يعود الوسيط الأميركي في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدو الإسرائيلي، عاموس هوكشتاين إلى لبنان حاملًا في جيبه الردّ الإسرائيلي على المقترحات اللبنانية الأخيرة التي تلت وصول باخرة الإستخراج اليونانية إلى حقل كاريش الشهر الماضي. المقترحات اللبنانية لم يتمّ التصريح عنها بشكل رسمي، لا نعلم الأسباب، إلا أن التسريبات الإعلامية تقول أنها مبنية على مبدأ حقل قانا مقابل حقل كاريش مع ضمانة التنقيب وإستخراج الغاز من الجانب اللبناني.
وهنا بدأت المراهنات على ما قد يحمله الوسيط الأميركي من ردّ إسرائيلي على المقترحات اللبنانية بالإضافة إلى الحديث عن مرحلة تفاوض «دقيقة» حيث أن إحتمال توقيع إتفاق قد يكون في شهر أيلول المُقبل برعاية أميركية. عوامل عديدة تصبّ في عملية إستعجال توقيع إتفاق على الحدود البحرية بين لبنان و»إسرائيل» وعلى رأسها الرغبة المحلّية للمسؤولين اللبنانيين بإيجاد مداخيل جديدة مع تفاقم الأزمة المالية، ورغبة الرئيس عون بتحقيق إنجاز في عهده، والإستعجال الإسرائيلي في إتجاه حلّ مشكلة الحدود البحرية مع لبنان خصوصًا أن المسيرات التي أطلقها حزب الله أخيرًا غيّرت في المسار التفاوضي، والرغبة الأوروبية في حلّ هذه المُشكلة للإستفادة من هذا الغاز مع التعقيدات التي فرضتها الأزمة الروسية – الأوكرانية على سوق الغاز الأوروبي، والرغبة الأميركية بتحقيق تقدم في هذا الملف.
عمليًا هناك سيناريوهات عديدة هذه أهمّها:
أولًا – موافقة إسرائيلية على مُقترحات لبنان وبالتالي سيكون هناك ترتيبات عملية لتوقيع الإتفاق، وبالتحديد نص الإتفاقية، على أن يكون التوقيع في غضون شهر أيلول المُقبل. هذا السيناريو الذي زادت إحتمالاته، مدعوم بتصريحات من عدة جهات على رأسها تصريح نائب رئيس المجلس النيابي الياس بو صعب الذي تحدّث عن إيجابية ولكن أيضًا تصريح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي تحدّث أيضًا عن إيجابيات في هذا الملف من دون إعطاء تفاصيل. وهو ما أكّده هوكشتاين عبر قوله أن «هناك عملية تقليص للفجوات في المفاوضات، وهناك إمكانية للوصول إلى اتفاق». أيضًا يأتي بيان وزارة الخارجية الأميركية ليدعم هذا السيناريو حيث ورد فيه: «ترحّب الإدارة الأميركية بروح التشاور والصراحة لدى الطرفين للتوصّل إلى قرار نهائي من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من الاستقرار والأمن والازدهار لكل من لبنان وإسرائيل، وللمنطقة بأسرها، ولا تزال تعتقد أن هذا الحلّ ممكن».
ثانيًا – مُشكلة السيناريو الأول هو أنه جميل جدًا ليكون حقيقيا، فبعض المعلومات المُسرّبة تقول أن إسرائيل تشترط على لبنان تعويضا عن الجزء الذي ستتخلّى عنه في حقل قانا (بحسب الخط 23) وهو ما يعني وضع لبنان رهينة بيدّ إسرائيل نظرًا إلى أنه لا يُمكن تأكيد وجود كميات الغاز الموعودة في حقل قانا من دون التنقيب عنها وتقييمها. وبالتالي وفي ظل هذا السيناريو، هناك تعقيدات قد تؤدّي إلى تأخير توقيع أي إتفاق خصوصًا إذا ما كان التعويض الذي يطالب به الكيان العبري كبيرا!
ثالثًا – تداخل عوامل إقليمية مؤثّرة خصوصًا الإصطفاف الحاصل بعد القمتين الأميركية – العربية، والروسية – التركية – الإيرانية. هذه العوامل قد تُعقّد أكثر من سيناريو إتفاق مع العدو الإسرائيلي خصوصًا إذا ما تفاقمت التحدّيات الثنائية بين روسيا والولايات المُتحدة الأميركية وبين الدول الإقليمية. الجدير ذكره أن روسيا الغاضبة من الكيان الإسرائيلي على موقفه من الأزمة الروسية – الأوكرانية، قررّت حلّ المجلس اليهودي الذي يعنى باليهود في روسيا وهو ما نتج عنه رحيل الاف اليهود من روسيا إلى إسرائيل. وبالتالي لا شيء يمنع وجود تعقيدات قد تُدّخلها روسيا على الملف من باب حصة شركة نوفاتك في اللعبة خصوصًا مع العقوبات الأميركية على روسيا. وبالتالي تأخير في توقيع الإتفاق إلى حين حلحلة بعض الملفات الإقليمية و/أو الدولية.
رابعًا – سيناريو تشاؤمي (قليل الإحتمال) ينص على إعتداء إسرائيلي على لبنان بهدف تعديل المعادلة التي فرضتها مسيرات حزب الله الأخيرة. وهو ما يعني فتح جبهة جديدة ستأخذ أبعادًا إقليمية مع تدخل أكثر من دولة في هذه الحرب وحتى دعم دولي للقوى المتصارعة على الأرض. هذا السيناريو يبقى قليل الإحتمال مع عدم رغبة الولايات المُتحدة الأميركية فتح جبهة جديدة وهي التي تنخرط بشكل كبير في جبهة أوكرانيا مع إحتمال فرض جبهة ثانية عليها – أي جبهة تايوان.
خامسًا – وجود حكومة تصريف أعمال في «إسرائيل» وهو ما يعني عدم قدرتها على إعطاء أجوبة على المقترحات اللبنانية والإكتفاء بوعود يُطلقها رئيس وزراء العدو. وبالتالي قد يتأخر سيناريو التوقيع إلى حين تشكيل إئتلاف حكومي جديد في «إسرائيل».
إذَا ومما تقدّم نرى أنه على الرغم من الإيجابيات التي ترجّحها التصاريح اللبنانية والأميركية والإسرائيلية، لا يزال هناك غموض على صعيد النتائج وهو ما يفرض الحذر والحدّ من التفاؤل المُفرط الذي ينتاب البعض في لبنان. على كل الأحوال عودة هوكشتاين إلى لبنان تعني إشارة الإنطلاق لمحادثات غير مباشرة بين لبنان و»إسرائيل» في الناقورة برعاية الأمم المُتحدة ووساطة أميركية تسعى من خلالها الولايات المُتحدة الأميركية إلى خلق خط أزرق بحري مؤقت لتسهيل بدء إستخراج الغاز.
بالطبع يمتلك الأميركيون وسائل ضغط كبيرة على الجانبين اللبناني والإسرائيلي ولعل لبنان سيكون الأكثر عرضة للإستسلام لهذه الوسائل نظرًا إلى وضعه الإقتصادي المذري. ونذكر من هذه الوسائل تسهيل إستجرار الغاز والكهرباء من مصر والأردن وتمويل البنك الدولي للبنان لشراء القمح وغيره من الإحتياجات الأساسية.
شلّل دولي قد ينتج عنه صراعات
الأزمة الروسية – الأوكرانية وما خلّفته من إنقسام على الصعيد الدولي بين مؤيّد لروسيا ومعارض لدخولها أوكرانيا، فرض واقعًا دوليًا جديدًا يتمثّل بفراغ على صعيد مركز القرار الدولي – أي مجلس الأمن. فبغض النظر عن نوع الموضوع أو القرار الذي يُعرض على طاولة المجلس، هناك فيتو حتمي من أحد الأفرقاء يشلّ عمل مجلس الأمن. من هذا المُنطلق نرى أن هناك العديد من المناطق التي قد تشهد بروز صراعات وعلى رأسها مواجهة بين الصين وتايوان، وأخرى بين تركيا وسوريا… وهو ما يعني أن بعض الدول قد تستفيد من غياب أو شللّ مجلس الأمن وإنشغال القوتين العظمتين الولايات المُتحدة الأميركية وروسيا بجمع حلفاء، لفرض معادلات ميدانية جديدة على الأرض.
سوريًا، تُحاول تركيا فرض معادلة جديدة في الشمال السوري يُلبي تطلعاتها وأهدافها الجيوسياسية خصوصًا أنها تُحاول الإستفادة من الفراغ الذي خلّفه الإنسحاب الأميركي من الشمال السوري تاركًا خلفه حليفا أساسيا – قوات سوريا الديموقراطية – التي قاتلت داعش بشراسة. إلا أن تركيا التي ترى في هذه القوات خطرا عليها قامت حتى الساعة بعمليات للحد من قدرات هذه القوات وضرب حزب العمال الكردستاني الذي يسعى إلى توحيد المناطق الكردية في عدة دول ضمن دولة كردية. ولهذا تسعى تركيا إلى خلق منطقة عزل تمتد مسافة 30 كلم داخل الحدود السورية تسمح لها بالدخول إلى منطقة الأكراد التي أعلنت إنفصالها عن سوريا. وبحسب المعلومات المتداولة، فإن مشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في القمة الثلاثية التي ضمّت كلًا من الرئيس الروسي والرئيس الإيراني والرئيس التركي أتت للحصول على ضوء أخضر من روسيا للقيام بهذه العملية – أي خلق منطقة معزولة بمسافة 30 كم داخل الأراضي السورية. ويتطلّع أردوغان إلى الإستفادة من الفراغ الحاصل مع تعثّر المفاوضات النووية الإيرانية ومسعى إيران إلى الحصول على دعم دول أخرى، وكذلك وضع روسيا على صعيد الأزمة مع أوكرانيا التي تسعى إلى الحصول على دعم أكبر عدد من الدول في مواجهة التكتل الغربي.
أما على الصعيد الصيني، فقد وجّهت الصين تحذيرًا شديد اللهجة إلى الولايات المُتحدة الأميركية من أي محاولة لفصل تايوان عن الصين وجعلها دولة مُستقلة وهو ما سيؤدّي إلى عمل عسكري. وإزداد التوتر مع إعلان رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي عزمها زيارة تايوان وهو ما تعتبره الصين «إستفزازًا خبيثا ضد سيادة الصين». إلا أن الأخطر في العملية هو أن القوات الأميركية سترافق رئيسة مجلس النواب في زيارتها وذلك لتأمين حمايتها وهو ما قد يُسبّب تصعيدًا إضافيًا قد يكون له تداعيات عسكرية خصوصًا أن الصين حذّرت من أنها قد تلجأ إلى عمل عسكري لقواتها.
لبنان يعيش في فراغ مؤقّت
في هذا الوقت يعيش لبنان في فراغ مؤقّت حيث وبإستثناء ملف ترسيم الحدود مع العدو الإسرائيلي، لا يستطيع هذا البلد حكم نفسه بنفسه من دون إملاءات خارجية سواء غربية أو شرقية. وهو ما يُمكن ملاحظته من خلال الأهمية التي تعطيها القوى السياسية لزيارة أي مسؤول خارجي على مثال زيارة المبعوث الفرنسي دوكان الذي يتصرف بحسب بعض الذين إلتقى بهم كأنه مفوض سامي على لبنان. وبحسب أحد الحاضرين في إجتماعته، تكلم دوكان مع الحاضرين بلغة التهديد والوعيد ووصل به الأمر إلى حد رفع صوته!
هذا الفراغ والثبات الناتج عن الصراعات الداخلية على السلطة والعجز الكامل على إدارة البلد، تحوّل إلى كابوس على المواطن اللبناني الذي يعيش الأمرّين خصوصًا على الصعيد المعيشي حيث يستفيد التجار من حماية أصحاب النفوذ لفرض أسعار باهظة جعلت من بيروت تحتل المرتبة الأولى(حسب موقع متخصص بكلفة المعيشة حول العالم Numbeo.com) شرق أوسطيًا وتُنافس المدن الأميركية من ناحية غلاء المعيشة، حيث اتت في المرتبة الثانية بعد مدينة سان فرانسيسكو الأميركية في الساحل الغربي للبلاد!