وقبل عام، وتحديداً في 22 تشرين الأول 2021، انتهت مهلة تمديد عقود الإيجار في هذه المناطق، والتي امتدّت فقط لعام واحد. ومن المنتظر أيضاً، في كانون الأول المقبل، أن تقع كارثة إضافية على السكان، بانتهاء مفاعيل وضع القيود على نقل ملكية هذه الأبنية، والتصرّف بالعقارات، والتي أقرّها القانون عينه واستمرّت بدورها لعامين فقط بعد انفجار الرابع من آب.
هذه المعطيات تهدّد سكان المناطق المتضرّرة (الرميل، المدوّر، مار مخايل، الصيفي، المرفأ..)، وتسهّل تهجيرهم مرة ثانية من بيوتهم، وهذه المرة عمداً، بفعل عوامل عديدة لعبت دوراً حاسماً في محاولة تكريس سياسات الإخلاء المتعمد، وبالتالي تضعضع النسيج الاجتماعي والاقتصادي هناك، خاصة وأن نسبة مرتفعة من سكان بيروت (49.5%) يعدّون من المستأجرين (مسح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي/ 2008)، باتوا اليوم مهددين بالتهجير.
ضغوط على السكان
في تقرير لـ«استديو أشغال عامة» نُشر العام الماضي، جرى التحذير من فرض «مسارات التمويل الخارجي واستغلال الدمار لتحريك شبكة من المضاربات في قطاع البناء». يضيء التقرير على أحوال السكان في تلك المناطق، والذين باتوا أكثر هشاشة، بفعل غياب أي إطار قانوني يحميهم، واختزال إعادة الإعمار بالمباني والعقارات، وتجاهل الحق الميسّر للسكن لهؤلاء، مع خطورة حلول طبقات اجتماعية جديدة مكانهم. فقد وثّق «مرصد السكن» التابع لـ«استديو أشغال عامة»، بين أيلول وكانون الأول من عام 2020، 177 حالة تهديد بالإخلاء، إلى جانب تنفيذ حالات أخرى من التهجير القسري. أرقام يضاف إليها اليوم، وضمن دراسة ميدانية قام بها المرصد، أرقام أخرى تنذر بحصول الأسوأ، إذ إن حي «الرميل» على سبيل المثال، نُفّذت فيه بعد عام ونصف العام على انفجار المرفأ، 8 حالات إخلاء، و13 حالة تهديد به، إلى جانب 11 حالة اضطرت مرغمة على الموافقة على شروط جديدة في عقود الإيجار. مع البدء أخيراً، بموجة من الضغوط تمارس على السكان، وتتمثل بغلاء الإيجارات بعد الانتهاء من عمليات الترميم (1120 مبنى بحاجة إلى الترميم في الأحياء القريبة من مكان الانفجار/ تقرير «مرصد السكن» شباط 2022)، وطلب تقاضيها بالدولار الأميركي، الأمر الذي أسهم في تزايد نسبة الإخلاءات، والاستفادة من الدمار لتكريس عمليات الهدم، وسط غياب لأي بدائل سكنية لهؤلاء، الذين تحوّل انتقالهم المؤقت من مناطقهم إلى نزوح دائم!
التهجير قبل الانفجار
الإخلاءات القسرية لسكان الأحياء المتضرّرة بعد الانفجار، والضغوط التي تمارس عليهم من قبل أصحاب الأبنية، مدعومين بقوة القانون، لم تكن وليدة حدث دام كانفجار المرفأ، بل بدأت عام 2019، تاريخ بروز الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان. تلفت أستاذة الدراسات الحضرية والتخطيط في «الجامعة الأميركية في بيروت»، منى فواز في حديث مع «الأخبار»، إلى أن تهجير السكان في بيروت، سيما في أحياء «الباشورة» و«مار مخايل»، و«كامب هجين»، بدأ في تلك الفترة، مع تحويل مساكن كاملة بعد هدمها إلى أبراج بهدف الاستثمار والربح، وضرب أي إمكانية للسكن والعيش، إذ من المعروف أن تشييد الأبراج عادة في المدن، يستخدم للاستثمار المادي، لا السكني. تؤكد فواز في هذا السياق، وجود ما أسمته بـ«الرهان» على العاصمة بيروت، وتكريس مبدأ المضاربات العقارية، بهدف محو تراثها ومساكنها وأحيائها، واستبدال عائلات تقليدية تقطنها، بمجموعة عمّال أجانب، يسهل على صاحب الملك طردهم، نظراً إلى هشاشة أوضاعهم القانونية والاجتماعية. لذا، أسهم انفجار الرابع من آب، بتسريع حصول هذا النهج، بحسب فواز، وتكريس سياسة التهجير القسري، مع توثيق «مختبر المدن» (Beirut Urban Lab)، في «الجامعة الأميركية في بيروت»، لنسبة 40% من الشقق الشاغرة في المناطق المتضرّرة بعد الانفجار، في حين كانت نسبة هذه الشقق قبلاً تقرب من 20%، الأمر الذي أدى بحسب فواز إلى تغيير ديموغرافي، وتغيير في نمط الحياة في الأحياء، وبالتالي زيادة حالات الإفقار وتحويل بيروت إلى مدينة للاستثمار المادي، وإنهاء أي سبيل للعيش فيها.
وتلفت فواز إلى قضية الحريق المندلع في أهراءات القمح، وتسويق معلومات تهدف إلى إخافة الناس ودفعهم إلى المطالبة بهدم صوامع القمح حماية لحيواتهم، وبالتالي إفساحاً في المجال أمام موجات جديدة من الإخلاء والنزوح القسري من المناطق المحيطة بالمرفأ.
هجمة المطوّرين العقاريين
أثناء تجوالنا في الأحياء المتضررة من «الصيفي»، و«الجميزة»، وصولاً إلى «مار مخايل»، والمرفأ، يتكرّس مشهد يتأرجح بين انتهاء عمليات الترميم وبين بقاء مبان تضرّرت قبل عامين، منذراً بتغيّر حاصل في تلك الأحياء نتيجة هجمة المطوّرين العقاريين والنافذين، كما تقول لنا الباحثة في «استديو أشغال عامة» تالا علاء الدين، التي حذّرت من موجة ارتفاع هذه المضاربات، مع انتهاء مفاعيل قانون نقل الملكية بعد أشهر قليلة. تشير علاء الدين إلى تركيز المستثمرين على المالكين الصغار العاجزين عن دفع تكاليف ترميم مبانيهم، وعلى مالكين يتنازعون فيما بينهم على حق الملكية على خلفية توزيع الورثة، سيما في الأبنية التراثية. وسط ارتفاع هذا العام، لحجم التبليغات عن حالات الإخلاء حتى لو دفع السكان تكاليف الإيجارات، إذ بحسب الباحثة اللبنانية فإن المالك يسعى إلى إبقاء الشقق شاغرة وإخراج الناس منها، تمهيداً لتأجيرها خاصة للعمال الأجانب بسبب سهولة طردهم مع غياب أي عقود للإيجار مبرمة بينهم وبين المالك. وتلفت أيضاً، إلى عودة الناس إلى بيوتها في المناطق المتضرّرة، مع تغييب لأي تصليحات تطال الأقسام المشتركة في المباني، كالمصعد والدرج، إضافة إلى إهمال ترميم باقي الحيّز المشترك (المباني المحيطة).