان تعامل معه كشخصية من الدرجة الثانية، وهذا يحدث، للمرة الأولى، منذ لقاء الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس فرنكلين روزفلت على متن المدمرة كوينسي في قناة السويس، غداة مؤتمر يالطا عام 1945، لم يجد بديلاً سوى التنازل أمام آيات الله، والاصغاء الى رأي كبار المستشارين في البنتاغون بعدم ترك ايران تذهب الى حد الاندماج الاستراتيجي مع كل من روسيا والصين…
الايرانيون المنهكون اقتصادياً، المربكون جيوسياسياً بسبب حالة الضياع في الشرق الأوسط، ومحاولات اسرائيل «ملء الفراغ» في المنطقة، لا يريدون البقاء بعيداً عن جاذبية السوق أمام اللهاث الأوروبي وراء الغاز البديل عن الغاز الروسي.
بطبيعة الحال لعبة المصالح لا لعبة المبادئ في ذروتها . وبعدما كان الأميركيون يتهمون الايرانيين بـ «التفاوض الايديولوجي»، ها أن روبرت مالي، كبير المفاوضين، يوحي ببراغماتية لافتة من نظام يخلط بين اللغة اللاهوتية واللغة السياسية، حتى أن سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي السابقة، كتبت في «الفورين آفيرز» عن «اللاهوت الديبلوماسي على ضفاف الدانوب» .
ولتكن لعبة المصالح. أي مكان للفلسفات، أو للديانات، الطوباوية في زمننا ؟ أميركا من شقت طريق الجلجلة أمام لبنان وسوريا لأنها تعتبر أن البلدين، بشكل أو بآخر، فتحا أبوابهما أمام العربة الايرانية، وان كانت الأبواب الخلفية، ما أحدث اضطراباً دراماتيكياً في خارطة المعادلات، كما في خارطة العلاقات، في الشرق الأوسط ..
في لحظة ما، استشعر البيت الأبيض أن هذه المنطقة التي رأى فيها هنري كيسنجر، خشبة الصراع، ومنذ آلاف السنين، بين نصف الله والنصف الآخر، تحولت الى عبء استراتيجي عليها، فكان أن آثرت الانسحاب التدريجي منها قبل أن ينفجر المسرح الأوكراني وتنفجر معه أزمة الغاز . وكانت لحظة ما أخرى أعادت الضجيج الى الأساطيل الأميركية وهي تختال بين مضيق هرمز وباب المندب .
الأميركيون الذين يخوضون في أوكرانيا حرباً تحاكي الحرب العالمية الثالثة، ودون أن يستطيعوا التكهن بنتائجها، لا يريدون للشرق الأوسط أن يشتعل، وهو الذي لا ينتظر أكثر من صاروخ يطلق من مكان ما على الأرض اللبنانية . من هنا كان تراجعهم أمام ايران في نقاط حساسة تتعلق بالمسار التفاوضي . يقابل ذلك حديث عن خطوة ايرانية الى الوراء كي لا تبقى طهران بعيدة عن جنون الأسواق في هذه الأيام .
وقد أعقبه يوم الاحداثيات، هز الأميركيين أكثر مما هز الاسرائيليين الذين، بدورهم، يدورون في حلقة مفرغة . لا نتصور أننا نبالغ، ولو قيد أنملة، اذا ما قلنا أن ما قامت به المقاومة جعل أبواب قصر كوبورغ تفتح، مرة أخرى، أمام المفاوضات، ويحكى عن المفاوضات السلسة في هذه الجولة…
لا بد أن شيئاً ما، وبمنأى عن التفسيرات الماورائية، قد حدث فوق الأرض، أو تحت الأرض، فوق الطاولة أو تحت الطاولة، وأعاد الأميركيين والايرانيين الى القفازات الحريرية بدل التراشق بالألفاظ الحديدية.
ما يعنينا، هل ثمة من تداعيات لتلك المفاجأة على لبنان وسوريا، وحيث الترابط «العضوي» بين الأزمة هنا والأزمة هناك، وبعدما وصل البلدان الى نقطة النهاية . المقصود.. نقطة الهاوية.
لا نملك سوى الدعوة لله، ولآيات الله بطبيعة الحال، بفتح العقول والقلوب، لعلنا نعود، وكما ترتقب ذلك أوساط ديبلوماسية، الى ذلك الشيء الرائع الذي يدعى… الحياة!