رغم غرقها في الحرب الروسية – الأوكرانية، والانقسامات الداخليّة، والخوف المبرّر من شتاء قارس وشحّ في الغذاء، تستمر دول الاتحاد الأوروبي عموماً، وأوروبا الغربية خصوصاً، في سياسات العداء للبنان وسوريا والمنطقة.
ولا يبدو تبنّي أوروبا الكامل للمشروع الأميركي بدفع لبنان نحو الفوضى في لبنان سوى تعويض خاسر عن غياب الدور، وعجز غير مسبوق، وسوء فهمٍ للجوار الأوروبي، ما يعني عدم إدراكٍ لكون هذه الاستراتيجية تشكل مغامرة غير محسوبة لانعكاسات الفوضى في المشرق، على الأمن والسياسة والاقتصاد في القارة الباردة الواقعة تحت الهيمنة الأميركية.
قبل عملية المسيّرات غير المسلّحة قرب حقل كاريش، فوق البحر المحتل في 2 تموز الجاري، تكرّرت طلبات عواصم أوروبية من لبنان للقبول بالشروط الإسرائيلية – الأميركية في ملفّ ترسيم الحدود البحرية. كما هو الأمر بالنسبة إلى ضرورة موافقة لبنان على شروط الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وتكريس سياسة توطين اللاجئين السوريين والفلسطينيين في لبنان. وكان خطاب الأوروبيين ينتهي دوماً بتهديد لبنان بالجوع. وبعد العرض الذي حمله مبعوث الاتحاد الأوروبي سفين كوبمانز قبل فترة قصيرة، ها هو الموظف الهنغاري أوليفر فارهيلي، الذين يتولى دور مفوض الاتحاد الأوروبي لسياسات الجوار، والمعروف بأنه صهيونيّ الهوى، يمارس دوراً ترهيبياً للبنان، مكرراً نغمة ربط المساعدات للبنان بالتزامه القيام بـ«إصلاحات شاملة». حتى إن فارهيلي، خلال مناقشات للاتحاد الأوروبي أخيراً حول تقديم المساعدات لمجموعة من الدول، استكثر على لبنان مبلغ 20 مليون دولار، وسعى إلى خفض المبلغ، بدل رفعه والمساهمة في منع انهيار البلد. أمّا رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، فتزور مصر وفلسطين المحتلة لتوقيع اتفاقيات الشراكة ونقل الغاز، من دون أن تكلّف نفسها عناء السؤال عن أحوال بيروت ودمشق طالما أن الموارد مؤمّنة.
لكن الأوروبيين لم يتعلّموا من الدروس السابقة. وبين «غارة كاريش» إلى ما قبل دقائق من خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في 13 تموز الجاري، والذي أعلن فيه عزم المقاومة على استمرار المواجهة مهما كانت النتائج، تصاعد الخطاب الأوروبي، وانطلقت حملة تهويل باحتمال حربٍ إسرائيلية مدمّرة على لبنان. مع أن المتّصلين بالأوروبيين يسجلون وجود تفاوت في خطاب السفارات الأوروبية في بيروت، في اللهجة والشكل، لكن في العمق، كانت الروحية واحدة: قلقٌ وتهديد ومكابرة في آن.
ظهرت خطوة إرسال المسيّرات قرب منصّة الإنتاج «إنرجيان باور»، المخصصة لاستخراج الغاز الفلسطيني المسروق تمهيداً لنقله إلى أوروبا لتعويض نقص الغاز الروسي، كتهديد جدّي على خطة الأوروبيين للصمود خلال الأشهر المقبلة في ظلّ الإجراءات الروسية ضدهم. وزاد في الطين بلّة، أن عملية المسيّرات لم تكن العرقلة الوحيدة التي تعرّضت لها هذه الجهود. إذ إنه قبل حوالي شهر ونصف شهر، أصاب انفجار غامض واحداً من أكبر معامل تسييل الغاز في الولايات المتحدة، في ولاية تكساس، ما عرقل إلى حدّ جهود تجميع موارد الطاقة لأوروبا. إذ إن المعمل يؤمّن كميات كبيرة من الغاز لتنفيذ العقود التجارية لنقل الطاقة من أميركا إلى أوروبا.
وبينما كان في لبنان من ينتظر تغييراً في المقاربة الأوروبية، إلا أن المناخ دلّ على أنهم يتبنّون الرواية الإسرائيلية، رافضين الدخول في أي محاولة للضغط على واشنطن وتل أبيب لإيجاد حلّ يضمن حقوق لبنان لتفادي المعركة.
وتبيّن من الاتصالات التي جرت مع جهات أوروبية في لبنان أن الخطاب الأوروبي يتصرف من منطلق أن العدو لن يسكت على قيام حزب الله بتهديد استخراج الموارد من كاريش، وأن الحرب المقبلة ستكون مدمّرة للبنان الذي لن يجد من يساعده بعدها، بينما سيهرع العالم الغربي لمساعدة إسرائيل، وأن الحلّ الوحيد هو القبول بالتسوية الأميركية. إلّا أن أبرز نقاط الطرح الأوروبي هي أن اللبنانيين لا يريدون الحرب وسيحمّلون المقاومة نتيجة المعركة.
لم يأت الأوروبيون بالفكرة الأخيرة من فراغ، وإنّما من حفنة سياسيين لبنانيين يضعفون الموقف اللبناني، ويتوسّلون الحلول بأي ثمن، ولو على حساب حقوق شعبهم ومستقبله. تماماً، كما قدّم بعض السياسيين الضمانات والتعهدات بأن لبنان لن يقدم على أي «عمل مجنون» وأنه لا خوف على سفينة الاستخراج.
اليوم، يسود الصمت الأوروبي منذ الخطاب الأول. القلق من الحرب يتصاعد، ولا يزال الأوروبيون، حتى الآن (بانتظار مفاعيل مقابلة نصر الله على «الميادين»، والإجراءات العسكرية المستمرة للمقاومة في البر والبحر والجوّ)، غارقين في المكابرة.
الخيارات ليست واسعة أمام الأوروبيين. وإذا كان الهدف تعويض الغاز الروسي من الحوض الشرقي للبحر المتوسط، بإمكان أوروبا أن تتحمّل مسؤوليتها وتقوم بثلاثة أدوار أساسية لمنع الصدام الكبير وتجميد الفوضى في لبنان، ليس كرمى للبنان وحده، وإنّما للمصلحة الأوروبية المجرّدة.
الدور الأول، أن تقوم أوروبا بتكثيف اتصالاتها مع الأميركيين ومع العدو الإسرائيلي لإعطاء لبنان حقوقه، مع أن لبنان الرسمي أصلاً يطلب أقلّ من الحقّ اللبناني بكثير. إذ إن نيران المعركة لن تقتصر على حقل كاريش وتعطيل الاستخراج منه، ويمكن الاستنتاج من كلام نصر الله أول من أمس، بأنه لا غاز ولا نفط من البحر المتوسط، والأرجح من البحر الأحمر أيضاً، إذا لم يحصل لبنان على حقوقه. وهذا يعني أن أوروبا لن تصمد طويلاً أمام الضغوط الروسية، وسيتغير الموقف الشعبي الأوروبي بما يُسقط حكومات ويقسم دولاً، ويمنح الروس تفوقاً هائلاً في أوكرانيا والعمق الأوروبي.
أمّا الدور الثاني، فهو إسقاط مشروع توطين النازحين السوريين في لبنان. وهذا يتطلّب تواصلاً سياسياً ودبلوماسياً جاداً مع دمشق، ودعماً مالياً للبنان وسوريا وبذل الجهود لعودة النازحين إلى بيوتهم. فخطط ضبط البحر التي يستثمر الأوروبيون بها في الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية لمنع الهجرة غير الشرعية، لن تفلح طويلاً. وعما قريب، لن يتمكن أحد من ضبط البحر أمام الفوضى الأهلية العارمة في البلد، وستغرق الشواطئ الأوروبية باللاجئين من كل حدب وصوب.
أما الدور الثالث، فهو توقّف مسؤولين مثل فارهيلي وناشطين صهاينة آخرين في أروقة الاتحاد الأوروبي عن التحريض على لبنان، والتخلي عن شعارات ربط المساعدات للبنان بـ«الإصلاحات» والموقف السياسي، لأن موازين القوى لا تسمح للأوروبيين بفرض مطالبهم. الوقت يضيق.