هل يمكن أن تكون التطوّرات الدراماتيكية التي يشهدها العراق، مقدّمة لاقتتال شيعي – شيعي؟ هذا هو السؤال الذي يشغل بال العراقيين، والمهتمّين بعدم وصول بلاد الرافدَين إلى وضع كهذا، بالنظر إلى خطورته. فما يمكن أن تشهده البلاد في مِثل هذه الحالة، سيكون غير مسبوق، بما في ذلك خلال سنوات الديكتاتورية الطويلة، وبعدها سنوات الاحتلال، وأخيراً فترة «الخلافة» المزعومة، بكلّ دمويّتها.
إذا وصل العراق إلى مِثل هذه الحالة، فذلك سيعني فقداناً تاماً للسيطرة عليه، نتيجةَ ما سيحصل من تمزّق للمكوّن الأكبر، والذي مثّل عنصر التماسك الأساسي للصيغة التي أُسِّس عليها الحُكم بعد إطاحة صدام حسين عام 2003، وقبل ذلك نشأت عليها المعارضة السريّة للديكتاتورية، على رغم أن الأميركيين أَسقطوا صدام لتحقيق مآربهم، وليس لاستبدال حُكمِ سني بآخر شيعي، وإنْ بدا ما جرى من عوارض مرحلةٍ ولّت. عندها، سيُعتبر ما كان يَجري من مشاكل أمنيّة، بما فيها حين كان العراقيون يخسرون ألف قتيل في الشهر، في أيّام التفجيرات الانتحارية الدامية، مجرّد أحداث عابرة مقارنةً بما سيجري. وسيفتح ذلك الطريق أمام ترسيخ الحالة الانفصالية في إقليم كردستان الذي سيستفيد من أيّ اقتتال شيعي – شيعي ليصبح واحة الأمان والازدهار في العراق، والبوابة الواسعة للتطبيع مع إسرائيل. وسيتعزّز توازياً، التدخّل الخارجي التركي والخليجي عبر وكلاء الداخل، وستنكشف مناطق نفوذ لهذا الطرف أو ذاك، في محافظات الوسط والجنوب.

مقتدى الصدر الذي أكّد مراراً أن الاقتتال بين الشيعة لن يحصل، وقدّم – في الأساس – انسحابه من العملية السياسية تحت عنوان تجنّب هذا الاقتتال، يَعرف تماماً أن أحداً من الفريقَين لن ينتصر فيه إذا حصل. كما أن الحالة التي يمثّلها، هي حالةٌ جماهيرية أكثر منها حالةً عسكرية، وهو الذي يَرفع شعار «نزع سلاح الميليشيات»، بغضّ النظر عن الخلاف حول تصنيف مَن هو «ميليشيا»، ومَن هو «تشكيل عسكري شرعي».
ولم يخرج اقتحام مجلس النواب الأسبوع الماضي، ولا ما يجري حالياً من اعتصام مفتوح في داخله، لإسقاط ترشيح «الإطار التنسيقي» محمد شياع السوداني لرئاسة الوزراء، عن التحرّكات النمطية لـ«التيار الصدري»، التي بدت منضبطة، وتَستخدم في الشكل أسلوباً مشروعاً في المبدأ، هو التظاهر السلمي لإيصال الرسائل.
أكثر من ذلك، ليس لدى الصدر مشكلة مع كلّ قوى «الإطار التنسيقي»؛ وهو حاول، خلال أشهر المفاوضات الفاشلة على تشكيل الحكومة في أعقاب انتخابات تشرين الأوّل، حصْر مشكلته مع رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي يعتبره أحد عناوين حكومات المحاصصة التي يرفض العودة إليها، واستمالة أطراف أخرى من الإطار إليه. إلّا أنه اصطدم بواقع أن «ائتلاف دولة القانون» الذي يتزعّمه المالكي، هو ثاني أكبر كتلة شيعية في البرلمان بعد كتلته، وهو، أي المالكي، صار متخصّصاً بالوصول إلى الحكم من الموقع الثاني، لا الأوّل. وإذا كان استخدام الأدوات الدستورية، بما فيها التعطيل، مشروعة لمنع الاستئثار بالحكم من قِبَل طرف ودفْع البلد في اتجاهات تؤثّر على موقعه الطبيعي، إلّا أن الإمعان في استخدامها لتحقيق طموحات شخصيّة يصبح وبالاً على الجهة التي تقوم بذلك. لهذا، يتعيّن على قوى «الإطار التنسيقي» أن تميّز بين الأمرين.

المشكلة، الآن، تتلخّص في الطموحات الزائدة لكلٍّ من الصدر والمالكي. فالأوّل رأى في نتائج الانتخابات الأخيرة التي أعطته 73 نائباً في البرلمان المؤلّف من 329 مقعداً، فرصةَ لاختصار تمثيل الشيعة في شخصه. وإذا كان قد قبِل بانضمام فصائل شيعية أخرى إلى الحكومة، فهو أراد هذه المشاركة شكلية، أكثر منها فعلية؛ بينما استغلّ الثاني رفْض الفصائل الشيعية الأخرى هذه المشاركة الشكلية، ليطرح نفسه بديلاً، باعتبار أنه يملك العدد الأكبر من النواب بين فصائل «الإطار التنسيقي»، ما يجعل هذه الفصائل محرجة في رفض ترشيحه، أو ترشيح مَن يمثله لرئاسة الوزراء. وهكذا، جاء ترشيح السوداني الذي تولّى مناصب وزارية عديدة في حكومة المالكي الثانية، وكان عضواً في «حزب الدعوة» الذي يتزعّمه الأخير، الأمر الذي اعتبره الصدريون استفزازاً لهم، ودفعهم إلى التحرّك على نحو مفاجئ، علماً أن تحرّكهم هذا كان مؤجلاً، إلى ما بعد تشكيل الحكومة من قِبَل «الإطار التنسيقي»، وفشلها، وفق تَوقُّع التيار.
لم يَعُد من الممكن الخروج من الأزمة الحالية في العراق، إلّا بإعادة ترتيب وضْع المكوّن الشيعي بالكامل، وفق الأوزان التي أفرزتها الانتخابات الماضية، أو تلك التي تفرزها انتخابات جديدة تتّفق الأطراف على إجرائها، بعد التفاهم على قانون جديد للانتخابات، وخاصة على طريقة فرز الأصوات، بعدما كان الفرز الإلكتروني السبب الأوّل في الاعتراض على نتائج العملية الأخيرة. ولكنّ النقطة التي وصلت إليها الأوضاع، أعادت بالفعل تعديل ميزان القوى لمصلحة الصدر. فشعار الإصلاح الذي يرفعه، يحظى بشعبية جارفة في البلاد، بسبب الفساد المستشري، كما أنه نجح في إظهار إصرار الفريق الشيعي الآخر على الحكومات التوافقية، على أنه تمسّك بصيغ حكومات المحاصصة السابقة. وجاءت التسريبات المنسوبة إلى المالكي لتوجّه ضربة إلى صورته، وتُضعِف موقعه، ثم أتى حمله البندقية أيضاً، ليظهره في صورة المستعدّ للقتال، ما زاد في الإساءة إليه.

وإعادة ترتيب الوضع الشيعي، لا يمكن أن تحصل من دون توافق داخل المكوّن على موقع العراق الإقليمي، وهو عامل حاسم في استقرار الحُكم والبلد، وهو ما كان الصدر قد بعث برسائل واضحة إلى أنه يأخذه في الحسبان. ولذلك، يتواجد في بغداد حالياً قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال إسماعيل قاآني، للبحث في الوضع المتأزّم مع كل الأطراف، ولا سيما أن طهران تعتبر الاقتتال الشيعي، خطّاً أحمر، ويكفيها الاستهداف الأمني المباشر الذي ينطلق ضدّها من إقليم كردستان، وكذلك المخاطر المتأتّية من التدخّل الخليجي الذي تتزايد مظاهره، بالاتفاق مع الأميركيين، وآخرها اتفاق الربط الكهربائي الخليجي مع العراق، كما التدخّل العسكري التركي في الشمال، فيما ظهر التهليل السعودي والإماراتي لما يجري في العراق، سريعاً على وسائل التواصل الاجتماعي، مع تحريض الصدر على عدم التراجع.
ما يتبقّى هو إيجاد صيغة لحكومة عراقية تأخذ في الحسبان مطالب الصدر، وهواجس الآخرين، والتوازن القائم بين الطرفين، حيث يتمتّع الصدر بقوّة شعبية لا تُضاهى، بينما يملك الفريق الآخر قوّة عسكرية تضعه في موقع قوي، إذا ما ذهبت الأمور إلى مواجهة مسلّحة. ولذلك، قد تطول الأزمة الحالية، لكنها قد لا تتحوّل – بالضرورة – إلى نزاع مسلح.