يُعَدّ جيفري فيلتمان، الذي كان سفيراً في بيروت (2004-2008)، خبيراً وضليعاً في الشؤون اللبنانية. صاحب حنكة ودهاء سياسي، نظرًا لمعاينته واقع بلاد غرب آسيا عن قرب واتقانه اللغة العربية. حظي بقبول واسع من السياسيين والمحللين في واشنطن، لتميّزه بالإلمام بالقضايا الحساسة. لقد ساهم فيلتمان في تنمية الاستراتيجية الدولية الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة، وفقًا لمعهد بروكينغز الأمريكي للبحوث والدراسات.
تضم هذه الورقة قراءة في تحليلات جيفري فيلتمان حول كيفية احتواء حزب الله، انطلاقًا من رصد ومراجعة 15 ورقة بحثية تنوعت بين مقال ودراسة وجلسات استماع في الكونغرس، تضمنت تصريحات وآراء تحليلية خلال فترة زمنية بين (2019-2021)، ونشرت في وسائل الاعلام ومراكز الفكر والأبحاث ولجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي. هذه القراءة تعكس كيفيّة تقييم فيلتمان سياسة حزب الله في الداخل اللبناني، وما لها من تبعات على المنطقة والكيان المؤقت وأميركا في رسم مسار الصراع الاستراتيجي لمشروع الهيمنة.
تشير هذه القراءة إلى السياسات والمحاذير التي يدعو إليها فيلتمان بعدم التدخل الأمريكي المباشر في الشأن اللبناني. واللافت أنّ بعد احتجاجات 2019 يدعو فيلتمان إلى عدم تضييق الحصار على لبنان وحزب الله خاصة، إذ رأى أنه قد يؤدي إلى خوض غمار مواجهة عسكرية مباشرة بعدما تعاظمت قدراته محليًّا وإقليميًّا بعد حرب تموز 2006. يرى فيلتمان أن تعاظم قوة الجيش اللبناني بدعم من أمريكا، يمكن أن يضعف حزب الله داخليًا حيث يمكن عندها التذرع بأن لا حاجة لسلاح المقاومة بعد الآن، ومن ثمّ جرّه إلى الاقتتال الداخلي أو الانقلاب الشعبي عليه. ويرى أن ثبوت التورط الأمريكي المباشر بالشأن اللبناني الداخلي يقوّي الحزب.
أما أهم المخاوف التي عبر عنّها فهي اعتبار حزب الله “أنجح نموذج صدّرته الثورة الإيرانية عام 1979 والأكثر فتكًا” خاصة بعد تعاظم قدراته وموارده، ما يعني أن المعركة مختلفة وأصعب، لأنها متعددة الجبهات بين الكيان المؤقت وحلفاء أمريكا في غرب آسيا، مقابل محور المقاومة بأكمله وليس حزب الله فقط. إذ عبّر عن قوة حزب الله بـ “دولة داخل لا دولة”، ما يفرض على أمريكا تقديم بدائل وحلول بعيدة عن جرّ المقاومة إلى المواجهة العسكرية المباشرة مع الكيان المؤقت كما حصل في تموز 2006.
على ضوء الاحتجاجات، ما هو التالي للبنان؟
يرى فيلتمان أن احتجاجات 2019 في لبنان بيّنت ما لم يكن في الحسبان، إذ “أبدا وكلاء إيران وسوريا في لبنان، بعد سنوات من التضامن، إشارات تباعد أوّلية، خاصة مع نزول متظاهرين من الشيعة إلى الشارع وعدم الانصياع لدعوات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بالتفرّق من الساحات” بحسب تعبيره (1/11/2019). حيث اضطر حزب الله ومناصروه، حسب زعمه، إلى إرسال “بلطجية” للتعدي على المتظاهرين، ليقوم الجيش بتفرقتهم وحماية ساحات الاحتجاج، الأمر الذي زاد الدعم الشعبي للجيش اللبناني مقابل انتقاد علني غير مسبوق لحزب الله. هذا المسار يتماشى إلى حدّ كبير مع المصالح الأمريكية، لكن عوضاً عن تعزيزه، قام البيت الأبيض، في قرار أتى توقيته بشكل غير مناسب على الإطلاق بحسب فيلتمان، بتعليق مساعدات أمنية بقيمة 105 مليون دولار للمؤسّسات التي تحدّت مطالب حزب الله بإنهاء التظاهرات (الجيش اللبناني).
يحذر فيلتمان من الخطوة التي اتخذتها إدارة ترامب بتعليق المساعدات الأمنية للجيش اللبناني، والتي كانت بمثابة هدية لدمشق وطهران على حدّ سواء. والتي كانت بمثابة رسالة إلى اللبنانيين توحي بانعدام الثقة بالولايات المتحدة كشريك للشعب اللبناني. وتقوّض الخطوة أيضًا الحجّة القائلة أنّ الجيش اللبناني بات يتحلّى بقدرات جيدة بفضل الدعم الأمريكي بشكل أساسي، وتأمين حماية حقيقية للبنان بدل من صواريخ حزب الله التي تشكل خطر على لبنان، لأن تنامي قدرات الجيش بفضل الولايات المتحدة، يحد من غطرسة حزب الله و”تقليله الدائم من قدر الجيش” بحد زعمه. من ثم يؤكد فيلتمان أن احتجاجات تشرين 2019 في لبنان لا تتعلق بالولايات المتحدة، ولابد من تجنب أي شيء من شأنه أن يغير التركيز على الولايات المتحدة، لكن نتائج الاحتجاجات قد تؤثر على المصالح الأمريكية إيجابًا أو سلبًا.
يعترف فيلتمان بأن الشأن اللبناني محوري، إذ يعد بؤرة أمامية خطيرة لإيران التي تهدد المصالح الأمريكية في المنطقة وخارجها، من خلال تصديرها الأكثر نجاحًا وهو منظمة حزب الله الإرهابية بالقدرات المتقدمة المهددة للكيان المؤقت وحلفاء أمريكا. لذا فهو يتخوف من نظرة روسيا المترسخة في سوريا إلى لبنان، كمكان لمواصلة توسعها العدواني لدورها الإقليمي والمتوسطي، كون بشار الأسد يعتمد بشكل كبير على روسيا وحزب الله وايران. فإذا استغلت روسيا موانئ لبنان الثلاثة واحتياطيات النفط والغاز البحرية، ستقلب الموازين لصالح روسيا في شرق وجنوب البحر المتوسط على حساب الولايات المتحدة. إضافة إلى وجود أكثر من 400 مواطن صيني من اليونيفيل في جنوب لبنان، الأمر الذي قد يشجع الصين أيضًا للنظر بالإمكانات في موانئ لبنان وموقعه، خاصة إذا طرحت تكنولوجيا 5G الصينية كعامل إغراء مهم للبناني الذي يعاني من شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية. لذا يدعو فيلتمان إلى عدم السماح لإيران أو سوريا أو الصين أو روسيا باستغلال غياب أميركا، وملئ الفراغ. لأنّه وباختصار، لبنان مكان للمنافسة الاستراتيجية العالمية، بقدر ما هو محبط ومعقد.
يقر فيلتمان بأنّه قد لا ينتج عن الاحتجاجات التغييرات الفورية المُطالب بها في الساحات، لأنّه سيكون من الصعب طرد الأشباح الطائفية في لبنان، لكن العملية البناءة قد بدأت، حتى لو لم تتحقق جميع المكاسب المحتملة على الفور، فإن عام 2019 يمثل نقطة تحول بالنسبة للبنان. ويرى أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تقرر، ولكن يمكنها التأثير على النتيجة من خلال الاهتمام غير المباشر، والذي يُحدث فرقًا لدى اللبناني الساعي لتحديد كيفية المضي قدمًا خارج الاحتجاجات المحلية. لذا يرى ضرورة في اتباع هذه الحيلة، لأنّه من غير الحكمة التدخل بشكل مباشر في القرارات السياسية اللبنانية، فهذا الأمر يسهل على الأمين العام لحزب الله (أو سوريا أو إيران أو روسيا) الاستشهاد بأمثلة موثقة وموجهة من الولايات المتحدة، وبالتالي محاولة تشويه سمعة المحتجين ومطالبهم.
يمكننا القول بأنّ فيلتمان مراهن على تراجع سمعة حزب الله في الأوساط الشعبية التي شاركت في الاحتجاجات، في الوقت الذي تتعزز فيه شعبية الجيش اللبناني، ويراهن أيضًا على وعي الشعب اللبناني للآثار المترتبة على المسار الذي يختاره. فالدعوة للإفراج عن المساعدة العسكرية تقوض بنظره المحاولات المستمرة للتشكيك في مصداقية الولايات المتحدة، إلا أن الواقع أن حشد الدعم المالي والاقتصادي يعتمد برأيه على قرارات من اللبنانيين أنفسهم، بما في ذلك ما يأملونه في تركيبة الحكومة اللبنانية المقبلة بسياسات ساعية للحصول على دعم دولي مقابل التخلّي ونبذ حزب الله وسلاح المقاومة. وهذا بالضبط ما تقصده الولايات المتحدة عند قولها فهم الآثار المترتبة على المسار الذي يختاره الشعب اللبناني.
البديل من الحرب، إمّا التزام سياسات أمريكا أو الانهيار
يعتبر فيلتمان أن دخول “حزب الله” إلى الساحة السياسيّة، محاولة مبكرة لإيقاظ النشاط السياسي الشيعي بدأت منذ أيام الإمام موسى الصدر، الذي فقد زخمه الفريد مع اختفائه خلال زيارة ليبيا عام 1978. ثمّ التقطت إيران ما بدأه الصدر، لتحوّل الشيعة من طبقة دنيا إلى ما يعتبر اليوم أقوى قوة سياسية في لبنان، وأحد القوى المستعدّة لفرض إرادتها على البلاد عبر القوة العسكرية وغير ذلك.
لفت فيلتمان إلى أنّ ما يعطي “حزب الله” قوة خاصة في لبنان هو “قدرة نصر الله على التأكيد أنّ الحزب يمثّل المصالح اللبنانيّة، وليس الأهداف التي تريدها دمشق وطهران”. وإحياء ذكرى المارينز الذين قتلوا في بيروت أيام عمله كسفير، كانت تعكس له في كلّ مرة تاريخ وقوة حزب الله، الأمر الذي يدعوه للتفكير بكيفية تطوّر الحزب حتّى بات يملك هذه القوة الحالية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني. وهو يرى أنّ “حزب الله” يسعى اليوم إلى جمع شعبيّته وقوته العسكرية، إلى جانب وجوده في البرلمان والحكومة، لممارسة “فيتو” على أي سياسة حكوميّة يُعارضها. إنّه يبني جدارًا لنفسه غير قابل للاختراق ضد المحاسبة من قبل الناس أو في البرلمان على أي قرار له.
يعترف فيلتمان بالاندهاش الكبير لدى الكثير من السياسيين الأمريكيين، من الخدعة المسرحية الأنيقة التي أتقنها لبنان بالبقاء سنوات واقفًا سياسيًا واقتصاديًا، وسط كل الظروف التي توحي بانهيار وشيك، إذ أثبتت التنبؤات بمصير لبنان. ويضيف بأنّ الأمر لا يقتصر على تعقيد إدارة الدين الداخلي والخارجي للبنان، في ظل اقتصاد لا ينمو، بل إن الجمهور سئم من السيناريو الطائفي والأعذار التي يستخدمها القادة في المؤسسة السياسية لدفع عجلة سياستهم الضيقة، أو المصالح المالية على حساب الدولة ككل. لذلك، أصبح النظام السياسي اللبناني بأكمله تحت رقابة عامة معادية، حتى حزب الله أصبح هدفًا لانتقادات واسعة النطاق.
يدعي فيلتمان أن الاحتجاجات وردود الفعل في الشارع تتوافق “لحسن الحظ” مع المصالح الأمريكية، واختصرت سنوات من الجهود الأمريكية الساعية لتشويه سمعة حزب الله، الذي لطالما اعتبر نفسه أنه “لا يقهر” و “نظيف” و”مناهض للمؤسسات” مقارنة بالأحزاب اللبنانية الأخرى. يعتبر فيلتمان أن “إصرار نصر الله على بقاء الرئيس ميشال عون في منصبه ورفضه لاقتراح إجراء انتخابات نيابية مبكرة، يضع حزب الله ضمن دائرة الفساد التي يريد المحتجون القضاء عليها”. ويعترف أنّه على مدى سنوات، حاولت الولايات المتحدة حثّ اللبنانيين على مواجهة حقيقة أن حزب الله وصواريخه تخلق خطر الحرب مع إسرائيل بدلاً من توفير الحماية. وبأنهم كانوا يراهنون على رد فعل حزب الله الخطابي والسلوكي على التظاهرات الحالية، بمن فيهم الشيعة، وهو أمر ضروري لتقويض شعبية حزب الله.
يرى فيلتمان أيضًا أن الاحتجاجات ركّزت على قضايا عاجلة متعلّقة بالوظائف والخدمات، القائمة على خلفية أزمة مالية كبيرة، كواحدة من أعلى نسب الدين للناتج المحلي الإجمالي في العالم – تتجاوز 150% – فقد تأرجح لبنان منذ فترة طويلة على شفا كارثة مالية. وتحدّث عن فقد النظام المصرفي القدرة على متابعة “الهندسة المالية الذكية” لمنع الانزلاق إلى الهاوية، بالتزامن مع تشديد قيود التأشيرات لأوروبا والولايات المتحدة، وانخفاض فرص العمل في دول الخليج، أي ضيق المنفذ لدخول العملات الأجنبية. لذا يرى أن هذا الاقتصاد اللبناني المختل قد يؤدي إلى تغيير في الاتجاه، لأن المصالح العامة تساهم في التحسينات الاقتصادية وليس المكاسب الشخصية للقيادات السياسية.
يعتقد فيلتمان بأنّه قد ينشأ الكثير من الاستثمارات الجديدة وعودة للسياح الخليجيين والشركات والودائع المالية، لكن النجاح في جذب المستثمرين الغربيين ودول مجلس التعاون الخليجي سيظل بعيد المنال دون تغييرات كبيرة إذا ظل اللبنانيون راضين عن كونهم جزءًا مما يسمى المحور الإيراني-السوري. وبشكل أكثر وضوحًا، لن يعود المستثمرون والسائحون بأعداد كبيرة ومتوقعة بما يكفي طالما أن حزب الله يستطيع أن يجر لبنان في لحظة إلى حرب، دون العودة إلى الرأي العام أو الحكومة. لذا يعترف أنّ اللبنانيين أنفسهم بحاجة إلى اختيار المسار الخاص بهم، إمّا إلى “الفقر الدائم” أو “الازدهار المحتمل”، من خلال تحديد ما إذا كانوا سيستمرون في قبول الحكم السيئ إلى جانب الفيتو الفعّال على القرارات الحكومية التي يصرّ عليها حزب الله. ويرى أن الشعب اللبناني قد لا يملك القدرة على تجريد حزب الله من ترسانته بين عشية وضحاها، لكن كان بإمكانه اغتنام الفرصة الانتخابية لتجريد حزب الله من الشركاء البرلمانيين الذين يستخدمهم كمضاعفات للقوة، لتأكيد إرادته سياسيًا.
بناءً على ما تقدم، يمكن القول إن الوضع الراهن يخدم الأهداف الأمريكية التي تسعى لتحقيقها من خلال سياسة الحصار والتضييق. وهذا هو أساس الأزمة الاقتصادية الخانقة والمدروسة من قبل الادارات الأمريكية المتعاقبة للحكومات الفاسدة في لبنان، والتي تمثّل أداة للضغط على حزب الله بهدف جرّه إلى الاقتتال. والواقع أته على الرغم من تهديد الأمين العام لحزب الله بوقوع حرب، وعلى الرغم من كل الأوضاع الأمنية التي يمكن أن تطرأ في ظل النظام اللبناني المأزوم سياسيًا، إلا أن حركة السياح في صيف 2022 سجلت أعلى نسب منذ سنوات.
احتواء حزب الله، عملية طويلة الأمد
يرى فيلتمان أن دعوات واشنطن لدفع الجيش اللبناني إلى مواجهة حزب الله تأتي بنتائج عكسية. لأن المواجهة بينهما قد تؤدي إلى حرب أهلية، والفوضى الناجمة عن هذا الصراع ستصب في مصلحة إيران والمتطرفين السنة. وإن عدم الضغط على القوات المسلحة اللبنانية لنزع سلاح المقاومة بالقوة لا يكفي لمنع اندلاع صراع داخلي في لبنان، لأن حزب الله سيحتاج إلى مخرج يحفظ فيه ماء الوجه، وإلا سيقاوم، وهذا ما فعله في الماضي.
لدى فيلتمان نظرة متفائلة للغاية تجاه الوضع، خاصة برؤيته الزاعمة أن الانتخابات المبكرة ستجرد حزب الله من الشركاء السياسيين. إلاّ أنها ستعطي حزب الله تأثيرًا مضاعفًا، لأنّه إذا أجريت الانتخابات اليوم لن تختلف النتائج اختلافًا جوهريًا، لسبب بسيط هو أن المتظاهرين ليس لديهم هيكل أو نضج كافٍ لتقديم بدائل قابلة للتطبيق. أي أن الانتخابات المبكرة ستؤدي إلى “إعادة تأكيد” شرعية حزب الله. لذا فإن احتواء حزب الله عملية طويلة الأمد.
ومن أجل احتواء حزب الله، يرى فيلتمان أنّه يجب أن يُعرض على الحزب مخرج مناسب، لأنّه سيقلل نفور المقاومة من التغيرات العضوية التي تشهدها البلاد، ويمنع لبنان من الانجرار إلى العنف. لقد أشار إلى أنّه “وبالرغم من تراجع السيطرة على الشيعة بالمجمل من قبل “نصر الله”، فمن المهم أن نلاحظ أنه لا يزال لديه جمهور كبير”. فليس هناك ما يضمن أن يتخلى الشيعة في لبنان عن حزب الله إذا أجريت انتخابات مبكرة، خاصة أن حزب الله ولأكثر من 30 عامًا كان يقدم خدمات للسكان الشيعة لم توفرها الدولة اللبنانية، بل توسعت إلى كل لبنان عندما ازدادت الأزمة (المازوت مثلًا). ثم يضيف أن المواجهة مع الكيان المؤقت يمكن أن تعيد إحياء روح المقاومة، مثل هذه المواجهة لن تصب بالتأكيد في مصلحة لبنان أو مصلحة الولايات المتحدة، لذلك لا ينبغي أن نُيأس حزب الله للدرجة التي يخوض فيها حرباً تؤدي إلى تدمير البلاد، وإعادة سيناريو عام 2005، الذي أدى إلى حرب تل أبيب على لبنان عام 2006. لقد أصبحت المقاومة أقوى منذ ذلك الحين.
في هذا الصدد يؤكد فيلتمان أن على الولايات المتحدة أن تكون واقعية جدًا، وعليها أن تفكر بالمدى الطويل. يجب أن يكون هدف واشنطن دعم رغبة اللبنانيين في حكومة نظيفة من التكنوقراط تتمتع بالشفافية وتوفر الخدمات الأساسية وتجري الإصلاحات، وهذه البيئة لن يحظى فيها حزب الله بشعبية، ولن تكون خدماته مطلوبة. فقد اعتبر فيلتمان أن التوصل مثلًا إلى اتفاق إطاري بين لبنان والكيان المؤقت تحت رعاية الولايات المتحدة، لبدء محادثات حول ترسيم الحدود البحرية بين البلدين فرصة جيدة للبلدين، ولغايات أمريكا. فإذا نجحت المحادثات في حل قضية الحدود البحرية ومسألة نقاط الحجز الثلاثة عشر عبر الخط الأزرق، وحل بعض مشاكل الحدود البرية على الأقل، ستكون هذه خطوة إيجابية، رغم أنّها لن تكون بمثابة إنشاء علاقات دبلوماسية كاملة. لكنّها على الأقل توجّه الاتفاق الإطاري للتوصل إلى حل للمناطق الحدودية، ما يسمح للبنانيين والإسرائيليين بالاستفادة من الموارد الطبيعية وتجنب سوء التقدير المحتمل في المنطقة المتنازع عليها.
فيلتمان مقتنع أنّ أمريكا تركز على كيفية المضي قدمًا، بناءً على اتفاقية الإطار التي وردت مسبقًا، في حل القضايا التي كادت أن تؤدي إلى الصراع، والتي حالت دون استخدام الموارد الطبيعية من قبل البلدين، والتي استخدمها حزب الله كأحد مبرراته في عدة مناسبات. وأنّ العقوبات هي أداة سياسية تستخدمها الولايات المتحدة لدعم سياستها، إذ يعتقد أن واشنطن ستقرر العقوبات المستقبلية بناءً على اعتقادها بأن العقوبات ستدفع سياسة معينة. ما يعني أن مشكلة الحدود البحرية يمكن حلها من خلال اتفاقية الإطار ترعاها الولايات المتحدة، حتى يتمكن لبنان من الاستفادة من احتياطيات الغاز، لكن هذا لا يحل مشكلة مزارع شبعا، الأمر الذي يترك للمقاومة عذرًا ومبررًا للحفاظ على ترسانتها التي تشكل تهديدًا على لبنان.
بعد توليف كل ما تقدّم، ينظر فيلتمان إلى الأزمة الاقتصادية الحالية كأداة بديلة عن حرب عسكرية عجز الكيان المؤقت عن شنّها منذ عام 2006، وهو التاريخ الذي أسس لمعادلة ردع جديدة لم يتمكن الاميركيون من اخفاقها حتى الآن، ومهما كان من حال، جاء تغير القوى والصراع في مصلحة الحزب.
عطفًا على كل ما ذكر من قراءة في فكر جيفري فيلتمان لتكوين رؤيته حول كيفية احتواء حزب الله، كان لافتًا التوظيف السياسي لآلية العقوبات غير المباشرة، بهدف تضييق الحصار على الشعب اللبناني وتصويب البوصلة نحو سلاح المقاومة. فالمشروع الأمريكي الجديد يتلخص بالانسحاب العسكري من المنطقة، مقابل التأمين على مصير ومستقبل الكيان المؤقت. أي ايجاد سوق بديل يعيل كيان العدو اقتصاديًا فيما لو فكرّت الولايات المتحدة تخفيف الدعم الاقتصادي عنه. بمعنى آخر أن يقوم حلفاء أمريكا في غرب آسيا باحتضان الكيان المؤقت اقتصاديًا عبر سلسة من الاجراءات والترتيبات، تبدأ من التطبيع السياسي لتنتهي بالتطبيع الاقتصادي، على أن تحصل هذه الدول الحليفة والحاضنة الحماية العسكرية اللازمة عند أي اعتداء خارجي أو انقلاب داخلي.
المشروع يعتمد على وزارة الخزانة والتي يطلق عليها وزارة الحرب، نظرًا لكونها من أهم المؤسسات المساعدة في تنظيم العقوبات الاقتصادية. والتي تنطلق من منطق أنّ الحروب العسكرية المباشرة باتت باهظة التكلفة، وأميركا باتت منهكة من تتابع الحروب، لذا تسعى إلى تحقيق تسوية سياسية أو توفر ظروف مناسبة للتسوية. وعليه، تحاول إدارة بايدن إعادة تشكيل السياسة الخارجية وفق مسار سياسة الردع والعقوبات، بعيدًا عن الحضور المكثّف للقوات العسكرية.
الكاتب: مريم أخضر-الخنادق