فيما كان الهدوء يعود إلى المنطقة الخضراء، ليل الأربعاء، بعد أن انسحب أنصار زعيم «التيّار الصدري»، مقتدى الصدر، من مبنى مجلس النواب، الذي اقتحموه احتجاجاً على ترشيح «الإطار التنسيقي»، محمد شياع السوداني، لمنصب رئيس الوزراء، اعتبر الصدر أن رسالة الشارع قد وصلت بعدما «أرعبت الفاسدين»، واصفاً تحرّكات أنصاره بأنها «ثورة إصلاح ورفض للضيم والفساد». وتقول مصادر قريبة من «الصدري»، لـ«الأخبار» إن «الرهان على إقصاء التّيار من المعادلة السياسية العراقية هو رهان خاسر»، مضيفة أن سحْب الصدر نوّاب كتلته من البرلمان «لا يعني ترْك الساحة أمام القوى السياسية الفاسدة لترسيخ فسادها»، متحدّثة عن نيّة «تشكيل تَوجّه شعبي ضاغط يضمّ كافة ألوان الطيف العراقي، يكون جمهور الصدري جزءاً منه، لتعديل موازين القوى السياسية في البلاد بعد انسحاب التيّار من مجلس النوّاب».
في المقابل، كانت رسالة الصدر الليلية محلّ قراءة واهتمام لدى القوى السياسية المنخرطة في مخاض تشكيل الحكومة، والتي واجهت جهودها المُتوَّجة بتسمية السوداني، أوّل اختبار في الشارع. وترى مصادر سياسية قريبة من «الإطار التنسيقي»، في حديث إلى «الأخبار»، أن اقتحام المتظاهرين «المنطقة الخضراء» شديدة التحصين في قلْب بغداد، حيث أسقطوا الجدران المحيطة بالمنطقة، وتجاوزوا نقاط التفتيش والحواجز الأمنية، وتوجّهوا مباشرة إلى مقرّ مجلس النواب، من دون عراقيل أو مقاومة تُذكر من القوى الأمنية المولَجة حماية المنطقة التي تضمّ مؤسسات حكومية وسفارات أجنبية، هو «أوّل تنسيق ميداني مشترك بين الصدر ورئيس حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي، مُرتبط بالصراع على تشكيل الحكومة مع الإطار التنسيقي»، معتبرةً أن «قرار الصدر، بعد سحْب نوابه من مجلس النواب، التوجّه إلى الشارع هو لمحاولة فرض أو عرقلة ما عجز عن فرضه أو عرقلته من داخل المجلس». وتضيف المصادر ذاتها أن الصدر بذلك يحاول إثناء «التنسيقي» عن المُضيّ قُدُماً في ترشيح السوداني، والإبقاء على حكومة تصريف الأعمال برئاسة الكاظمي لأطول فترة ممكنة، في ظلّ الانشغال الأميركي بأزمة أسعار الطاقة التي اشتعلت مع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، ومحاولة واشنطن إعادة ترتيب البيت الأوروبي بما يضمن رصّ صفوف حلفائها في مواجهة روسيا. وتَلفت المصادر إلى رهان الصدر على تفضيل طهران الوضع الحالي على الاقتتال الشيعي – الشيعي، ما يجعل من «الاستعراض في الشارع رسالة في هذا الاتجاه».

ولا يبدو أن الوقت عامل ضاغط على الصدر، على عكْس خصومه في «التنسيقي». لذا، يتشدّد الرجُل في عدم منحهم أيّ تنازلات من شأنها أن تفْتح ثغرات في جدار الأزمة. ومن هذا المنطلق، أعلن الصدر، من خلال اقتحام أنصاره البرلمان، رفضه تسمية السوداني، وأراد لرسالته هذه أن تفتح مساراً جديداً في البلاد يكون الشارع جزءاً أساسياً وحاكماً منه، خصوصاً مع إصرار الأطراف المواجِهة للرجل على رفض مقترحاته الأخيرة للحلّ، وعلى رأسها تسمية محمد جعفر الصدر لرئاسة الحكومة، باعتبارها «وصفات أميركية – بريطانية جاهزة». لكن لـ«التنسيقي» قراءة قد تكون معاكسة؛ إذ تَعتبر مصادره أن ما جرى في «الخضراء» هو في حقيقته «تصعيد من قِبَل الصدر الذي لم يَعُد يمتلك ذراعاً سياسية لترجمة مطالبه داخل مؤسّسات الدولة. أمّا إذا كان التوجّه العام هو استنساخ تجربة ثورة تشرين، أي عبر استخدام الشارع بشكل كامل وعنيف بصرف النظر عن وجود قوى سياسية تُترجم أجندته إلى برنامج سياسي، فدُونه الكثير من المتغيّرات التي طرأت على المشهد منذ تشرين الثاني 2019 حتى اليوم، أهمّها صعود قوى سياسية بظهير شعبي وازن»، وفق حديث المصادر نفسها. إلّا أنه بمعزل عن ذلك التقدير، يمكن القول إن الصدر، الذي رفض أيّ حلول أو صيَغ للحُكم لا يكون هو المتحكّم الوحيد بها، يخاطِر مع كلّ تصعيد يقوم به، بخسارة تعاطف مَن كانوا لا يزالون يقفون إلى جانبه، خصوصاً إذا ما بلغت الأمور مبْلغاً استدعى تدخّلاً قوياً ومتعدّد المصادر لمنْع سيناريوات قاتمة. وفي هذا الصدد، علمت «الأخبار» أن اتّصالاً لتهدئة الأوضاع تلقّاه الصدر من مكتب المرجع الديني الأعلى في العراق، علي السيستاني، علماً أن واقعة الاقتحام كانت انتهت بتغريدة لزعيم «التيار الصدري» طلب فيها من أنصاره صلاة ركعتين، وإخلاء الساحات والعودة من حيث أتوا.

في الأثناء، تتوقّع مصادر سياسية مطّلعة أن يعود الهدوء إلى الساحة من جديد، لتُعاود الأطراف اتّصالاتها من أجل استكمال التنسيق بشأن المرحلة المقبلة. وتَلفت المصادر، في حديث إلى «الأخبار»، إلى تمسّك «التنسيقي» بترشيح السوداني، الذي تقول هذه القوى إنه «يحظى بإجماع شيعي عراقي شامل، باستثناء الصدر». وفيما لم تَظهر إشارات إلى الآن إلى نيّة «الإطار» التراجُع، لم يبدِ السوداني نفسه أي نيّة للانسحاب من السباق الحكومي، كما لم يتأثّر برسالة «الشارع الصدري». وعليه، تَخلص المصادر إلى أنه «عندما يُكلَّف رئيس الجمهورية سيُكلَّف رئيس الوزراء»، بمعنى أن الكرة أصبحت الآن في الملعب الكردي، حيث يَنتظر «التنسيقي» اجتماع القوى الكردية والاتفاق على اسم مرشّحها لرئاسة الجمهورية، كاشفة أنه إذا تعذَّر توافُق الأكراد على اسم معيّن، فإن «التنسيقي» سيدعم مرشّح حزب «الاتحاد الوطني الكردستاني» على حساب مرشّح «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، للانتهاء من الاستحقاق الدستوري الذي طال أمده.