في هذه النقطة، ينبغي التفريق بين العوامل والمؤثرات، وهي موضع تباين لدى البعض، ومجرد إنكار للواقع على خلفية العداء لحزب الله لدى بعض آخر.
تتبلور قرارات إسرائيل وأفعالها وفقاً لمصالحها هي مع محدّدات تضبط هذه القرارات، تتمثّل أساساً في القدرة الفعلية على تحقيق هذه المصالح، وفي الأثمان التي ستتكبّدها. وكلما ارتفع الثمن يتقلّص هامش المناورة. والنزاع البحري مع لبنان لا يخرج عن هذه المعادلة. فقدرة حزب الله على إلحاق أذى لا ينكر العدو أنه كبير جداً، هو ما يؤثر في القرارات الإسرائيلية، ولا علاقة لذلك بقدرة العدو على إيذاء لبنان، خصوصاً أن العدو يدرك جدّية حزب الله واستعداده للذهاب بعيداً في تنفيذ تهديداته، ما لم ينتزع من إسرائيل والولايات المتحدة حق لبنان في غازه ونفطه.
وفي ما يتعلق بالأثمان نفسها، ليس التصعيد وصولاً إلى الحرب تهديداً يتعلق فقط بالمواقع والأهداف العسكرية والجبهة الداخلية الإسرائيلية بمفهومها الموسع، بل أضيفت إليها، وعلى رأسها، المقدرات الغازية والنفطية في البحر والساحل والبر، وهي مقدرات قد تعادل تأثيراتها على إسرائيل تأثيرات الجبهة الداخلية. وللإيضاح، استهداف حزب الله هذه المقدرات قد يؤدي إلى أضرار تصل تأثيراتها على إسرائيل إلى حد تعادل فيه الأضرار التي يمكن أن تلحقها بلبنان، خصوصاً إذا حتدمت المواجهة وصولاً إلى الحرب. وهو تطور أضيف إلى المعادلة ويستحق التأمل.
والأضرار لن تقتصر على الجانب الإسرائيلي في مقدراته النفطية والغازية، بل تؤثر في مصالح جهات إقليمية ودولية، وهو عامل مؤثر إضافي في قرارات إسرائيل التي ستتعرّض لضغط خارجي من أجل إيجاد مخارج للأزمة، في ظل تأكّد هذه الجهات من جدية حزب الله، خصوصاً أن الرهانات على إمكان دفعه إلى الانكفاء باتت متدنية جداً.
المعنى؟ مصلحة إسرائيل الآن تكمن في منع الإضرار بها استراتيجياً، وليس المبادرة إلى مزيد من المكاسب في وجه لبنان، وهو تطور لم يلحظه كثيرون. هذه هي النتيجة الأكثر رجحاناً ومنطقية، وهو ما يستدل عليه من المواقف والتصريحات والأفعال، في تل أبيب وواشنطن، بل إن منطقيتها قد تصل إلى دفع إسرائيل، إذا لزم الأمر، للرضوخ لشروط حزب الله بشكل كامل.
لكن ذلك لا يعني، في المقابل، أن إسرائيل والولايات المتحدة، معنيتان بالمسارعة إلى الرضوخ. وفي هذه النقطة تحديداً، تباينات وتناقضات، ينبغي إيضاحها:
يفترض، بمستوى عال من الترجيح، أن يكون قرار تل أبيب وواشنطن فعل كل ما يلزم لمنع التصعيد فالحرب، وفي الوقت نفسه، فعل كل ما يلزم للتقليل من حجم التنازل والرضوخ لمطالب حزب الله.
في الوقت نفسه، ستكون إسرائيل معنية بأن لا تؤجل استخراج الغاز من حقل «كاريش» عن موعده المقرر في أيلول المقبل، وإلا ستكون النتائج كارثية عليها، وتمتد في تأثيراتها السلبية على مجمل ميزان القوة والردع والمعادلات البينية المختلفة مع حزب الله، بما لا تقوى على تحمّله.
وحتى موعد الاستحقاق، يُرجح أن يحمل «الوسيط» الأميركي عاموس هوكشتين ما يتساوق مع هذين المحددين، وبما لا يحتم على حزب الله المبادرة الميدانية للإضرار بالقطاع الغازي لإسرائيل، وذلك عبر الامتناع عن قول «لا»، والإكثار من قول «ولكن». أي أن إسرائيل تعلن عن «مرونتها» والاستجابة لطلبات لبنان (عملياً حزب الله) ، «لكنها» تتحفظ عن هذا وذاك من بنود. وهنا سيكون الرد غير سلبي وغير إيجابي في آن، على أن تتبعه ردود أخرى، من الآن وحتى موعد استحقاق التهديدات في أيلول.
الردّ الأول الذي سيحمله هوكشتين سيهدف إلى استكشاف ما إذا كان حزب الله في وارد التنازل، وإن نسبياً، واستكشاف مدى تأثير ضبابية الموقف الإسرائيلي والأميركي على موقف اللبنانيين، ومدى تأثير التهديدات التي أُرسلت إليهم، في العلن وفي السر، وإن كانت مجدية ومؤثرة في دفع الحزب إلى التنازل وإلى أي مدى.
كما ستكون إسرائيل معنية بسلة مطالب، في سياقات الحل، ومدى استعداد لبنان لتلبيتها. وهذا جزء لا يتجزأ من أهداف الرد الأول: اتفاق مكتوب؟ ضمانات أمنية للمنشآت الغازية؟ من هي الجهة الراعية للاتفاق؟ ما الذي يمكن أن يتضمّنه الاتفاق من بنود تطبيعية؟ وما الذي يمكن في المحصلة الحصول عليه من لبنان مقابل أي حل؟
إلا أن ما يعترض هذا الرد الاستكشافي، هو التقدير بأن رد حزب الله العملي على الرد الإسرائيلي الأميركي، المفترض أن يكون استكشافياً، سيتحدّد وفقاً لمضمون الرد نفسه. فإن كان تسويفياً أو احتيالياً أو مجرد استكشاف مباشر للموقف اللبناني، فإن من شأن ذلك أن يدفع حزب الله إلى الترقي درجة، وربما درجات، في تنفيذ تهديداته عملياً.
فهل يختزل الإسرائيلي والأميركي الخطوات ويرضخان سريعاً، وهو أمر مستبعد نسبياً، أم سيلجآن إلى استهلاك الوقت المتاح حتى أيلول، مع ما في ذلك من مخاطرة؟