تعتبر البرغماتية هي التوجه الرئيسي الذي يحكم العلاقات الدولية بشكل عام، فكل الدول -مهما اختلفت مبادئها واهدافها وحتى حجمها- تكرس كل الوسائل الممكنة لحماية مصالحها القومية. ولهذا، يمكن القول بأن البرغماتية هي إحدى محركات السياسية الخارجية. تتسم العلاقات الجزائرية الإيرانية بمجموعة من المبادئ والأهداف الثابتة ضمن سياساتها الخارجية. اذ ترتكز هذه العلاقات على تعاون سياسي واقتصادي وثقافي، ويبدو انه تطور ليكون رابطاً استراتيجياً منسقاً حول جملة من الأهداف الموحدة، والمواقف الحاسمة، تجاه القضايا الحساسة التي تهم العالم العربي والإسلامي، ويبدو أنّ بوابته الرئيسية هي الشراكة المزدوجة في كل منطقة الشرق الاوسط. يكفي التأكيد هنا، على جملة من المواقف الثنائية تجاه سوريا مثلا، حين اعترض الطرفان الجزائري والإيراني على قرار منظمة التعاون الإسلامي القاضي بتعليق عضوية سوريا في 2012، على خلفية الاحداث الدموية التي حصلت في البلاد. من جانب اخر لم تتردد الجزائر في تقديم الدعم الثابت لإيران في حقها في تطوير مجال التكنولوجيا النووية، ومواجهتها للعقوبات وسياسة الحصار المفروضة من الغرب.
لم تتوقف السياسة الخارجية الإيرانية عن الإشادة بالمواقف الجزائرية في عدة ملفات، كمنع انضمام الكيان المؤقت الى الاتحاد الافريقي وابطال كل المحاولات لتفعيل ذلك الامر. من الطبيعي ان يحدث هذا التقارب بين البلدين حالة من القلق لدى الخصوم والاعداء، فقد أبدت المغرب قلقها من هذا التقارب الذي اعتبرته في كل المراحل استفزازياً لسياستها وخياراتها، خاصة بعد ان شهدت علاقتها بإيران حالة من الفتور أدت الى قطع العلاقات الدبلوماسية وغلق السفارات منذ بضعة سنوات تلتها الازمة الدبلوماسية المتجددة مع الجزائر والتي أدت أيضاً لقطع العلاقات. فكان العنوان الذي روجت له المغرب، والذي كشف عن قلقها الجدي، هو ان تطور العلاقات بين الجزائر وإيران جاء على خلفية التطبيع العلني بين المغرب والكيان المؤقت. وما دعم هذه الفكرة وقام بالترويج لها، هو الحضور الاسرائيلي في المغرب والذي شنّ حملة على الجزائر وشكّك بسياستها واتهمها علنا بتهديد الامن القومي المغربي بسبب ما اسماه “التوافق الإيراني-الجزائري” في المنطقة.
بطبيعة الحال يشكّل التقارب الجزائري الإيراني، تهديدا للمصالح المغربية-الإسرائيلية، والاّ، لماذا تقلق المغرب ويتهيأ الكيان المؤقت لمواجهة أي تطورات في هذه العلاقة. بات عنوان “توحيد السياسة الخارجية” الذي جمع بين الطرفين المغربي والإسرائيلي، في كيفية مواجهة الجزائر وتحالفاتها الإقليمية (منها التقارب مع إيران) التي تشكّل تهديدا وجوديا بالنسبة للطرفين المطبعين.
وسط تصاعد التوترات بين الجزائر والمغرب، مع التكهنات التي أطلقها بعض المراقبين باحتمال اندلاع صراع بين الجانبين. قام وزير الحرب الإسرائيلي، بيني غانتس، بزيارة رسمية إلى الرباط لتوقيع العديد من اتفاقيات التعاون الأمني والعسكري، ولم يكتف بذلك، بل عمد وبشكل مباشر لشن حملة على الجزائر متهما إياها بالسعي لتهديد امن المغرب واستقراره، مشيرا الى أن الكيان يتطلع الى إقامة قاعدة عسكرية في المغرب. كان واضحا انّ هذا الإعلان الإسرائيلي، يتجاوز الاتفاق الذي توسطت فيه الولايات المتحدة والذي تعتبره بعض الأوساط الأوروبية تهديدًا أمنيًا محتملاً، قد يستفز المناهضين لهذا الاتفاق لتحدث الكارثة.
لم يتردد قادة الكيان الاسرائيلي في الإفصاح عن قلقهم من التقارب الجزائري الإيراني، والتعاون المشترك الذي يعتبرونه تهديدا واضحا لمصالحهم في شمال افريقيا، إضافة الى انه من وجهة نظرهم يسمح لإيران بالتمدد والتسلل الى هذه الدول.
الجزائر هي واحدة من الدول العربية القليلة التي حافظت على موقف مؤيد للفلسطينيين ومناهض للصهيونية. واصفة كل تطبيع مع الكيان المؤقت بانه خيانة للقضية الفلسطينية وبأنه عمل “غير مسؤول”. ويكفي ان يلتقي الطرفان الإيراني والجزائري على هذا الموقف ليكون بحق عنوان مواجهة مع الكيان المؤقت ومريديه. فكان من الطبيعي توقع تعاون سياسي وعسكري أوثق مع إيران في الحاضر والمستقبل، ليتناقض مع زيادة نفوذ وأنشطة الكيان المؤقت في المغرب.
يدخل التطور في العلاقات الثنائية بين الجزائر وإيران في اٍطار الشراكة المزدوجة التي تعمل على تشبيك المصالح السياسية والاقتصادية بأبعادها الاستراتيجية والجيوسياسية، دون الدخول في تفاصيل خيارات كل دولة وتوجهاتها، حيث ظهرت هذه الشراكة كعنوان تحالف غير معلن ولكنه موجود ومتماسك، قوامه شراكة في الامن والاقتصاد بمقتضيات المصلحة والمنطقة. ولان الجزائر” دولة فاعلة في إقليم متحرك”، كما “إيران دولة مؤثرة في الإقليم”، فمن الطبيعي ان تجتمع الرؤى وتتشابك المصالح في هذا الإطار.
لابد من التأكيد هنا، انه لا يمكن التركيز في هذا التقارب الجزائري-الإيراني، بعيدا عن مفاعيل الاتفاقيات بين إيران وروسيا من جهة، الارتباط الاستراتيجي بين الجزائر وروسيا من جهة، وإعادة تموضع تركيا في هذا التوافق الروسي-الإيراني، او الجزائري -الروسي من جهة اخرى، وانعكاسات مثل هذه التحولات على إيران في مجالها وعلى الجزائر في مجالها (كتثبيت الوضع في تونس واحتواء ازمتها المتفاقمة، وحلحلة الملف الليبي دون تصور انخراط جزائري يتجاوز العنوان الكبير للملف لكن مع اعتبار أن الجزائر تعمل على حماية أمنها القومي فيه)، بالإضافة إلى أن معركة الغاز لم تحسم بعد وبالتالي تبقى الجزائر على القدر الحالي من الانخراط في لعبة الغاز. لا يمكن للجزائر الانخراط أكثر ما دامت معالم المواجهة غير واضحة (خاصة لجهة تركيا ومدى التزامها بالاتفاقيات).
السؤال هو: على ماذا يمكن ان يلتقي الإيراني والجزائري في هذا الإطار؟ نعتقد بأنّ الشراكة المزدوجة وتطبيقها ملفات كثيرة في المنطقة قادرة على كشف هذه الشراكة المزدوجة وتفعيلها أكثر.
فيما يتعلق بالعلاقة بين روسيا وإيران وتركيا ودخول الجزائر على خط التواصل مع سوريا، واحداثياتها في الأيام الأخيرة يبدو أنّ:
1- مركز التفاهم الثنائي بين الجزائر وإيران هو سوريا، التي تطورت بشكل ملحوظ، على الرغم من ان الجزائر لم تتوقف يوما عن مساندة ودعم الدولة السورية في حربها الشرسة على الإرهاب طيلة العشر سنوات الماضية، وهي اليوم تجدد هذا الدعم بالتمسك بعودة سوريا للحضن العربي من خلال عودة عضويتها للجامعة العربية. يتجدد الدعم الجزائري بتبادل الزيارات الدبلوماسية الرسمية لتأكيد الدعم واختراق الحصار الدولي المفروض على سوريا والمطالبة برفع العقوبات الدولية عليها.
في هذا السياق، يبدو مناخ العلاقات الجزائرية الإيرانية متناغم جدا مع الخيارات السياسية التي تدعم القضية السورية.
من المهم التأكيد على أنّ الأكثر أهمية في هذه المرحلة من العلاقات الجزائرية الإيرانية، هو تطورها وفق مناخ تنسيقي ثابت بين قطبين مؤثرين، كل في موقعه الجغرافي والإقليمي والاستراتيجي.
2- الحركة تبدو أكثر وضوحاً في الشراكة المزدوجة، التي يجب أن تتوسع في منطقة المغرب العربي وشمال افريقيا، والبوابة في هذا الإطار هي تشريك الجانب التركي (الذي يقوم بإعادة تموضع الان وفقا لمصالح جديدة، ووفقا لمتغيرات متحولة)، وتشبيك المصالح مع الجانب المصري المشارك في الملف الليبي. بالتأكيد هنا يختصر الملف الليبي سلوك إيران والجزائر في التقارب.
3- الجزائر بارتباطها الاستراتيجي مع إيران، وبعلاقتها الجيدة مع مصر، وضم شراكتها الاقتصادية الحالية مع تركيا، ستكون عنصرا فاعلا ومسهّلا في كل الملفات، وقد يسمح لها موقعها الحالي بلعب دور أساسي في الازمات، وحتى في لعب دور الوساطة في بعض الخلافات والاشكالات الدبلوماسية.
4- تدير الجزائر-بفضل ارتباطها الاستراتيجي والأمني والعسكري مع روسيا-التقدم الروسي الصيني في افريقيا، وهذا يزعج الأمريكي بشكل أساسي، إضافة الى أنه يقلق الفرنسي ويربك مصالحه. قد يكون التحرك الجزائري الفعال في افريقيا (شمالها تحديدا) مؤشرا إضافيا، يدعم انخراط إيران في شراكة مفتوحة في المنطقة.
5-تعمل الجزائر على احتواء ثم مواجهة التقدم الإسرائيلي في إقليمها المغاربي/ شمال افريقيا، بالتنسيق مع جارها التونسي، وهذا يخدم أجندة المواجهة الواسعة التي تدعمها إيران من البوابة الأخرى في المنطقة.
بالتأكيد العلاقات الثنائية تحكمها المصالح المشتركة بين الدولتين بعناوينها المختلفة، وما يبدو اليوم غامضا نوع ما، من المؤكد ان مفاعيله ستنكشف وفقا لتحرك مسار الاحداث وتغيرها. هذه العلاقة بين الجزائر وإيران تحكمها اليوم عملية تشبيك واسعة ليس فقط في المصالح الاقتصادية التي قد تخدم الطرفين، بل تتخطاها الى تشبيك على مستوى أوسع في شراكة مزدوجة في كل منطقة الشرق الأوسط، وهذه الشراكة تخدم مصلحة الطرفين (كفاعلين اقليميين هامين ومؤثرين بشكل مباشر في المنطقة)، حيث تتحقق الأهداف المشتركة دون ان ينخرط كل طرف بتفاصيل ومعطيات قد تكون سببا في احداث اختراق معين او حساسية معينة. فلكل طرف توجهاته الخاصة به، لكن يكفي الالتقاء الجدي والثابت حول عناوين واضحة كمقاومة التطبيع ومشاريع الغرب المدمرة، والمؤامرات التي تمس بالأمن القومي وبسيادة دول المنطقة، وكل الملفات المتعلقة بالشراكة الاقتصادية وسوق الطاقة (الغاز والنفط)، والتنسيق الأمني والعسكري، وحماية المصالح المشتركة.
الكاتب: الخنادق